19 ديسمبر، 2024 1:13 ص

مذكرات حلم (2) : قصة مُجَمَعِين !

مذكرات حلم (2) : قصة مُجَمَعِين !

كانت فترة 2003م و 2004م عصيبة جداً بالنسبة لمخازن الدولة العراقية بشكل عام و مخازن وزارة التجارة على وجه الخصوص وتعرضت أغلب مخازننا إلى السرقة إلا أن مخازن شركتنا (الشركة العامة لتجارة المواد الإنشائية) في محافظة المثنى لم تمس بأي سوء ولم ينقص من خزينها شيء وبقت مكاتبنا و مخازننا كما هي لم يمسسها سوء !.
فكيف تم ذلك ؟ كانت مخازننا في محافظة المثنى في منطقة تسكنها (عشيرة الظوالم) وبدأت تُهاجم من قبل بعض السراق محاولين تسلق جدرانها لفتح ابواب المخازن وسرقة محتوياتها ومعهم ناقلات وعجلات وعربات وقسم منهم مسلح بأسلحة خفيفة وبيضاء وبأعداد كبيرة إلا أن (شيخ عشيرة الظوالم) تصدى لهم ومعه إبناء العشيرة ورفعوا أعلامهم مرفرفة على اسوار المخازن وهدد كل من يقترب منها بالقتل وأعلن أن مخازن الإنشائية في حماية العشيرة والذي يقترب منها سيتحمل مسؤولية تحديه هذا ولا يلومن سوى نفسه و وقف إلى جانب إدارة المخازن وأمناء المخازن صفاً واحداً يحمي المخازن وفعلا كف جيش السراق وأبتعدوا عن المخازن ولم يقربوها خوفاً وإحتراماً لعشيرة الظوالم وشيوخها ؛
وبعد إستقرار الأوضاع أرسل شيخ الظوالم إلى إدارة الشركة في بغداد (أن تعالوا إستلموا مخازنكم وإنه مسؤول عن أي نقص يمكن أن يكون فيها !)؛ وفعلاً لم يكن هناك أي نقص في مخازن محافظة المثنى وبقت سالمة رغم غياب القانون والدولة في حينه ولم يتم تكريم لا شيخ الظوالم ولا أي فرد في العشيرة ولا أي موظف في المجمع المخزني رغم إلحاحي على الإدارة العامة على ضرورة تكريمهم وتقييم هذا العمل العظيم الذي وفر على الدولة المليارات ولم ينتظر أحدهم شيئا أو تكريماً من أحد بل فعلوا ذلك شعوراً بمسؤوليتهم تجاه وطنهم (في حينها لم أكن قد استلمت الإدارة العامة في الشركة) .إليس هذه صورة مضيئة للشعب العراقي ؟!
وهناك صورة أخرى في مجمع مخزني آخر في بغداد كانت تحوم حوله الشبهات حول وجود تلاعب مخزني وتواطؤ مع السراق والغريب أن المجمع كانت فيه أبواب متفرقة وكل أمين مخزن قام بفتح بوابة خاصة به إلى خارج المجمع! ورغم أمري (بصفتي المدير العام) المتكرر بضرورة إغلاق جميع أبواب المجمع والإبقاء على بوابة واحدة لعموم المجمع المخزني والسيطرة على الحركة المخزنية إلا إن إدارة المجمع كان تتحجج بشتى أنواع الحجج تارة صعوبة حركة الشاحنات داخل المجمع وأخرى أنهم شكلوا لجنة لتنفيذ الأمر ومرة ثالثة أنهم يقترحون عمل مناقصة لإغلاق الأبواب … وهكذا حتى قدم لي أحد المسؤولين في الشركة أن كلفة غلق الأبواب في المجمع المخزني تربو على الخمسين مليون ديناراً !!! فأجبته وأنا أكتم غضبي وغيظي (شكراً سأغلقها بمعرفتي) حمل أوراقه وخرج من مكتبي وهو يكتم ضحكة خبيثة تعلن انتصاره وبقاء أبواب السرقة مشرعة .
