مقتبس وبتحفظ وامانة
لم أكن متفائل كثيراً بأني سأصل مع الدكتور ابراهيم الجعفري – السياسي البارز ورئيس الوزراء السابق ، الى أقصى صورة في ذاكرته!.. ليس لأن السياسي لفرط سيره على حافة السكين تحتقن جميع خلاياه بالأمل، فيتجه بمخيلته الى المستقبل أكثر من انشغاله بالماضي.. وانما كوني مازلت استحضر اقصى صورة له في ذاكرتي..
كان ذلك في الايام الأولى من شهر مايس(2003) حيث كانت بغداد مازالت تتنفس البارود ودخان الحرائق، وتعيش صدمة أبنائها الذين استباحوها، فقد علمت من أحد قادة الأحزاب الكردية ان اجتماعاً سيعقد لزعماء سياسيين عراقيين في فندق برج الحياة ببغداد، وهم ما كان يطلق عليهم الاعلام بـ(جماعة الستة)، لتقرير مصير البلد الذي كان غامضاً.
في الزمان والمكان المعينيين وبطريقة تولى ادارتها (الصديق الكردي) تسللت الى قاعة الاجتماع متخفياً بين صديقي وقامة هوشيار زيباري (وزير الخارجية حاليا) وجلست في الصف الخلفي، قريباً من طاولة الاجتماع، وصادف جلوسي خلف رجل هيمن على الاجتماع بفصاحة لسانه ووضوح أفكاره وحرقة اعصابه التي كان يجاهد أن لا تتحول الى انفعال حتى بدت المسافة بينه وبين الاخرين واضحة وبدا كانه هو الذي يرأس الاجتماع ويديره بالرغم من ان الاجتماع بلا رئاسة، ولم أصبر كثيراً مددت عنقي وملت برأسي لأهمس في أذنه:
* من حضرتك؟كان السؤال مفاجئ وليس في وقته، حتى خلته سيرفض الاجابة، وربما يعنفني لكنه اجاب بهمس أيضاً..- أبو أحمد الجعفري.. بعد الاجتماع سنكمل..والتقينا بعد الاجتماع فعلاً وزاد يقيني بأن هذا الرجل لا يتذكر الماضي بقدر اتجاهه للمستقبل وتمنيت ان أكمل مهمتي بإثبات هذا التصور ودعاني للقاء في منظقة زيونة حيث كان يسكن، لكن مشاغلي حرمتني من ذلك!.. فسألته قبل ان نبدأ هذا الحوار؛ هل تتذكر الموقف؟..- أتذكر الاجتماع لكن لا أتذكر ما حدث بيننا..* أخشى انك لا تستطيع أخذي الى أقصى ذاكرتك؟- سأذهب معك.
* ما أقصى صورة تحتفظ بها للطفل الذي كنته ابراهيم عبد الكريم حمزة المولود في العام(1947) بكربلاء؟- صورة تؤطرها ثلاث ذكريات عندما كان عمري أربع سنوات، وفاة والدي وكيفية جلوسه مع الوالدة والعائلة، والثانية لا أستطيع البوح بها لأنه يتملكني الحياء عند ذكرها وقد تنالني شبه المبالغة، والثالثة محاولة دخولي المدرسة الابتدائية، اما بالنسبة للوعي فتشكل من ثلاثة مصادر ايضا هي مقهى حسين باقر ومقهى حجي عبد الأمير حيث يتردد عليهما كبار السن وكنت اسمع منهما القصص التي يطالعونها فتشدني، اضافة الى السوق والمنبر الحسيني.
* اول جملة سمعتها في المدرسة؟- عندما اخذني أخي الى المدرسة رفضني المدير قائلا لأخي( اخذه وروح قابل عندي روضه..) وكان هذا اول كلام سمعته في المدرسة، بعد ذلك ذهبت مباشرة الى السوق لأعمل في دكان شخص يدعى محمد الشامي، وأهل السوق ينادونه (حُمد) فكان عالم السوق الذي فتح عيني على أشياء كثيرة حيث جلسات اغلب الشخصيات في الدكاكين والاستماع الى أحاديثهم.
