أتصل بي معالي السيد وزير التجارة (الدكتور محمد الجبوري) في نهاية عام 2004م وابلغني بأن هناك مسؤولين أمريكان يرغبون في زيارة الشركة والتعرف الدقيق على عملها وأن مسؤولين من السفارة الأمريكية في بغداد سيتصلون بي للتمهيد والتنسيق لهذا اللقاء وعلي أن أكون مستعداً لهذا اللقاء المهم !. وفي نفس اليوم أتصل بي ممثل السفارة الأمريكية في بغداد لتحديد موعداً للقاء وتنسيق بعض الإجراءات الأمنية الضرورية له وفعلاً حددنا موعداً وتعمدت أن لا يكون قريباً رغم إستعجاله للقاء المهم هذا! ولما طلبت منه توضيحاً عن طبيعة اللقاء ومحاوره ومستوى الزائرين قال لي أن اللقاء يتعلق بطبيعة عمل الشركة تحديداً وبعض المعلومات الخاصة بها أما عن مستوى الحضور فساتعرف عليهم في حينه. فالقى في روعي أن اللقاء خطير وأن مستوى الحاضرين رفيع لذا حرص على كتم شخصياتهم عني لدواعي أمنية.
وعلى الفور طلبت عقد إجتماع عاجل لهيئة المديرين في الشركة وابلغتهم فيه بإن هناك إجتماع خطير مع مسؤولين أمريكان لبحث واقع الشركة وكيفية تطويرها وغالباً سيكون تحت باب إعادة إعمار العراق أو من المنحة الأمريكية وطلبت من كل الحاضرين إعداد الدراسات اللازمة لإعادة إعمار الشركة وتطويرها وفق أحدث الأساليب والبرامج العلمية لتقديمه للوفد الأمريكي الذي جاء لدراسة عمل الشركة ! وفجاءة إعترض أحد السادة المدراء موضحاً رأيه بأن نبعد ما يتم إستحصاله من الوفد الأمريكي عن صندوق إعادة إعمار العراق لأننا بصدد التفاوض لأخذ حصتنا منه دون الحاجة إلى تدخل الوفد الأمريكي هذا وعلينا أن نركز طلباتنا على أمور أخرى إضافية من غير بنود إعادة إعمار العراق . واخيراً حددنا موعد للإجتماع القادم (تعمدت أن يكون قبل يوم من موعد اللقاء) لمناقشة مقترحات مدراء الأقسام وأرائهم وطلبت منهم تحضير كل هذا مكتوباً ومدعماً بالوثائق والتفرغ والإستعداد الكامل لهذا اللقاء الخطير! .
وأنعقد إجتماع هيئة المديرين الذين حضروا ومعهم ملفاتهم و وثائقهم وخرائطهم وبدأنا نقاش المقترحات والأفكار لكل قسم من الأقسام وبدانا من قسم المخازن الذي أكد مديره بإصرار كبير على أهمية تزويد المخازن باحزمة ناقلة للبضائع تقوم بنقل وشحن البضاعة من أرضية المخازن إلى الناقلات وكذلك تزويد المخازن بأنظمة رقابة الكترونية شديدة الحساسية تقوم بمراقبة المخازن على أمتداد أربعة وعشرون ساعة متواصلة إضافة إلى التنبيه عن أي مخاطر او حرائق يمكن أن تهدد المخازن كما أصر على تزويدنا بأنظمة إطفاء الحريق الأوتماتيكية ورافعات شوكية امريكية صغيرة ومتطورة إضافة إلى طلبات أخرى كانت مخازننا الكثيرة بحاجة اليها وقد عمل جرداً دقيقاً بإحتياجات كل مخزن من مخازن الشركة على أمتداد محافظات العراق كافة وقدم ملف ضخم بتفاصيل كل ذلك الأمر الذي أثار خشية بعض المدراء بإن ضخامة ما يطلبه السيد مدير المخازن قد يؤثرعلى طلباتهم إلا انني طمأنتهم أن مستوى الإجتماع المرتقب عالي جداً والأمريكان أبدوا أهتماماً كبيراً بهذا الإجتماع لذا علينا أن نقدم طلباتنا بالشكل الذي يناسب هذا المستوى الرفيع! ؛ ومع هذا إذ أعترضوا يمكننا تخفيض طلباتنا في حينه!. وطلب مدير النقل والشحن تزويده بأنظمة رقابة وإتصالات وتتبع عبر الأقمار الصناعية وكامرات لشاحنات