18 ديسمبر، 2024 4:22 م

ظل الدارس للتاريخ مهتماً ولوقت ليس بالقليل بالكيانات السياسية التي كانت تحكم في هذا المكان او ذاك، عاداً إياها الوحدة الجديرة بالدراسة، وان المجتمع يدور حولها ويتمثل بها ضعفاً او قوة، وهكذا جاءت الكثير من الكتابات التاريخية في مراحلها المبكرة تدور حول بلاط الحاكم، جاعلة كل ما سواه يدور في فلكه.

ثم تطورت الدراسات لتتوسع آفاقها، وتتحول إلى الحضارات بأكملها كوحدة متكاملة تتحق قراءة مسارات التاريخ في ضوئها، وصولاً إلى النزول لقراءة التاريخ من أسفل عبر الطبقات الاجتماعية البسيطة، وتفكيك النص، وتحليل الخطاب، ودراسة الذهنيات لفهم مجريات هذا التاريخ الإنساني الطويل.

ولكني اجد من خلال التأمل، وقراءة حياة المدن الغابرة أو العيش ببعض من المعاصرة، أنها ربما تكون الأجدر بالاهتمام أو على الأقل جعلها مرتكزاً في كل دراسة، إذ يمكن عدّها نواة تختصر داخلها مكونات الفعل الحضاري كافة.

وعلى الرغم من وجود الكثير الكثير من الدراسات الخاصة بهذه المدينة أو تلك، لكن هذه الدراسات ومن خلال النظرة البسيطة إلى محتوياتها لا تنطلق من ذات الفكرة أو الادراك، بل تنساق وراء سرد الأحداث المتعلقة بالمدينة مدار البحث أو ابراز جوانب متعددة من نشاطها خلال حقب تاريخية محددة، دون النظر لها بكونها كياناً بالغ الأهمية، وموجزاً تاريخياً وحضارياً مركزاً لا يمكن تجاوزه لفهم ما قبله او ما بعده او ما حوله!.

ان النظر إلى أي من المدن يوقفنا على خصائص تميزها عن غيرها سلوكاً وعادات واعراف، وهذه الخصوصية تمنحها أشبه ما يكون بالهوية المتمايزة عما سواها، فتظهر بذلك المدن وكأنها عوالم لوحدها مما يجعلها بحاجة إلى دراسة اكبر، وتحليلاً لدواخلها اكثر، نعم نجحت الحضارة الحديثة في كسر الكثير من الجمود وحقق التواصل التكنولوجي الكثير من الانفتاح بهذا الصدد، ليحقق ما يمكن تسميته بالإذابة الجزئية لهوية المدينة، ولكن تبقى خرائط المدن لا تتشابه مع غيرها مهما التقت في بعض الجوانب والأحيان، وتظل المدينة في جذورها ومكامنها المخفية عصية على مؤثرات العولمة القسرية.

ولعل هذا ما يفسر استغراب البعض منّا حين يحط رحاله داخل احدى المدن مما يشاهده او يسمعه، او مما يلمسه من صعوبة التأقلم الذي يحتاج منه وقتاً وجهداً طويلاً لكي ينصهر في بوتقتها وربما لا ينجح في ذلك دوماً.

والمهم هنا في هذا الصدد، وفضلاً عن إيلاء المدينة الاهمية التي تستحقها في حقل الدراسات الاكاديمية، أمران:

الأول: أن هذا الموضوع يفرض تحدي الهوية الجامعة بالنسبة للدول والأوطان والأمم والمجتمعات، وهو أمر لن يتحقق إلا بالتدرج التصاعدي من الحلقة الأصغر وصولاَ إلى الأكبر، بمنح تلك الهوية المطلوب الالتفاف حولها القوة المطلوبة والاستناد اللازم إلى الواقع المعاش والذي يولد بالنهاية حالة الاعتزاز بالانتماء.

والثاني: أن هذا التمايز في خرائط المدن وبنائها والذي تتمظهر فيه السلوكيات والذهنيات والقناعات، يوجد كذلك تحدي الفهم والذي يحتاج عقلية تدرك تعقيد كل ملف على حدة وتضع الخارطة المطلوبة لإذابة الفروقات وصولاَ إلى توحيد الرؤية والرسالة والآليات في كافة الفعاليات، وحتى يدرك أبناء كل مدينة ان المعنى الأكبر والأشمل الذي يجمعهم فيه الوطن يمثلهم ويفهمهم دون غبن او اكراه او تقييد.

ومتى ما جعلنا المدينة تقوي الوطن وبالعكس، متى ما أمكننا القول إننا حققنا الاستجابة المطلوبة في هذا المجال، واوجدنا التكامل الذي ربما غاب من زمان!