ناديت أحد الشباب من العاملين معي في مكتبي (ابو عبدالله) وكنت أتوسم فيه كل الخير و الوطنية والشهامة حاله حال كل العاملين معي وطلبت منه أحضار مجموعة خاصة من الموظفين ممن كانوا يعتبرهم بعض المدراء (موظفين متعبين) من الصعب قيادتهم وإنصياعهم وقد يكون فيهم بعض المشاكسين فعلاً ولم يكن عددهم ليتجاوز الخمسة موظفين فقط واستغرب الجميع إختياري لهذه المجموعة الغريبة .
فلما حضروا إلى مكتبي شرحت لهم مشكلة المجمع المخزني ورغبتي في غلق هذه الأبواب وضبط الحركة المخزنية وشرحت لهم مماطلة مسؤول المجمع وبعض أمناء المخازن في غلق هذه الأبواب تحت ذرائع عدة ثم أخرجت (مسدسي الرسمي) من درجي وناديت على (أبو عبدالله) و أعطيته السلاح قائلاً له بحزم : (خذ هذا السلاح الذي لا أعرف كيف يستخدم وضعه في حزامك بشكل يراه الجميع وتذهب غداً عند الساعة الثامن صباحاً إلى المجمع وأمهلك أربع ساعات فقط لتغلق كل أبواب المجمع عدا البوابة الرئيسية له وتأخذ معك منذ اللحظة كتاباً يحدد مهمتك واللجنة التي معك ويمنحك كل الصلاحيات اللازمة التي تمكنك من إنجاز هذه المهمة ومنها الصلاحيات المالية المطلقة ! وأني أنتظر اتصالك في الساعة الثانية عشر ظهرغداً وإذا احتجت تدخلي المباشر فإني حاضر في أي وقت ) أجابني الجميع بمنتهى الثقة والوطنية بأن أعتبر أن المهمة منجزة منذ الآن … حييتهم بحرارة ثم قلت لهم إن فشلتم فلا مكان لكم عندي في هذه الشركة …
وفي ظهر اليوم التالي رن هاتف (ابو عبدالله) وبصوت واثق يبلغني إنتهاء المهمة وأغلقت الأبواب وعمل خنادق إضافية تؤمن المخازن بشكل أفضل مما كان عليه سابقاً!! ومن فخري بهم لم أتمالك فرحتي بعملهم فقلت لهم إنتظروني أنا قادم إلى المجمع لأرى ما فعلتموه بعيني ! وما إن وصلت إلى المجمع حتى وجدت الجميع في إنتظاري فرحون بهذا الإنجاز ومنهم أمناء المخازن ومدير المجمع وسألت (أبو عبدالله) كيف اغلقت كل هذه الأبواب وحفرت كل هذه الخنادق خارج المجمع وداخله؟! فأجبني وهو يصحبني إلى داخل المخازن : (قمت (بلحم) كل الأبواب بعد غلقها بقطع حديدة سميكة يستحيل قطعها ثم إستاجرت “شفلاً” وقمت بردمها ثم عملت خنادق عميقة حولها وكذلك عملت خنادق في أماكن أخرى متفرقة عند بعض أسوار المجمع التي خشية إستغلالها من قبل السراق من خارج المجمع المخزني حتى اصبح المجمع محمياً تماماً إلا من لصوص الداخل ! ) شكرته واللجنة التي صاحبته وكل من ساعدهم وعمل معهم ثم سألته وأنا أغادر المجمع مستدركاً : ( أبو عبدالله كم كلف هذا العمل العجيب ؟!) أجابني مبتسماً بثقة عالية : ـــ ( لا شيء إلا مبلغاً ضئيلا تم صرفه من نثرية المجمع)!!!.
عدت الى مقر عملي وشرعت بإستبدال بعض إدارت المجمع وأمناء مخازنه ثم أسندت راسي فخورا وأغمضتهما منتشياً وقلت بصوت عالي : الحمد لله كم العراق عظيم !