القسم المنتشرة في كل إرجاء العراق إضافة إلى ورش صيانة لها متنقلة وثابتة وبعض الشاحنات الأمريكية الضخمة التي يمكن أن تساهم في تنشيط عمل الشحن والنقل ولما طلبت منه تحديد الرقم المطلوب من تلك الشاحنات أجابني بثقة عالية لا يمكن أن تكون اقل من مائة شاحنة عملاقة ! و وضع ملفاً كبيراً أمامي وطلب مدير القسم الهندسي إعادة إعمار كل ما تم تدميره إثناء الحرب من مباني وإنشاءات وإنه عمل حصر دقيقاً بكل ذلك موجوداً في الملف الأول كما طلب تزويد القسم ببعض الأنظمة والأجهزة الهندسية وقدم ملف ثاني منبهاً أن الملف الأول أكثر أهمية من الثاني ! وطلب مدير الحسابات المخزنية تزويد مخازن الشركة بإنظمة جرد خاصة تعتمد (الباركود) لجرد المخازن الكترونياً وهذا يمكن الشركة من جرد موجوداتها بفتر قصيرة جداً. وهكذا أمتد الإجتماع إلى وقت طويل تكلم فيها الجميع عن رؤيتهم لمستقبل الشركة الحضاري وأزدحمت الملفات على منضدة الإجتماع حتى تنبه أحد المدراء باننا لم نتناول طعام الغذاء ولم ناخذ فترة إستراحة للصلاة على الاقل فاعتذرت من الحاضرين إلا انهم جميعا قالوا أن أهمية الإجتماع وخطورته أنستنا كل الأمور الأخرى وإن المهم أن يتعامل الأمريكان بمستوى الطموح وأن يزودونا بما هو متطور وحديث دون الأمور التي عفى عليها الزمن .
وضع السادة المدراء دراساتهم ومقترحاتهم و وثائقهم وخرائطهم على أحدى المناضد الجانبية في مكتبي وطلبت منهم الإستعداد الكامل لمناقشة الأمريكان حال حضورهم لمقر الشركة على أن يتولى كل مديرالحديث عن طلباته بنفسه .
وفي اليوم التالي لهذا الإجتماع حضر الوفد الأمريكي إلى مقر الشركة وسرعان ما أجتمع السادة المدراء في مكتبي لحضور الأجتماع الخطير الذي بذلوا جهوداً مضنيةً في التحضير له وبعد تعارف بسيط قدم لي ممثل السفارة أعضاء الوفد بالأسماء دون اي منصب أو صفة رسمية محددة عدا رئيس الوفد ! وقدمت أنا السادة المدراء بالأسماء والصفات والمناصب وجلسنا حول منضدة الإجتماعات المستطيلة الموجودة داخل مكتبي إلا أن رئيس الوفد طلب أن يكون الأجتماع في بدايته مقصوراً (علي) فقط دون السادة المدراء !. إعتذرت من السادة المدراء وطلبت منهم الإنتظار في مكتبي في الغرفة المجاورة وعدم مغادرة المكتب حتى يتم إستدعائهم لحضور الإجتماع . ثم عدت إلى طاولة الإجتماع وأستمعت إلى رئيس الوفد وهو يعتذر مني لذلك الخلل ثم بدأنا الإجتماع الخطير هذا وتحدث رئيس الوفد الأمريكي قائلا : (نحن لن تاخذ من وقتك كثيراً ولدينا بعض الأسئلة اتمنى أن تجيبنا عليها بمنتهى الدقة لأن هذه المعلومات مهمة جداً لمستقبل عمل الشركة وقد تمكننا من مساعدتكم ) ! وبدأت سلسلة الأسئلة تنهال علي :
ــ ما هي نسبة الرجال إلى النساء في الشركة ؟
ــ ليس لدي رقم دقيق النسبة تختلف من موقع لأخر ففي المخازن تكون نسبة الذكور ضعفي الأناث وبالعكس بالنسبة لمقر الشركة وسازودكم بارقام دقيقة لهذه النسب بعد العودة إلى برامج الحاسبة الأكترونية
ــ هل تعتمدون الحاسبات في عملكم ؟
ـــ طبعاً لدينا برامج متكاملة مالية ومخزنية وإدارية
ـــ وهل تعتمدون البرامج الجاهزة ؟
ـــ كلا نحن نقوم بتحليل الأنظمة وكتابة البرامج وتنفيذها ولا نعتمد أي انظمة جاهزة وكل ذلك يقوم به كادر عراقي من موظفي الشركة.