* هل كان والدك يبيع القماش؟- كلا.. كان من سدنة الحضرة الحسينية.
الهروب من الحضرة العباسية—الزميل حسين علاوي الذي رتب هذا اللقاء كان حاضراً معنا، وأشار الى السيد الجعفري ان ذاكرته تمتد الى أبعد من هذا العمق، حيث جلسات التعليم أو ما يعرف بـ(التكية) وبصعوبة تذكر الموقف:- هذا صحيح ولكني تركت الحلقة في أول يوم ذهبت فيه.
* لماذا؟- لأني شاهدت الشيخ كريم الذي يدير الحلقة يضرب أحد الأطفال بقسوة.في العام(1953) تم قبولي في مدرسة السبط الابتدائية بعد ان استوفيت شرط العمر.
* هل تتذكر أول يوم ذهابك الى المدرسة، ومن الذي أخذك؟- أخذني أخي الأكبر، فكانت أمي توصيه بالحرص عليّ لأنني أصغر أخوتي الذين يبلغ عددهم(12) ولداً وبنتين.. وكنت ارتدي دشداشة.
* هل تتذكر أول معلم قابلته؟- لا أتذكر صورة المعلم أو اسمه لكنني أتذكر كلمات الوعظ والنصائح.
* ما الذي استهواك من الألعاب والاصدقاء في المدرسة؟- كنت ألعب المنضدة ولكن أشبه ما يكون بالخفاء، فكانت والدتي تمنعني من لعب كرة القدم والسباحة لأن الأولاد الذين يلعبون الكرة أو السباحة يتبادلون ألفاظاً غير جيدة.
* من هو أول صديق لك في المدرسة؟- حسون محمد علي، فقد كان مهذباً وكانت عندي حساسية من ذوي الألفاظ الفاحشة، وهذا لا يعني انني كنت منعزلاً فقد كنت صاحب أوسع علاقات مع الالتزام بتوصيات أمي ومخاوفها عليّ.. مدرستنا ضاجة بالعلاقات وكانت تسمى (أم العكاريك) اي الضفادع وذلك لكثرة الضفادع فيها التي تجتذب الأطفال للعب، لكنني كنت بعيداً عن هذه الاهتمامات حيث ألبس دشداشتي تحت البنطال، وحالما ينتهي الدوام وبباب المدرسة أخرج الدشداشة من البنطال وأذهب الى السوق للعمل في دكان أخي الذي افتتحه لاحقاً.
* وأين تفتح وعيك في السوق أم في المدرسة؟- اتجهت الى السياسة في السوق، وتحديداً في العام(1958) عندما حدثت ثورة(14) تموز فقد انشغل السوق بالحدث وامتلأ دكاننا بالمتحاورين، وسمعت لأول مرة كلمات ثورة وجمهورية وملكية وانقلاب وحكومة ورحت أسأل عن كل مفردة أسمعها فيشرحون لي معناها، وانتبهت الى تأثير السياسة على السوق والتجارة، فقد أحدثت ثورة(14) تموز عصفاً كبيراً.
* يقال انك بدأت حياتك السياسية شيوعياً؟- أبداً، لم أكن على اية نوع من العلاقة مع الشيوعيين.. دعني أقول لك انني لم أدخل السياسة برغبتي، فقد وجدتني في وسطحها، لأن مدينة كربلاء كانت تعيش آنذاك ما سمي بـ(ألمد الأحمر) وقد استهدف هذا المد احد أخوتي ولم ينجحوا، كما انني صادف ان شاهدت معركة بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي طعن فيها أحد الاشخاص (فيصل الشامي) بسكين وفي المساء ذهب سيد يحيى صاحب مكتبة الأهالي الى كاظم الرماحي صاحب مكتبة الحزب الشيوعي، وتحاورا ورجعت الأمور الى وضعها الطبيعي، وهذه كانت مفاجأة بالنسبة لي لأنني كنت أعتقد ان المعارك والثارات سوف تستمر وعندما شاهدت المتخاصمين معاً تساءلت كيف حدث هذا، فيبدو ان احد الاشخاص قد أخذني على قدر عقلي وقال لي (بابا دروح.. هذه سياسة انت ما تفهم بيها شي)، ومنذ تلك الحادثة تعلمت ان السياسة هي الحوار، وبالحوار يمكن حل كل القضايا والمشكلات.
