27 ديسمبر، 2024 9:45 م

مدن المعرفة وتصدير السلع المعرفية

مدن المعرفة وتصدير السلع المعرفية

بدأ ظهور مدن المعرفة والمدن التقنية في العالم أخيراً يزداد نمواً وانتشاراً وبشكل كبير وملحوظ، ويأتي هذا كنتيجة طبيعية لأهمية هذه المدن وقدرتها على تحريك الدفة والدفع بعجلة التنمية والاقتصاد لأي دولة، وكذلك لدورها في زيادة الناتج المحلي وزيادة فرص العمل.

هذه المدن المعرفية تعتمد في صناعاتها على كفاءة العنصر البشري، واستخدام العقل للاختراع والتطوير، أكثر من الاعتماد على المواد الخام، وتدخل هذه الصناعة في قطاعات كثيرة، بل إن بعض الدول جعلت الصناعات المعرفية وتصدير السلعة المعرفية المورد الاقتصادي الرئيسي لها.

مدن المعرفة هي مناطق اقتصادية يتم فيها تصدير السلع ذات القيمة المضافة العالية والتي يتم توليدها من خلال البحث والتقنية، والقوة أو المقدرة العقلية. وتتميز هذه المدن المعرفية بقدرتها على تحقيق النمو السريع داخل المجتمع وتزيد من ثرائه، كما وتحقق التنمية المستدامة. والإبداع والابتكار هي العناصر الرئيسة في التنمية، وكذلك سرعة وسهولة الوصول إلى تكنولوجيا الاتصالات من قبل جميع المواطنين.

وفي ظل الاقتصاد المعرفي الذي يعتمد في جوهره على المعرفة والابتكار المستمر والذي يسيطر فيه إنتاج السلع المعرفية وتصديرها والخدمات المعلوماتية على فرص خلق الثروة وفرص العمل على حد سواء، تصبح المدن والأقاليم بشكل متزايد عوامل أساسية في التنمية الاقتصادية، ويؤدي الاقتصاد المعلوماتي والمعرفي إلى منافسة متزايدة بين المدن، حيث يكون مجال المنافسة هو التحكم في المعلومات، وليس استخدامها ولهذا السبب فإن المدن الغنية بالمعرفة تصبح نقاطاً للسيطرة على النظام الاقتصادي العالمي الجديد.

وتعرف مدن المعرفة بالمدن التي يعتمد اقتصادها على ناتج مرتفع القيمة، مصدره البحث العلمي والتقنية والكفاءات والكوادر البشرية لأفراد تلك المدينة، إنها مدن تثمن عالياً فيها، من القطاع الحكومي والخاص، القيمة المعرفية، وينفق عليها بسخاء من إمكانيات وموارد لدعم ونشر واكتشاف المعرفة.

ويتم تسخير واستغلال تلك المعرفة لخلق فرص وعائد يضيف قيمة إلى مجتمع المدينة، وينمّي اقتصاده وثروته. ويوجد حالياً على مستوى العالم حوالي 70 برنامجاً إنمائياً حضرياً تم تكريسها لمفهوم مدن المعرفة. ويقع مجال مدن المعرفة في محيط علمي جديد يطلق عليه بالتنمية المعرفية أو المعلوماتية والذي يشتمل على التنمية العمرانية، والدراسات الحضرية، وتخطيط إدارة المعرفة.

إن أبسط تعريف يمكن أن توصف به مدن المعرفة هو أنها تلك المدن التي يعتمد نجاحها الاقتصادي على المعرفة، وتتميز بتوفير مستوى عالٍ من الكفاءة الحياتية لأفرادها.

بالإضافة إلى أنه ينشط ويزداد الاهتمام في مدن المعرفة بتنمية ورعاية المهارات والقدرات الإبداعية لدعم قطاعات الأعمال والتعليم، فيتم إلهام وتحفيز أفراد المجتمع وتشجيعهم على اكتساب وتوظيف المعرفة. ويتعاظم في هذه المدن المعرفية دور المجتمع التعاوني الذي يتعدى الحدود الجغرافية والطبيعية للمدينة.

ولعل أهم ما تشتمل عليه المدن المعرفية من صفات وميزات هو توفيرها لفرص عمل جادة لها مردود مجزٍ للأفراد، عدا ذلك وجود معدل تنموي مطرد في الدخل والناتج القومي، وتوعية رشيدة لبناء ثقافة المخاطرة وحسن استغلال الفرص المتاحة.

بالإضافة إلى تبني فكر الابتكار والإبداع كأحد الدعائم الأساسية للتنمية، وتحقيق الاتصال الدائم بين الجامعات ومراكز البحث العلمي وقطاعات الصناعة، وتحقيق الريادة أيضاً في ثقافة الإنتاج والصناعة، وكذلك وجود آلية لتسهيل حصول الأفراد على مصادر المعرفة، وتيسير سبل إيصال أحدث التقنيات لأفراد المجتمع، وربط شبكات المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث، وتبني مفاهيم وتقنيات الثورة الرقمية وعصر المعلومات.

وأيضاً تحسين التصميم المعماري والحضري ليمكن توظيف التقنيات الحديثة لعصر المعلومات، والاستفادة القصوى من المقومات التراثية والمعمارية وتوظيفها كعنصر جذب، وتحسين الكفاءة والمقدرة على تطوير البيئة وتوعية الأفراد لتطويرها والمحافظة عليها.

قديماً كانت المدينة الصناعية تعتمد على أصول الممتلكات والثروات الطبيعية لتحديد المقدرة الاقتصادية لكل مدينة، ومع المدن المعرفية فالمعلومات والمهارات والخبرات والقدرات الإبداعية للفئة المتميزة من مجتمع المدينة لها أولوية وأهمية قصوى في تحديد القوة الاقتصادية مقارنة بمصادر الثروات الطبيعية ذاتها.

ونجد أن عماد مدن المعرفة هو التقدم التقني وإنتاج المعرفة وتصدير السلع المعرفية والقدرة على المنافسة في مجالات المعرفة المختلفة، مع إمكانية توظيف المعرفة كأهم مصدر اقتصادي لها. ولقد تأثر مستقبل المدن والمجتمعات على مر الأجيال تأثراً جوهرياً بالتقدم التقني، ولكن معدل انتشار التقنية في مدن المعرفة وخاصة الشبكة العنكبوتية فاق كل التقنيات السابقة.

لقد كان تأثير الشبكة العنكبوتية واضحاً في مجال الأعمال والتعليم، إذ أصبح اقتصاد المعرفة، كما يراه البعض، أحد أبرز مصادر الثروة والاقتصاد، ويحل في أهميته محل مصادر الثروة الطبيعية.

ويرى ميتشل في كتابه (مدن المستقبل) أن المدن ستستقل عن محيطها المكاني أو الجغرافي اعتماداً على أن الشبكة العنكبوتية أوجدت ما يمكن تسميته بالأجور الإلكترونية، والتي اختلفت معها فكرة تجمع المجتمعات في الحياة العمرانية.

ولقد أعادت الشبكة العنكبوتية صياغة المحيط المكاني للمباني والمدن بصورة جوهرية، وأصبحت حياة المدينة تُنظَّم وتُدار بقواعد جديدة عما كانت عليه سلفاً، وبالتالي تغير دور المباني في مدن المعرفة عما كانت عليه من ذي قبل، وصار للمباني الذكية دور جديد في دعم مفهوم وبناء مدن المعرفة. وللحديث بقية.