وضعت نفسي في موقع مواطن غير عراقي، هندي مثلا، ورحت أقرأ كلمات السيد نوري المالكي في مؤتمره الصحفي الأخير لأحدد، بحياد تام وعدم انحياز لا إليه ولا إلى خصومه، حقيقة قربه أو بعده عن صفة القائد الحكيم العاقل الموضوعي الصادق المخلص لشعبه ووطنه، والحريص على خدمة المواطنين، جميع المواطنين، دون تمييز بين طائفة وطائفة، أو دين ودين، او قومية وقومية، أو منطقة ومنطقة. ولكي أضع خطوطا حمراء سميكة تحت أهم النقاط التي تكشف معدنه الحقيقي وحجم ديمقراطيته أو ديكتاتوريته. بعبارة أخرى، حجم وطنيته وإيمانه بالديمقراطية والوسطية والحكمة والعدل والعقل، وهل هو ذلك القائد الراغب في التآلف والتفاهم والتناغم مع الآخرين، أم المشاكس الأناني الحريص على التشبث بالكرسي مهما كان ثمنه من دماء أبناء وطنه وأرزاقهم وكراماتهم.
وقبل أن أقوم بهذه الغربلة الموضوعية المحايدة كان علي أن أتذكر أنه في الانتخابات الأخيرة، رغم الشكوك في نزاهتها ونظافتها، لم يتمكن من الحصول على أغلبية مطلقة تمكنه من تشكيل حكومة أغلبية من أعضاء حزبه وحده، دون الاضطرار إلى الائتلاف مع أحزاب وقوى سياسية أخرى حصلت على عدد مقارب لما حصل عليه حزبه القائد، بل إن بعضها حصد أكثر منه من الأصوات.
بعبارة أخرى، إن المالكي، في وضعه القانوني الحالي، شخص مُكلف، بالتراضي وبالتوافق، مديرا إداريا لحكومة ائتلافية تكتسب شرعيتها من استمرار جميع مكوناتها في أعمالها، وتفقد تلك الشرعية بخروج أو إخراج أي من المؤتلفين فيها، صراحة أو بالمراوغة والاستفزاز والتجريح والتخوين والإهانة والمضايقة والعزل والتهميش.
وأول ما وجدته أن هذا المالكي واقعٌ في وهم السلطة المطلقة والظن بأنه متفضل على شركائه في الحكومة لأنه استوزرهم متكرما عليهم بالمناصب التي يشغلونها. وعلى أساس هذا الوهم راح ينتزع الصلاحيات، واحدة بعد واحدة، بالقوة، أو بالخدعة، أو بسياسة الأمر الواقع، أو بعرقلة تعيين أشخاص من أحزاب غير حزبه في المناصب الشاغرة، وخاصة منها الأمنية والدفاعية والمالية والقضائية والإعلامية، لكي يديرها بنفسه، مباشرة أو من وراء ظهر شخص وكيل ضعيف ينوب عن الأصيل، دون مبرر.
ومؤكد أن هذا السلوك يخفي ذاتا متضخمة كثيرا، لابد أن تقوده في نهاية الطريق إلى جنون العظمة والديكتاتورية والطغيان.
وكما كان صدام حسين يعتقد بأنه هو الوطن والوطنية وبأن من يخرج عن طاعته، أو يرفض هيمنته المطلقة المقدسة، خائن ومجرم وخارج على القانون، فنوري المالكي، مع الأسف، سوف يصل إلى نفس هذه القناعة، إن لم يكن قد وصلها، فعلا. وما نعته لمعارضيه في الرأي والسلوك بالمجرمين والإرهابيين إلا دليل على ذلك.
هذا الكلام ليس من عندي. تعالوا معي لكي نقف عند كل نقطة من خطابه الأخير.
1- إن “مبدأ التوافق الذي كنا بحاجة إليه” في الأعوام الماضية انتهى الآن.”
* إذن فهو ينقلب، من جانب واحد، على المحاصصة التي جاءت به رئيسا للوزراء، وهذا أشبه ما يكون بسلوك (تمسكن حتى تتمكن). وهذه كانت عقيدة سلفه صدام في عقده الاتفاقات وتمزيقها عند زوال الظروف التي أجبرته على إبرامها.
2- “إذا لم ننجح في التوصل إلى صيغة تفاهم، فسنتجه إلى تشكيل حكومة أغلبية سياسية”.