* وماذا اضافت المدرسة الى وعيك؟- كما قلت لك ان المدينة كانت تعيش مداً شيوعياً، الى حد ان احدى المدارس الواقعة بباب بغداد وتسمى مدرسة الأحرار كانت ترفع علم الاتحاد السوفيتي على بنايتها لأنها مغلقة للشيوعيين، في هذه المدرسة دعاني مديرها (علي عجام) ذات مساء وقال (عندي شغل وياك) وكنت أنا ضمن مجموعة قليلة من الطلاب لم تنتم للحزب الشيوعي، وأجلسني بقربه كنت اساعده بلصق صور هويات امتحانات البكلوريا وقال لي: أنت شاطر بالدروس لكن بالتاريخ ضعيف، فأجبته ان السبب هو مدرس التاريخ وليس أنا، لأن أي موضوع بالتاريخ يربطه بالنهاية بالاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية والثورة البلشفية وختم حديثه (ولو هذا مو موضوعنا). ومن ثم راح المدير يروي قصة حيث قال انه بعالم الرؤيا كان يزور الحسين وجاءت الشرطة وأخرجت الجميع ومن ثم جاء رجل مهيب وضخم وقال لهم ابقوه!، فمن هو هذا الرجل المهيب برأيك؟.. فأجبته تريد ان تقنعني ان الرجل المهيب هو الحسين، فكيف ينقذك وأنت شيوعي؟..
بعد أيام طلب مني معلم التاريخ الوقوف والاجابة عن أسئلة لا علاقة لها بالمنهج وصعبة جداً لا أعرف اجابتها، فراح يضربني بشدة بيديه ورجليه ولمدة طويلة، فعرفت ان المدير أخبره بكلامي.. وقبل ذلك انتقلت من مدرسة السبط الى مدرسة برير وهناك أيضاً فاتحني أحد المعلمين بالانتماء الى منظمة الشبيبة الديمقراطية، فقلت له هذه واجهة للحزب الشيوعي وأنا لا أنتمي للحزب.
* هل لهذا السبب انتميت الى حزب الدعوة ومتى؟- لا طبعاً،.. لكن ترسخت في ذهني فكرة في السياسة، هي الفصل بين السياسة والسياسيين، والفكر والمنتمين اليه، بين الليبرالية والليبراليين وبين الشيعة والتشيّع والسنة والتسنّسن وهكذا بالنسبة الى جميع الافكار.. فانا لست ليبراليا لكن في الليبرالية أشياء جميلة، وكذلك بالنسبة للشيوعية.أما بالنسبة للانتماء فقد تم مفاتحتي في العام(1964) للانتماء الى حزب الدعوة وقد سألت المرجع السيد محسن الحكيم حيث كنت مرتبطاً به: هل يجوز الانتماء الى حزب ديني؟ فقال لي: هل تعرف قادته؟، أجبته: لا، قال لا يجوز، وفي العام(1966) فوتحت مرة أخرى وانتميت.
* ما الذي تغير لكي تتخلى عن رأي السيد الحكيم؟- النضوج والدراسة التي أفادتني بأن هذه الأمور لا تخص المرجع الديني.
* وهل استمرت علاقتك بالمقهى؟- كنت أرتاد مقهى في منطقة (باب بغداد)، ومعي أصدقاء كثر منهم مهدي لطيف وعباس مهدي ضياء.* في المقهى ألعاب مثل الدومينو والطاولي.. هل لعبتها؟- لا.. كنا نتبادل قراءة الكتب وأحياناً لعب كرة المنضدة.* لعل من أهم اهتمامات الشباب في مثل ذاك العمر السفر والحب.. ما حصيلتك منهما؟
– أول مرة سافرت فيها كانت في العام(1963) ضمن قافلة خرجت من كربلاء الى الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان، وما تبقى منها في الذاكرة هو تلك الأيام التي قضيتها في القدس، أتذكر انني أول دخولي بيت المقدس انحنيت وقبلت باب بيت المقدس، فوقف رجل هيبة بيده عصا مفضضة راح يضرب بها الباب بانفعال وهو يقول لي: ماذا تفعل هذا خشب لماذا تقبله، هذا لايجوز وراح يسمعني كلام كثير، فاعتذرت منه أول الأمر، فهدأ قليلاً ومن ثم قلت له هل تسمح لي أن أدافع عن نفسي، فسألني: من أين أنت، أخبرته انني من كربلاء ورحت أقرأ له القصيدة المشهورة..
