18 ديسمبر، 2024 11:01 م

مدرسة النجف العلمية في عصر التأسيس

مدرسة النجف العلمية في عصر التأسيس

قراءة انثروبولوجية
تقوم المدرسة في نشأتها على عناصر ثلاثة: شخصية مؤسسها واستاذها؛ خاصية المدرسة وطلابها نوعا وكمّا؛ زمكانيتها، أي طبيعتها بمقتضى عنصري الزمان والمكان.
1- مؤسس مدرسة النجف واستاذها، كبير العلماء في مدرسة بغداد على عظمتها ووسعها في العلوم والمعارف، وقدمها، وشهرتها، على الرغم من ذلك،كان يشغل في بغداد مركزا علميا معترفا به من الخاصة والعامة، حتى ظفر بكرسي الكلام والإفادة من الخليفة القائم بأمر الله (422- 467هـ/ 1031- 1075م)، الذي لم يكن يمنح هذا الكرسي إلا لكبار العلماء الذين يتمتعون بشهرة كبيرة، وكان يحضر تحت كرسيه الآلاف من مختلف الطوائف والقوميات من طلبة العلم.
من جهة ثانية، لم يكن الشيخ الطوسي مدرسا فحسب، بل كان مرجعا وزعيما دينيا، ترجع إليه الشيعة في بغداد، وتلوذ به في مختلف شؤونها منذ وفاة شيخه الثاني السيد المرتضى (436/ 1044)، فقد أفاد- منذ مقدمه الى بغداد في (408/ 1017)- من علوم شيخه الأول المفيد العكبري (- 413/ 1022) صاحب التصانيف والرائد في علم الكلام وفقه الخلاف، فما فتئ أن ألف الشيخ الطوسي كتاب “التهذيب” وهو شرح ” المقنعة ” لشيخه المفيد، وأضاف كتاب “الاستبصار فيما اختلف من الاخبار” وأضحى هذان الكتابان من الكتب الأربعة عند الشيعة، فحسب الطوسي مكانة علمية ان يكون اثنان من مصنفاته من أربعة مصادر حديثية يعتمدها الشيعة، فقد كلل كتابين سبقا الى هذا المقام المعرفي، هما: كتاب “الأصول من الكافي” لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني (329/ 941)، وكتاب “من لا يحضره الفقيه” للشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه (381/ 991).
فضلا عن أن له الباع والإبداع في علوم مدرسة بغداد، نحو : في المسائل المختلفة بين المذاهب له كتاب “الخلاف”، وفي التفسير له كتاب “التبيان في تفسير القرآن”، وفي علم الأصول له كتاب “العدّة في أصول الفقه”، وفي علم الرجال له كتاب “رجال الطوسي”، وفي علم التصنيف له كتاب “الفهرست”، وفي الزيارات والأدعية له كتاب “مصباح المتهجد”، وفي مجال الإملاءات العلمية والتاريخية له كتاب “الأمالي”، وهذا فجريدة مصنفاته تطول، وأخترنا نماذج لمختلف علوم عصره، ليبقى شاهدا على عصره وفي سماء معرفته، أقل ما يقال فيه: إنه تتمثل فيه الشمولية المعرفية، حتى بلغ التفرد لتأسيس العلوم الشرعية؛ وجلّ ما يقال عنه: ما مضى المجدد العظيم حتى قفز بالبحوث الأصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزة كبيرة وخلف تراثا ضخما في العلوم.
2- المدرسة وطلابها نوعا وكمّا، للمدرسة شخصية معنوية ذات أبعاد اجتماعية، حتى تبلغ النضوج ينبغي ان تأخذ دورة او أكثر في استكمال تجربتها المعرفية، ويتخرج منها طلبة، يرتقون الى مرحلة الاستاذية والتدريس والبحث العالي، هذه السمات نجدها اليوم في تقويم الكليات المدنية، ان تتخرج دورة، وأن يتوافر فيها غير لقب علمي من استاذ، واستاذ مساعد، حتى يسمح لها بأن تخوض مجال الدراسات العليا.