* أية أغلبية تلك التي يهدد بها؟ يتكون البرلمان من 325 مقعدا، 91 منها للعراقية، و89 لدولة القانون، و43 للتحالف الكردستاني، و70 للائتلاف الوطني و3 للصابئة والشبك والإيزيديين، و5 للمسيحيين. ( ولا أدري كم بقي الآن لكل منها، بعد الانقسامات والانسحابات المتلاحقة). وكان المنتظر أن تكلف القائمة العراقية بتأليف الحكومة، وإذا ما عجزت فتلكف دولة القانون، ولكن المحزن أن زعماء دولة القانون والمجلس الأعلى والتيار الصدري والفضيلة، وحتى دولة الولي الفقيه ذاتـها، لجأوا إلى القضاء (المُسيس) ليُفتي لهم بأنهم الأغلبية، وبأن مخالفة الدستور جائزة، ومن حقهم تشكيل الحكومة.
ويذكر قراؤنا الكرام أن الانقلاب الدراماتيكي في موقف التيار الصدري، من المعارضة الشديدة لترئيس المالكي إلى القبول الشديد به، هو الذي أحدث هذه الهزهزة والخلخلة والفوضى ومخالة الدستور. ويقال إن السبب الحقيقي لذلك الانقلاب الصدري ليس الضغوط الإيرانية، وحدها، بل هو وعدٌ ناجز من قائد دولة القانون بإطلاق سراح المجاهدين الصدريين (المُدانين قضائيا بالتخريب والإرهاب) في البصرة وبغداد، مع بضع وزارات سيادية وبضع سفارات.
أما المجلس الأعلى فقد ظل يعارض تكليف المالكي، ويحلم بفرض مرشحه عادل عبد المهدي. ولا ننسى غضب رئيسه عمار الحكيم حين حضر أهم قيادييه، وهو هادي العامري قائد منظمة بدر، حفلَ الترشيح التلفزيوني لنوري المالكي، باسم المجلس ونيابة عنه.
ثم جاء حزب الفضيلة، هو الآخر، فبشرنا بانقلابه على معارضته السابقة، وتفضل فطمأننا على وحدة الائلاف الوطني، معلنا أنه على طريق القبول بترشيح خصمه اللدود.
أما الكورد فأمر مبايعتهم لنوري المالكي مرهون بكركوك والبيشمركة والنفط وغيرها من المطالب الثابتة التي لا تقبل أنصاف الحلول.
إذن، والأمر المشكوك فيه اليومن أيضا أن يغامر المجلس الأعلى والتيار الصدري وحزب الجعفري بتحقيق رغبة المالكي في الانفراد بالسلطة وتشكيل حكومة (أغلبية) تعادي شريحتين واسعتين من العراقيين، وبالتالي تعلن القطيعة مع دول جوار متربصة وتسعى أصلا إلى إغراق العراقيين في مزيد من الانهاك والتشرذم والاحتراب.
ولو فرضنا جدلا أن كل شيء سار على ما يرام، وفتح اللهُ على المالكي أخيرا، وولدت حكومة أغليته العتيدة، بعد هذا المخاض الصعب، فهي لن تكون بأحسنَ حالا من حكومته المعطلة الحالية، ولن يكون وزراؤها، أيضا، إلا مفروضين عليه من حلفائه في الائتلاف، بالمقايضة، وليس بقوة الكفاءة والخبرة والنزاهة. ولن يتمكن، كما سبق، من طرد وزير سرق، ولا وزير فسَق، ولا وزير ثبت عجزه عن قيادة عنزتين. وسوف نعود، مرة أخرى، إلى سماع شكاواه المريرة من وزرائه الذين لا يَـقدر على حسابهم، ولا حتى على سؤالهم عما يفعلون.
وعاجلا أو آجلا سيصل الجميع إلى المأزق الأخير الذي صنعوه بأنفسهم لأنفسهم، ويعودون من جديد يبحثون عمن يخرجهم منه بأي ثمن.
3- إن العراق في طريقه للعودة لوضعه الطبيعي والدولي، ويركز على إعادة الإعمار والبناء والاستثمار الأمثل لثرواته التي كانت تعطلها المغامرات التي سببت للشعب العراقي معاناة استمرت حتى بعد انتهاء الدكتاتورية.
* أسأل العراقيين أنفسهم، جميعا، بمن فيهم المرجع الأعلى ونوابُه والناطقون بلسانه، ولا أسأل الأمريكان ولا الإيرانيين هذا السؤال: ما نسبة الصدق والحقيقة في هذا الكلام؟
4- العراق لاتزال لديه مشاكل وقضايا تستحق الأولوية والاهتمام، ومن الطبيعي أن تكون هناك مشاكل، لأنه ليست هناك عصا سحرية للتحول للديمقراطية، ومثل هذا التحول يحتاج لجهود وثقافة وتعميق الفهم.