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وماحب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار
ومن ثم شرحت له الاسباب والدوافع وكان حواراً جميلاً..وعلى جبل الخليل كنت أصلي، وعندما انتهيت من صلاتي وكبرّت ثلاث مرات رافعاً يدي، صاح من خلفي رجل: باطل.. صلاتك باطلة.. قلت له لماذا؟ قال لأنك تقول خان الأمين.. خان الأمين.. فقلت له أنا لأول مرة أسمع هذا الكلام، فقد قلت الله أكبر ولم أقل هذا الكلام، ودخلنا حواراً معمقاً، ولقد استفدت من هاتين الحالتين بمعرفة الآخر وكيفية الحوار معه بالمنطق والعقل أما في بيروت فقد صار عندي تناقض، وعرفت انها بوابة للفساد، كما عرفت ان عدة شخصيات شكلها شيء وباطنها شيء آخر، كان الكثير من كبار السن والمكانة ظهروا على غير حقيقتهم وفعلاً ان السفر يرفع الحجب، لذلك يقال عن المرأة غير المحجبة سافرة، وعندها قررت الرجوع الى كربلاء قبل القافلة لكنني بقيت أميناً على سمعتهم امام عوائلهم ومعارفهم.
* والحب؟- لم تكن لي أية علاقة باستثناء زوجتي التي تعرفت عليها في كلية الطلب جامعة الموصل، وهي من عائلة معروفة من بيت القزويني فتقدمت لخطبتها وتزوجتها.
* على ذكر الموصل، كيف واجهت الحياة فيها، وأنت الخارج من كربلاء؟- لقد أحببت الموصل كثيراً، بالرغم من الصعوبات التي واجهتني في البداية، أولى الصعوبات هي المقابلة التي أرادوا ان يستفزوني فيها، فقد سألوني في البدء أنت من أين؟ قلت من كربلاء، قال هل تتكلم التركمانية، قلت له من كربلاء، وليس من كركوك، فقال لي أنت من كربلاء وتؤمن ان الرسول سماها قبل ان يولد الحسين وتريد أن تصبح طبيباً؟!، وسألني عن أهمية كربلاء وفي النهاية سألني ما هو عكس كربلاء، قلت له: سامراء، فقال صاحبه الآخر في اللجنة: ماذا يقصد؟ قال له سوف أفهمك لاحقا، وقد تم قبولي حيث اتضح انهم يريدون ان يختبروا قوة اعصابي.
أما الصعوبة الثانية فقد صادف ذهابي في رمضان، وكنت قد نزلت في الغرفة(18) من فندق لبنان، وكما تعرف ان مجتمع الموصل محافظ وقبل الفطور تفرغ الشوارع، ولم أجد شيئاً أفطر به من طعام وأنا الخارج من بيت لطقوس رمضان فيه مكانة خاصة، وقد عانيت كثيراً في تلك الايام، لكنني بعد ذلك تعرفت على المجتمع الموصلي وكان مصدر ثراء اجتماعي لي وأحببتهم كثيراً وصارت لي علاقات طيبة مع الكثير منهم استمرت حتى بعد ان توليت رئاسة الوزراء.