هنا يتمخض سؤال: هل استطاعت مدرسة النجف في أعوامها الأثني عشر أن تخرج طلبة يرتقون الى مستوى الاستاذية ويبلغون حد الاجتهاد في العلوم الشرعية؟ من يطّلع على طبيعة الدراسة في الحوزة يجد إن هذه المسافة الزمنية أقل من تصل بشخص جاد في الدراسة الى علو الدراسة البحثية، فكيف بمدرسة تضم مجتمع طلبة يتفاوتون في المتابعة المعرفية وتقديم الجودة؛ زد الى ذلك، ليس فيها من أساتيذ ترتقي بعلومهم المتنوعة، سوى أنّها- للحق- فيها استاذ نابغ في العلوم جامع لها، وهذا إنْ يرتقِ بشخصية الأستاذ وشهرته، لكنه- في ذات الوقت- يقلل من شأن المدرسة، بل يحضّ من تقويمها، فإنّها تعدّ من تمثلات مدرسة المعلم الواحد، التي لا تتجاوز الوصف بالابتدائية، وإنّها- في الغالب- شهدنا مثيلاتها في الأرياف، تعاني من بعدها عن دوائر التعليم، وقلة التمويل، وضعف الإمكانات؛ وكل ما تنتجه تلاميذ قلّة عاشقين متيمين بمعلم بلغ مسار التقديس.
أما طلبتها فقد اعتمدت المدرسة على العنصر النجفي (المشهدي)، وهذه التوجه أخذ يسري في المجتمع النجفي ببطء وحذر، لأنه ظاهرة جديدة فيه، لم يألفها من قبل، أن يكون في المدينة طبقة تطلب العلم بشكل منظم، في حين كان طلب العلم مهمة فردية. بيد انها لم تكن ثمة مقدمات تدريس سابقة، أو تجربة منظمة تقدمتها تتكئ عليها، وتفيد من مخاضاتها.
كاد انفصال الطوسي عن مدرسته ببغداد، وعدم لحاق طلبته بالدرس الى النجف، سجلت إشكالية كبرى أثرت في معطياتها على طبيعة مدرسة النجف وعملية ارتقائها، بل سجل عليها إنها مدرسة فتية لم تبلغ المقام العلمي المرموق؛ ومن هنا يلحظ “أن الشيخ بهجرته إلى النجف قد انفصل- في أكبر الظن- عن تلامذته وحوزته العلمية في بغداد، وبدأ ينشئ في النجف حوزة فتية حوله من أولاده أو الراغبين في الالتحاق بالدراسات الفقهية من مجاوري القبر الشريف، أو أبناء البلاد القريبة منه كالحلة ونحوها، ونمت الحوزة على عهده بالتدريج وبرز فيها العنصر المشهدي نسبة إلى المشهد العلوي والعنصر الحلي وتسرب التيار العلمي منها إلى الحلة. ونحن حين نرجح أن الشيخ بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الأساسية وأنشأ في مهجره حوزة جديدة.

3- الزمكانية: انفصل الطوسي عن مدرسته في بغداد بفعل تصاعد طائفي، مصحوب بتأييد السلاجقة حين دخولهم بغداد، ثمة سؤال هل كان الإضهاد السياسي يشمل المدرسة الشيعية في بغداد؟ او فقط توجه نحو الشيخ الطوسي؟ دليل على أنّه لم يشمل غير الشيخ الطوسي، عدم نزوح أحد من طلبته الكبار في المدرسة معه، إذا التدخل السياسي لم يكن مؤكدا، بل المتشددين السنة لقوا الضوء الاخضر لمهاجمة بيت الطوسي وتكسير كرسي الكلام وحرق مكتبته، وأمنوا العقاب لأن المتسلطين الجدد على مذهبهم. ومن هنا كان وضع الشيخ لا يتحمل بعد الرجوع الى بغداد، ولذا هو شد الرحال وعرج الى النجف وأسس مدرسته.
هكذا هي مدرسة النجف في تجربتها الأولى، ظلت بعيدة عن دائرة المعرفة في بغداد، بل منعزلة عنها، كما أن الواقع الجغرافي للنجف، تلك التلة غير ذات زرع ولا ماء، ولسان الصحراء الغربية، يزيدها عزلة، سوى من هجمات الأعراب في البادية والأرياف على الحضرة المشرفة، أو على الزوار القادمين للأمام، فقد نقل مخيال بعض الكتاب الشيعة قصة “مرة بن قيس”، المنسوب الى القرن 4هـ/ 10م.
