عزيز
يُعدّ الاعتراف من أبرز الأدلة التي يُمكن استخدامها ضدّ المتهم في القضايا الجنائية، وكثيرًا ما يُنظر إليه كدليل قوي، إن لم يكن قاطعًا، على ارتكاب جريمة، لا سيما عندما يكون صريحًا ومباشرًا،ومع ذلك، تبقى شرعية هذا الاعتراف مرهونة بالطريقة التي انتُزع بها، وهذا يُبرز خطورة الاعتراف المُنتزع تحت وطأة التعذيب أو الإكراه، والذي يُمثّل تقاطعًا خطيرًا بين متطلبات العدالة الجنائية وحقوق الإنسان والضمانات الدستورية والقانونية، والسؤال الأساسي الذي يُطرح هو: هل يُعدّ الاعتراف المُنتزع تحت وطأة التعذيب شرعيًا؟ وهل يُمكن الاعتماد عليه كدليل إدانة في النظام الجنائي؟ لا يقتصر هذا السؤال على الجدل الفقهي والقضائي؛ بل يتعلق بجوهر الشرعية الجنائية وشرعية الإجراءات الجنائية، بما في ذلك احترام الكرامة الإنسانية.
من المبادئ الأساسية للقانون الجنائي وجوب جمع الأدلة الجنائية وفقًا للقانون وبطريقة تضمن حماية الحقوق الأساسية للمتهم، تُجمع معظم دساتير العالم والاتفاقيات الدولية، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مناهضة التعذيب، على حظر التعذيب، وتُعلن عدم قانونية أي دليل مُنتزع من أفعال تُشكل تعذيبًا أو إكراهًا،وتنص هذه الاتفاقيات صراحةً على عدم جواز قبول أي اعتراف مُنتزع تحت التعذيب كدليل في أي إجراءات قضائية، ويُشكل انتهاكًا صارخًا لمبدأ المحاكمة العادلة، ومن هنا، يتضح أن الشرط الأساسي للاعتراف هو أن يكون طوعيًا، صادرًا عن إرادة حرة وواعية، دون ضغط أو تهديد.
في الواقع، لا يختلف الفقه الجنائي في رفض الاعترافات المُنتزعة تحت التعذيب، إلا أن الإشكالية تكمن في التطبيق العملي، إذ قد تواجه المحاكم حالات يصعب فيها التحقق من صحة ادعاءات التعذيب، خاصةً عند محدودية الأدلة أو نقص التوثيق الطبي والقانوني للانتهاك، قد تتساهل بعض الأنظمة القضائية في تقييم هذه الاعترافات، فتسمح بقبولها في حال وجود أدلة داعمة أخرى، أو إذا اعتُبرت عنصرًا داعمًا ضمن مجموعة أدلة، وهذا يتحايل على المحظورات القانونية والأخلاقية.
تُعد هذه المسألة حساسة بشكل خاص في الأنظمة القانونية التي لا تزال تعتمد بشكل كبير على الاعترافات كوسيلة إثبات أساسية، نظرًا لضعف أساليب التحقيق الجنائي أو غياب هيكل مؤسسي مستقل للهيئات القضائية، في مثل هذه السياقات، يصبح التعذيب أداة شائعة لانتزاع المعلومات، وتتحول الاعترافات من وسيلة مشروعة إلى أداة إكراه تُنتزع بالقوة البدنية أو النفسية، وهذا يُفرغ مبدأ افتراض البراءة من معناه الحقيقي، ويؤدي إلى أحكام قضائية تستند إلى اعترافات ملفقة أو مشكوك فيها.
شهدت بعض الأنظمة القضائية العربية مراجعات قانونية هامة في هذا السياق، حيث نصت تشريعات حديثة في عدد من الدول على عدم صحة الاعترافات إذا ثبت أنها ناتجة عن إكراه جسدي أو معنوي، كما تُلزم بعض القوانين سلطات التحقيق بتسجيل استجوابات المتهمين صوتيًا وبصريًا لضمان نزاهة الإجراءات، ومع ذلك، تبقى هذه الضمانات غير فعّالة ما لم تقترن بإرادة سياسية حقيقية لمناهضة التعذيب، واستقلال فعلي للنيابة العامة والقضاء، وإمكانية الاستعانة بمحامٍ منذ لحظة الاعتقال.
تجدر الإشارة إلى أن قبول الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب لا يقوّض نزاهة الإجراءات فحسب، بل يقوّض أيضًا ثقة الجمهور بالنظام القضائي ككل. فهو يُسهم في خلق انطباع بأن الدولة تسعى للإدانة بأي وسيلة، بدلًا من تحقيق العدالة. وقد يؤدي أيضًا إلى إدانة الأبرياء بينما يبقى الجاني الحقيقي طليقًا، مما يُفرغ العقوبة من غايتها الوقائية والرادعة، لذا، فإن رفض الاعترافات المنتزعة بالإكراه ليس مجرد التزام قانوني؛ بل هو ضرورة إنسانية وأخلاقية لحماية جوهر العدالة.
وأخيرًا، لا يمكن الحديث عن نظام عدالة جنائية عادل دون ضمان أن تكون الاعترافات نتاج إرادة حرة، خالية من التعذيب أو التهديد أو أي شكل آخر من أشكال الإكراه. فالشرعية الإجرائية ليست شكلًا، بل هي جوهر ضمان محاكمة عادلة. ويجب استبعاد أي اعتراف، مهما كان تفصيليا أو متماسكا، تم الحصول عليه نتيجة للتعذيب، ليس فقط باعتباره دليلا ولكن باعتباره نتاج ممارسة محظورة بموجب القانون والضمير الإنساني.