23 ديسمبر، 2024 9:00 ص

مذكرات حلم (1) : العثور على 152مليار !

مذكرات حلم (1) : العثور على 152مليار !

قد تكون الصورة معتمة لكننا ممكن أن ننظر من زاوية أخرى لنرى بعض الصور المشرقة التي تحمل هم الحضارة أمام توحش البداوة ! وساسرد صورة مشرقة حقيقية صاغها عراقيون.
في الشهر الثامن من عام 2004م تسلمت منصب إدارة الشركة العامة لتجارة المواد الإنشائية بعد خدمة ثمان وعشرون سنة بدأت من وظيفة كاتب في القسم الإداري عام 1976م في الشركة العامة لتجارة المواد الغذائية التابعة لوزارة التجارة وبعد أن مررت بكل الدرجات الوظيفية حتى أصبحت مدير قسم وأخيراً مدير عام ولقد عملت في أقسام الشركة المختلفة إلا أن عملي في الحاسبة الألكترونية أكسبني كمبرمج ومدير شعبة ومدير قسم خبرة وظيفية في شتى أقسام الشركة كون قسم الحاسبة الاكترونية كان مكلفاً بعمل شتى البرامج في كل أقسام الشركة دون إستثناء وخصوصاً منها البرامج المالية والبرامج المخزنية والإدارية .
ولم أكد أجلس على كرسي المدير العام في عام مخيف جداً 2004م كان امتداد لعام أستبيحت فيه أغلب دوائر الدولة وسرقت ودمرت بنيتها التحتية وكان الوقوف أمام هذا السيل العارم المدمر ضرباً من الخيال ومجازفة مميتة ! حتى وجدت على منضدتي كثبان من الملفات والأضابير لا أول لها ولا أخر من (كشوفات الجرد المخزني) تعلوها إيجاز في ورقة أو ورقتين لإجمالي الجرد العام للموجودات المخزنية في كل فروع الشركة على أمتداد العراق (عدا محافظات كردستان) وكل المطلوب مني أن أمضي عليها (أوقعها) وأقر بموجودات الشركة بموجب هذا الجرد!. ولما سالت الشخص الذي قام بوضع هذا الكشوفات أمامي عن المطلوب مني؟ أجابني بثقة وببساطة حنينة (أنه إجراء روتيني لابد أن تصادق حضرتك بوصفك المدير العام عليها لإعتمادها خصوصاً أن هذا الجرد المخزني الأول الرسمي العام لموجودات الشركة وأرصدتها المخزنية في عموم العراق منذ عام 2003م.) وبمثل برودته وهدوئه طلبت منه أن يحمل كشوفات الجرد التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولو أردت مجرد قرائتها لأحتجت شهراً أو شهرين ! لسبب بسيط أني لا اعترف بهذا الجرد ولا بكشفه وإني سأقوم بإعادة جرد مخازن الشركة من جديد بطريقة جديدة! حاول أن يبين لي إستحالة إعادة جرد المخازن في عموم العراق كونها عملية ضخمة وكبيرة! شكرته على نصائحه الذهبية وذكرته أني اعمل في وزارة التجارة لأكثر من ثمان وعشرون سنة وكنت من المساهمين في برمجة عمل المخازن. حمل الأوراق والأضابير وقد يكون شك في قوايا العقلية! إلا اني أستليت أوراق الخلاصات والكلف الإجمالية لموجودات المخزنية منه وأنا أقول له ساحتفظ بهذه الأوراق للذكرى !
بعدها شرعت ببعض التعديلات الإدارية في شعبة الحسابات المخزنية ومن ثم عقدت إجتماع لمسؤولي المخازن والحسابات المخزنية وابلغتهم بقراري إعادة الجرد وتفاجئت بتأيد (لم أكن أتوقعه) خصوصاً من المدير الجديد لشعبة الحسابات المخزنية وأغلب العاملين فيها ومعارضة بسيطة ؛ بعدها طلبت منهم أن نبدأ بتشكيل (لجان جرد مركزية ولجان فرعية) يرأسها أشخاص مشهود لهم بالنزاهة وقوة الشخصية من مركز الشركة والفروع نختارهم بعناية حريصة وشرعنا في وضع خطة وضوابط جرد جديدة تختلف عن سابقاتهاوبعد أن أنجزنا كل ذلك دعونا