28 سبتمبر، 2024 3:22 ص
Search
Close this search box.

مرأى

لمَ تزحمُ محطاتُ القُطر بهذا الكم الهائل من البشر، ولا سيّما العسكر، ببدلاتهم الخاكية؟  فلا أكاد أجدُ مكاناً ، بل يتعذر عليّ ايجادُ موطيء قدم لي. أجري جوارَ العربات ، فتمضي قاطرةٌ، وثانيةٌ، وثالثةٌ، وأنا باق. لكنّ رابعة ًمرّتْ بطيئةً ، أشار اليّ سائقُها: أسرع، والّا ستُمضي ليلتَك في العراء.  تشبثتُ بأحد الأبواب، وبصعوبة فتحتُه، وجدتُ مقعداً شاغراً في آخر العربة، كان رجلٌ نائماً مادّاً رجليه ، فأزحتُهما وأقعيتُ، فتح عينيه مستنكراً ودمدم بكلمات غير مفهومة، صرختُ فيه : انّه مكاني، فصمتَ ، أغمض عينيه، مثلما أغمضتُ عيني، ثمّ علمتُ أنّ قاطرتي ذاهبةٌ عكس اتجاهي، فلم أندم ، بلْ لم تصلْ الى بُغيتها، وما تمرأى لي كان محضُ خيال خلب. المدينة مفتوحة ، تغتني بنهار ساطع، الشاي الذي شربته في المقهى منحني نثيثاً من الصحو، الصحيفةُ التي قرأتُ ذاتُ موضوعات بائسة مكرّرة، ما عدا صفحتها الثقافية، فيها مقالة شيّقة عن مصطلح الحداثة. تختتمُ بهذه العبارة:  الكشفُ والبحث والقبضُ على غير المألوف والمُعتاد هو لبُّ التحديث .. خلال الطريق الى المحطة، رأيتُ امراةً تقف لصق الحائط المُحاذي للرصيف وهي تُدخن، لعلها تنتظرُ أحداً يوصلها الى مكان ما، تبدو حقيبتها ثقيلة الى جوارها. المحطةُ مزحومة كعادتها، أغلب جمهورها من العسكريين المستائين تتورّمُ أفواهُهم بالشتائم. تُرى الى أين يُساقُ بهم، أيّة مهمة جنونية جهنميّة في انتظارهم؟ كأنّ خوافقَهم تقولُ : حتامَ تستمرّ شهوةُ القتل، اليس من نهاية لسفك الدماء؟ ترملتْ نساؤنا، وتيتمَ أطفالنا، وظلّ عيالُنا بلا مُعيل ..                                                      
فجأةً يجيءُ أبي من مكمنه المنسي، كنتُ جائعاً ، فجالَ بي في دروب ملتوية مجهولة. الى أين تأخذني؟ سألتُه، الى بيتنا : أجاب، لكنّ امراته رفضتْ ايوائي واطعامي ، غادرتُه ،           ودّعني دمعُ عينه .
هنا مكانٌ غرائبي لم يسبق لي أن ولجتُه، والشجرةُ العجيبة أشبه بصفصافة، تتدلّى من جذعها المتين باقاتُ زهر حمراء، ، استرعت انتباهي واحدةٌ تتهدّلُ ، حاولتُ اعادتها الى مكانها فلم أفلح، كأنّي بها تقولُ : خذني معك، حملتها ومضيت، ثمة َ طفلةٌ تجري جوار أمّها، استوقفتها: لستُ بحاحة اليها، خذيها وضعيها في مزهرية، أنّها جميلة، أمطرتني الأمُّ بوابل من الشكر.                                                                                  
…………….                                                
أنا محضُ جوّال بلا هدف، هائمٌ على وجهي، آنَ لي أن أتوقف، اختفي، ربّتما ينتظرني صقعٌ آخر يحتضن سخونة َحُمّاي…                                                             

أحدث المقالات