ـــ حسناً ما هي نسبة البطالة لمقنعة بي منتسبي الشركة ؟
أجبته وأنا استغرب لطبيعة هذه الأسئلة الغير متوقعة تماماً بالنسبة لي وممنياً نفسي بالآمال أن تكون الأسئلة القادمة أسئلة موضوعية أكثر .
ـــ 50% من المنتسبين لا يجدون عمل حقيقي وتلك مسؤولية إدارة الشركة .
وتوالت بعض الأسئلة حول نسب الخريجين ومستويات العاملين
واخيراً القى عليه بسؤال سعقني تماماً !
ـــ ماهي نسبة السنة إلى الشيعة من العاملين في الشركة ؟
ساد صمتاً ثقيلاً شعرت بتوتر نفسي حاولت كتمه ثم التفت إلى المنضدة المجاورة لطاولة الإجتماع وأشرت بيدي نحو سلسلة الملفات والأضابير والخرائط المرصوفة عليها وقلت وأنا أكتم غيضي بصوت أجش وأنا أرى أحلامنا تنهار بأسئلة واضحة المرمى خبيثة المغزى . فقلت بخيبة امل وأنا التفت إلى الملفات المزدحمة على المنضدة المجاورة :
ـــ كنت والسادة المدراء طيلة الأيام الماضي نعد أعداداً حريصاً ودقيقاً لهذا الإجتماع الخطير وإعددنا دراسات وأبحاث و مقترحات علمية وحضارية لتطوير الشركة وكنت أتوقع أنكم ستأتون لتسمعوا منا عن واقع الشركة وسبل النهوض بها وتطويرها والمساهمة معنا في إنتقالة حضارية وكل هذه الملفات أعدت لهذا الإجتماع الذي كنا نحلم به ونترقبه بحرارة ولم اكن اتوقع أن يكون إجتماعاً إستخبارياً !.
وبعد لحظة صمت متوتر أخذت نفساً عميقاً ؛ثم التفت نحو رئيس الوفد وأنا انظر في عينيه أحاول أستكشافها وسبرغور نظراته الحادقة فيً
ـــ صدقني يا سيد انا لا أعرف نسبة الشيعة والسنة في مكتبي الصغيرهذا فكيف لي بتحديد النسبة بعموم الشركة ! ولا يوجد لدي أي قاعدة بيانات لذلك أبداً لأن هذا أمر لا يعنيني ولا يعني عمل الشركة وكل الذي يهمني هي تنمية الموارد ومن ضمنها الموارد البشرية .
وعاد الصمت ليطبق على الإجتماع وكدت أنهيه إلا ان رئيس الوفد الأمريكي قال بدبلوماسية عالية بعد أن حدق بي بنفس الطريقة التي حدقت انا به مبتسماً وهو يهم واقفاً مع أفراد الوفد
ـــ شكراً أستاذ محمد كان لقاء مفيداً إلى اللقاء
هززت رأسي محاولاً رسم أبتسامة باهته وأنا أودعهم وأستقبل السادة المدراء من جديد وهم ينظرون في عيني الخيبة والحزن مستغربون سرعة أنتهاء الإجتماع الذي لم يدم إلا دقائق معدودات ومن دون أن أنبس بكلمة واحدة جلسنا على طاولة الإجتماع ومن خلال عبرات فضحت خيبتي وحزني قلت لهم جملة واحدة ثم إنصرفنا .
ـــ لن يموت الحلم فينا دعونا منهم وسنحقق كل ما حلمنا به من دونهم فهو وطننا وليس وطنهم!