* أسمع كلامك يعجبني أشوف عمايلك أستعجب. أية ديمقراطية هذه، وأي تحول، ومن أين إلى أين؟ إن الديمقراطية، يا سيدي، ليست عباءة ترتديها ولا حذاء. إنها ثقافة وخلق وسلوك، وأفعال قبل جميع الأقوال، تبدأ من المنزل والأسرة الصغيرة، ثم تخرج إلى الشارع، ومنه إلى السوق ودار الحضانة والمدرسة والجامعة، ثم الوزارة. أما التهديد بالقتل أو بالإقصاء أو بالإقالة أو بالإحالة إلى القضاء أو بالكواتم فهي ديمقراطية. نعم. ولكن على مقاس المتمترسين بحدود المنطقة الخضراء وحدها، فقط لا غير.
5- على الجميع الخضوع لإرادة الشعب وإرادة الدولة، وأنه إذا كانت هناك مطالب فيجب أن تتم عبر مؤسسات وسيادة الدولة، وأن من الضرورات حاليا إعادة النظر في المهام التي بدأت في بناء الدولة.
* هذا هو الوتر الحساس. الخضوع لإرادة الدولة. ولكن دولة من؟ وسلطة من؟ وسيادة من؟
6- “إن المرحلة السابقة كانت تقتضي تفاهمات وتوافقات، وهي الوجه البديل للمحاصصة، أما اليوم وفي هذه المرحلة التي نريد فيها أن نمضي في سياسة دولة، فلن نسمح لأحد بالتدخل في شؤوننا. وغير مسموح بوجود شريك يخدم مصالح دولة أخرى”.
* نتمنى ذلك. ولكن الحقيقة أن العراق اليوم دولة بلا أبواب ولا شبابيك، والرياح تداهم أهلها من كل حدب وصوب. حتى موريتانيا وجيبوتي لها عملاء ووكلاء ومخابرات ونفوذ. وهل ينكر المالكي أنه لم يصبح رئيس وزراء لو العصا الإيرانية الغليظة التي رفعها الولي الفقيه على رؤوس حلفائه في المجلس والتيار الصدري والفضيلة، قبل خصضومه الآخرين؟ وهل ينكر أن لإيران وجودا مدنيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا في العراق يفوق ما كان لأمريكا (الغازية) آلاف المرات؟ أم إن الجمل لا يرى حدبته، والعياذ بالله.
7- إن هناك ملفات اتهام ضد مسؤولين آخرين بعمليات قتل وإرهاب، واعترافات اخرى سُتعرض على العراقيين.
* يعني أننا في انتظار عواصف جديدة وحملات تشهير جديدة وتفجير مفخخات وخراب بيوت، وكأن ما حصل قليل، ونحن في حاجة إلى مزيد. الأمن الحقيقي لا يصان بالتهديد والوعيد، بل بالعدالة الحازمة الحاسمة الصادقة التي لا تفرق بين عضو في حزب الدعوة أو بائع في سوق الخضار. والضرب بيد من حديد، وعلى الملأ ودون خوف ولا خجل، على يد كل من يمس شعرىة من رأس أي طفل عراقي أو شيخ أو امرأة في البصرة أو الناصرية وكربلاء والنجف، كما في الموصل وتكريت وسامراء والرمادي فهو أساس الملك. يا صديقي. وأنقل إليك هنا هذا الخبر:
“ طالب السيد أحمد الصافي ممثل المرجع الشيعي الاعلى في العراق علي السيستاني خلال خطبة الجمعة في مدينة كربلاء السياسيين بالجلوس والتحاور من منطلقات واقعية، وتحمل مسؤولياتهم، بدلا من الجلوس خلف الاسوار المحصنة، غير مبالين بدماء العراقيين الأبرياء التي تسيل كل يوم.
وأضاف ” أن هناك من المسؤولين الأمنيين من يصرح بأن الاجهزة الأمنية كانت تعلم بوجود سيارات مفخخة. وتساءل بالقول “أنا لا أعلم هل إن مثل هذه التصريحات تمثل ذكاء مطلقها أم غباءه؟ فإذا كنتم تعلمون بوجود سيارات مفخخة ستنفجر وتسفك الدماء فلماذا لم تحركوا ساكنا لمنعا”.
وقال ” إن هناك مشكلة في عقول بعض الساسة المرضى، والذين يتحملون مسؤولية الدماء التي تسيل على ارض الوطن، نتيجة طريقة ممارساتهم غير المقبولة”.
” إن هؤلاء يكتفون بذلك في محاولة لخداع الشعب، لانهم لم ُيقدموا بدلا من ذلك على أي عمل او إجراء للوقوف بوجه الاعتداءات او منعها”.
8- إن المبادرة العراقية ازاء سوريا تستهدف ارضاء الشعب السوري وحقه في الحرية والديمقراطية، وليست منحازة لا للمعارضة ولا النظام.