إلى إجتماع ضم كل رؤساء لجان الجرد وشُرحت لهم التعليمات والضوابط الجديدة من قبل (مدير الحسابات المخزنية) ومدير المخازن ومسؤولي الشركة وفي نهاية الإجتماع طلبت من رؤساء اللجان أن لا يعتبروا عملهم هذا مجرد عمل وظيفي مجبرين عليه بل هو عمل وطني يفرضه علينا الدين الحنيف والأخلاق وختمت اللقاء بأن هناك من يريد سرقة ثروات العراق وأمتهان مقدراته وعليكم أثبات حبكم لوطنكم وهي أمانة أضعها برقابكم تحاسبون عليها وظيفيا و وطنياً وسيحاسبكم الله عليها أيضاً . كان لقاء حاراً مفعماً بتساؤلات وشكوك وتحديات وعواطف.
وإستكمالاً لكل هذا كانت هناك خطة متابعة يقوم بها أغلب مدراء الشركة ولجنة الجرد المخزنية إضافة لي ولكل معاونين المدير العام بمتابعات ميدانية للجان الجرد المنتشرة في كل مخازن الشركة في كل محافظات العراق . أضافة إلى توجيه أمناء المخازن ومعاونيهم بأهمية هذا الجرد لإستعادة حقوق الشركة وضبط خزينها وأن ذلك مهمة وطنية وشرعية وأخلاقية وطلبنا منهم التعاون مع لجان الجرد وتسهيل عملهم وسيكون هناك حساب عسيراً لكل من يعرقل عمل لجان الجرد ! وأننا أعتبرنا الجرد السابق غير رسمي وتم الغاء نتائجه ولا إعتباراً له .
وشرعت لجان الجرد بعملها فكان هناك قبولا لعملها بالضوابط الجديد وهناك رفض وتعويق في مخازن أخرى ولكن مع إستمرار الجرد بدعم قوي من المركز رضخ الجميع لها وكان هناك صور كثيرة رائعة لمختلف اللجان وأكتفي بصورة واحدة للجنة واحدة كمثال لما كان يحدث في بقية اللجان حيث قامت أحدى لجان الجرد بتوزيع (خفارات) على أعضاء لجنة الجرد في احدى المحافظات يقوم فيها (الخفير) بالمرابطة والمبيت في باب المخزن بعد أنتهاء الدوام الرسمي وإقفال أبواب المخزن الذي يتم جرد موجوداته المخزنية بوضع فراش بسيط في باب المخزن بحيث يستحيل دخوله دون علمه! ٍوبعد أن فشلت معهم كل محاولات الإغراء والترهيب ولم يخضعوا للتهديدات تم الوشاية لدى القوات الآمنية بأن رئيس اللجنة شخص (إرهابي) إلا أن وعي الأجهزة الأمنية في تلك المحافظة وبعد قيامها بالتحريات السرية تاكدوا أن هذه اللجنة تقوم بعملها بشكل متشدد أقلق أمين المخزن وجعله يتهم رئيس اللجنة بهذه الفرية مما دعا المسؤول الأمني أن يرسل على رئيس اللجنة ويبلغه بدعمه الكامل لعمله بكل قوة وطلب منه إبلاغه بأي تهديد أو عرقلة وشكره على حرصه الشديد هذا! وبهذا نجا رئيس اللجنة من أخطر تهمة ممكن أن توجه لإنسان !. وهناك من أمناء المخازن من رحب بإعادة الجرد وقدم كل التسهيلات الممكنة لعمل اللجان وكانت هناك متابعة يومية ودعم من كل قيادات الشركة ومدرائها وتواجد ميداني في وسط اللجان وكان الكل يعمل بأندفاع كبير وحماس أكبر .
وانتهى الجرد العام للشركة ووضعت ملفات الجرد الجديدة وفوقها خلاصة الجرد وأخرجت الخلاصة القديمة وبدأنا نقارن بين الجردين فكان فرق كلفة الخزين الجديدة عن القديمة أكثر من مائة واثنان وخمسون مليار ديناراً عراقياً!!!
أعلمت الوزارة بذلك وقام معالي الوزير بأعلام رئاسة الوزراء …
وأنتهت القصة (الحلم الحقيقة) على ذلك ولم نجد في حينه أي ردة فعل أو تكريم لمئات الموظفين الذين قاموا بهذا الأنجاز الكبير كي يكون حافزاً للأخرين كنا نحتاج إليه لنرسخ القيم الإيجابية وسط استشراء قيم الفساد وتدمير ركائز الدولة .