* هل ذهبت الى الموصل بمفردك؟- أخي أبو شيماء هو الذي أخذني، فقد كنت مدللاً كوني الاصغر عمراً ومن عائلة ثرية، حتى انني لم أنزل في الأقسام الداخلية، وانما نزلت في شقة بشارع الفاروق.* والوظيفة؟- بعد التخرج طلبت التعيين في النجف بالرغم من درجاتي تسمح لي التعيين في كربلاء، وذلك للابتعاد عن المراقبة الأمنية بعد ان أخبرني بعض الاصدقاء بأن هناك مراقبة شديدة عليّ في كربلاء وأغلب هؤلاء الذين حذروني استشهدوا على يد النظام لاحقاً، فتم تعييني طبيباً مقيماً في مستشفى الفرات الأوسط في الكوفة، وذلك للأبتعاد عن مراقبة الأمن، وللقرب من زوجتي التي تعينت في غماس (قرى وارياف) وصرت رئيس مقيمين في المستشفى نفسه قبل أن ألتحق بالخدمة العسكرية وتحديداً في مركز الطبابة العسكرية ببغداد، ومن هناك نقلت الى قوات الحدود حبث تنقلت خلالها بين مندلي وعرعر وميسان وكنت خلال هذه الفترة مراقب بصرامة من قبل الجهات الأمنية لكن علاقتي الجيدة مع الضباط كانت وحتى الذين لهم علاقة بالبعث ساعدتني كثيرا، فقد كانوا يلمحون لي بالكثير من الاشياء التي تحميني، وكان هناك تناقضاً شديداً لدى بعضهم مثلاً آمر وحدتي كان أكثر الذين يكتبون تقارير أمنية ضدي لكنه في الوقت نفسه لا يثق بطبيب سواي لعلاج بناته وعائلته.
بعد السقوط جلبت لي أضابيري الأمنية واطلعت على جميع التقارير المرفوعة ضدي، لكنني مع ذلك بعد تسلمي منصبي أرسلت عليهم جميعاً وعملت لهم دعوة وأرسلتهم الى الحج وتفقد عوائلهم بما فيهم الآمر الذي كان يكتب ضدي.. وكان قد توفي رحمه الله.
* هل أنت متسامح؟- سأروي لك قصة، أثناء فترة مجلس الحكم، زارني وفد من شيوخ ووجهاء محافظة صلاح الدين وقد جلبوا لي هدية عبارة عن ملابس عربية كاملة عقال وغترة ودشداشة وعباءة وحتى الشحاطة وجلسنا طويلاً، وبعد خروجهم انفرد بي بعضهم وقالوا، ان هناك بعض الأشخاص من المحافظة كان بودهم أن يأتوا معنا لكنهم كانوا يخشون لأنهم كانوا قد لاحقوك أو كتبوا ضدك، فقلت لهم تلك مرحلة انتهت وأنا مسامح لكل من اذاني.
* لكني أراك عنيفاً بعض الشيء؟- أبداً..* هل تعاركت في صباك أو شبابك؟- تربيتي الدينية وعائلتي لم تسمح لي بذلك.* هل يعقل انك لم تتعارك ولا مرة؟.. ضحك وأجاب..- تذكرت.. ذات مرة في مرحلة الاعدادية.. كنت جالساً في الحافلة وخلفي امرأة وبنتها، ولاحظت ان البنت تندفع شيئاً فشيئا باتجاهي حتى كادت تلامسني فالتفت ووجدت ان الشاب الذي خلفها يضايقها فتندفع باتجاهي، فنهضت من مكاني وانهضت الشاب وأوسعته ضرباً، وهذا لا أعتبره عنفاً لان ليس كل قتال أو عراك نسميه عنفاً، والا هل يمكننا ان نطلق على الامام علي (ع) صفة العنف لأنه قاتل أعداء الاسلام بضراوة؟!
* آخر محطة لك في العراق؟- بعد تسريحي من الخدمة العسكرية تعينت في ناحية سيد دخيل وكنت أول طبيب يدخلها في تاريخها فهي منطقة كأنها خارج العصر لا يوجد فيها شارع واحد لكنني أقمت علاقة رائعة مع أهلها الطيبين امتدت الى المناطق القريبة من الأهوار، وذلك في العام(1977) ومازالت ذكرياتي مع أهلها جيدة لذلك أوليتها عناية خاصة أثناء وجودي في رئاسة الوزراء، أما خروجي من العراق فكان في(7) شباط(1980) الى سوريا ومن هناك الى ايران.