* هذا كلام مردود على صاحبه، على الفور. هل منت نائما، من شهر آذار الماضي إلى اليوم، ولم تشاهد ولم تسمع بماكنة الذبح الحلال البعثي السوري وهي تدور في كل مدينة وقرية، وفي كل زقاق ومسجد ومدرسة ومستشفى؟ ولماذا لم تطلب من حليفك وحليف حليفك أن يكف يده عن أخوتك في الدين والعروبة والجيرة والإنسانية يا سيد نوري المالكي؟ هل تحلف على أن حكومتك، بقيادتك الحكيمة، لا تمد شرايين الاتصال من طهران عبر العراق إلى سوريا، لتغذية النظام القاتل بالمال والسلاح، وربما الخبراء والمقاتلين، منذ بدء المجزرة وإلى اليوم؟
9- إن منظمة مجاهدي خلق متهمة دوليا بالارهاب، ولاينسجم وجودها مع سيادة العراق ومع دستوره الذي يرفض وجود اي منظمة إرهابية تهدد أمن الجوار، مثل حزب العمال التركي ايضا.
*- كلمة حق لا يراد بها الحق. فمعسكر أشرف يضم إيرانيين معارضين، كانوا مسلحين، وقد نزع سلاحهم بالكامل، وأصبحوا سجناء خلف جدران المعسكر، محاصرين بكل أنواع الحراسة والرقابة العراقية والإيرانية الفاعلة.
ومعروف أن شهوة الانتقام لدى قادة الحرس الثوري الإيراني هي التي تفرض على سلطات بغداد أن تأمر بكل ما يشفي غليلها، حتى لو كان فيه سواد وجه العراق، كدولة وشعب وتاريخ ومصالح.
ثم، أليس من صفات الزعامة والريادة والقيادة، أيها الرئيس، أن تستشرف ملامح الغد قبل وقوعه، أكثر من الذي فات؟ أليس احتمالا قويا أن تدق رياح الحرية والديمقراطية تخوم الباب العالي في طهران، فتأتي بما لا تشتهي أنت ومشايعوك، فيعود بعض (مطاريد) معسكر أشرف إلى وطنهم، ليخرج منهم الرئيس والوزير والسفير والقائد العسكري الجديد، تماما كما حدث مع (مطاريدكم) على أيدي الأمريكيين الذين انتشلوهم من مقاهي الغربة والجوع والخوف إلى ما هم فيه اليوم من سلطة ومال وجبروت؟ حينها سيسألك العراقيون، لحساب مَن أقحمت شعب العراق كله في عداوة غبية مع شعب إيران الشقيق والصديق والعريق؟ ولحساب من جعلت من إيران الجديدة سكينا في خاصرة جارها الصغير، العراق؟
10- وعن مشكلة الميناء الكويتي كان المالكي يأمل في عدم توسيع المشكلة، وأن تبقى محصورة بين العراق والكويت، محذرا من التخندق في هذه المسألة.
– أين الحنكة والشطارة يا دولة الرئيس؟ كيف تتوقع، أنت وأعوانك الخبراء والعلماء ووعاظ السلاطين، أن تتخلى دول الخليج كلـُها عن الكويت؟ خصوصا وأن هناك شكوكا بأن مشكلة الميناء مفتعلة، بأوامر خارجية، قبل أن تكون عراقية كويتية خالصة.
11- الخلاصة هي أن نوري المالكي أخفق في ترويض نفسه الأمّارة باحتكار السلطة والقوة والجبروت، وأضاع فرصة انسحاب العساكر الأمركية من العراق ليدشن عهدا عراقيا جديدا يحتضن الجميع، خاليا من المفسدين والمحتالين والمزورين، ويبدأ رحلة العمل والبناء، ويتعالى على نوازع الانتقام والمشاكسة، ويمد جسور الود والوفاق لمن خالفوه، قبل من وافقوه، لا أن يتعجل في رمي سهامه الطائشة ذات اليمين وذات الشمال .
إن الواضح الجلي أن نوري المالكي قرر، وبشكل نهائي، أن ينزع عن وجهه قناع الحياء، ويرمي عن ظهره أثقال الديمقراطية المزعجة، ويجاهر بلغة المكاسرة والمقاتلة، دفاعا عن كرسي من خشب منخور، حتى لو هدَّ الوطن كله على رؤوس ساكنيه. لقد عاد إلى حجمه القديم، وإلى طبعه الأصيل.
لم يستطع أن يرقى ليصبح زعيما لجميع العراقيين، بل اختار أن يظل رئيسا لحزب هزيل بحجم حزب الدعوة، وبطانة ضيقة من مرافقيه ومعاونيه، ومملكة صغيرة بحجم الكف، مع الأسف الشديد.