* أين كنت عند دخول القوات العراقية الى ايران؟- في مستشفى الشلامجة على الحدود.* وماذا شعرت في تلك اللحظة وأنت ترى القوات العراقية تتدفق الى العمق الايراني؟- كنت أنزف من الصوبين.. انزف على بلدي الذي ستحرقه الحرب بسعيرها، وعلى الناس الأبرياء في القرى الحدودية التي استباحها الجيش من اغتصاب للنساء وهتك البيوت بطريقة وحشية لايمكنك تصورها، علماً انهم من العرب وهذه قضية لوحدها مازالت بعيدة عن أعين الناس.* في لحظة تنصيبك رئيسا للوزراء وأنت تتجه الى المنصة بماذا كنت تفكر، وماذا حضر في راسك من كل هذا الماضي؟- كنت مهموماً بالشعب كله كيف سيعبر الى للمستقبل.* ولا حتى والدك أو والدتك أو اصدقائك الشهداء؟- لم ينفرد أحد باهتمامي في تلك اللحظة، لكنني بعد ذلك تذكرت الجميع من أساتذة وزملاء وأصدقاء وكنت أدعوهم الى مكتبي أو أزورهم وأسهل أمورهم.* ما أهم شيء أثارك في ذكرياتك معهم وانت في حال غير الحال السابق؟
– في الدراسة المتوسطة كان عندي صديق اسمه عبد علي حسن جلاب من أهالي شثاثة كان يسميني (أبو خلدون) وفي لحظة غريبة قال لي: أبو خلدون اذا صرت رئيس العراق أطلب منك شيئاً هل تحققه لي؟ وهذا الصديق أصبح مدرساً وذهب الى طرابلس في التسعينيات بليبيا، وسقط من بناية عالية هناك ومات، وقيل انه ألقي به من البناية ولم يسقط وبقي وضعه غامضاً،.. وقبل أربعة اشهر اتصلت امرأة بمكتبي وقالت لهم انها زوجة فلان وتريد أن تراني، واستدعيتها على الفور وقابلتها هنا لكنها لم تطلب شيئاً برغم محاولاتي الاطلاع على احتياجاتها وتلبيتها وما قدمته لها بسيطاً جداً وبإلحاج مني.
* هل تعتبر هذه نبوءة من صديقك الراحل؟- ليس هو فقط من تنبأ لي بمستقبلي، هناك الكثير من الوقائع والقصص التي تشبه هذه الحالة لكني لاأريد ذكرها فقد لايصدقها الناس.* هذا يعني انهم كنت تملك صفات القيادة منذ الطفولة؟- في الدراسة كانوا دائما يختاروني مراقبا للصف، وفي الوظيفة برغم اني الأحدث بين زملائي فقد تم اختياري رئيس مقيمين.
خبز الجعفري-الحديث مع السيد ابراهيم الجعفري الانسان والقائد يتصل ولا ينقطع فقد استمر نحو أربع ساعات اقتطعنا منه حديث السياسة وبعضاً مما لم يرغب الحديث عنه،والذي يلتقيه لايخطيء قضيتين في شخصيته، الأولى تواضعه وتهذيبه العالي في اتعامل والحديث، والثانية سعة ثقافته وغزارة معلومات،ولذلك عندما اصرّ على أن نتناول طعام الغداء معه كان مبعث سرور لنا لمعرفة اشياء جديدة عنه، وحال جلوسنا الى مائدة الطعام ناولني رغيف خبز صغير حار وشهي وقال لي: (هذا الخبز يسمونه الشباب خبز الجعفري لأنني أشرف عليه هنا وأعطيهم ملاحظات من وضع السمسم والحجم وطريقة الشواء)، فعلاً كان لذيذاً، وتمنيت ان أتناوله بعد الغداء مع الشاي، لكن حضور أعضاء وفد التحالف الوطني الذي كان منشغل بتشكيل الحكومة حال دون ذلك، وربما عرف السيد الجعفري فقال مبتسماً: ها.. اضطهدوكم .. هكذا هـــــــــــــم أنا أيضاً يضطهدونني دائماً.