تحتاج المدارس الى عشرات السنين حتى تنهض بمشروعها المعرفي، وتحقق أهدافها المرسومة لها وفق المنهج متبع. بينما مدرسة شيخ الطائفة الطوسي تلكأت في اتباع الخطوات المنهجية، لا هي اتبعتها كما المفترض، ولا حاولت تطويرها منهجيا؛ مما حفز الى بزوغ تساؤلات العلماء، من مثل آية الله محمد باقر الصدر: “لكن هذا التراث الضخم توقف عن النمو بعد وفاة الشيخ المجدد طيلة قرن كامل في المجالين الأصولي والفقهي على السواء. وهذه الحقيقة بالرغم من تأكيد جملة من علمائنا لها، تدعو إلى التساؤل والاستغراب، لان الحركة الثورية التي قام بها الشيخ في دنيا الفقه والأصول، والمنجزات العظيمة التي حققها في هذه المجالات، كان من المفروض والمترقب أن تكون قوة دافعة للعلم، وأن تفتح لمن يخلف الشيخ من العلماء آفاقا رحيبة للابداع والتجديد ومواصلة السير في الطريق الذي بدأه الشيخ، فكيف لم تأخذ أفكار الشيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدفع والاغراء بمواصلة السير؟”.
أما النجف كمكان فهل كان ليصلح لمدرسة علمية يتوارد اليها الطلبة الشيعة من مختلف البلدان تكفل ديمومتها وتطورها في القرن الخامس؟ فالنجف تقع على روابي في خاصرة الصحراء، وتسمى اللسان ولعلها لسان الصحراء، فهي بعيدة عن الماء، وعالية عما حولها من مصادر المياه، عن الغرب المنخفض بحوالي 68 مترا، وعن الكوفة والسواد بحوالي 34 مترا، وهناك في التاريخ محاولات عدة لتوصيل المياه اليها، لكنها لم تحقق نجاحا يذكر. وعلى الرغم من المساعدات التي بذلها بعض الخلفاء والسلاطين البويهيين لأهل هذه البلدة ألا انها ظلت تنوء بالفقر والعطش، وليس يتحقق فيها سوى المقولة: “ليس فيها الا زيارة الأمير، وخبز الشعير، وماء البير”، ولذا هي غير آهلة بديمومة الحياة، فسكانها قليل ولم يطلها الإعمار، فهي –بحسب القوجاني في رحلته الى النجف 1908: ” النجف على هيأة قرية خربة”، وقد قال فيها الشاعر أحمد الصافي النجفي (1897 – 1977):
صدق الذي سمَّاك في وادي طـُوى يا دار بـل وادي طـــَوى وعــراء
جلستْ على الأنهار ِبلدانُ الـورى فعلام أنت ِ جلست ِ في الصحراءِ؟
إذا هذان الوصفان لشاهدين في مطلع القرن 14هـ/ 20م، فكيف كانت في منتصف القرن 5هـ/ 11م؟؛ كما وصفها الشيخ علي الشرقي بوجودها العلمي بعد الشيخ الطوسي “توجد آثار علمية في النجف من القرن السادس للهجرة، ولكنها في ذلك العهد- كانت كزاوية، لا كمدينة علم”. في حين كان الشيخ محمد رضا المظفر يرد عليه القول، مؤكدا مدنية النجف، وإن الطلاب كانوا يجددون الوصل بها في طلب العلم. على أنّ نسبة المقايسة تعلو إذا وضعت في معرض المقارنة مع بغداد المحاطة بالأنهار والربوع الخضراء، فكيف لا يحجم طلبة الطوسي عن الهجرة معه، من دون أن يقسروا ذلك.
ثمة تساؤل آخر، هل كان انتقال الشيخ الطوسي الى النجف وانفصاله عن مدرسة بغداد، وتأسيس مدرسته فيها، هي مرحلة تطور الدرس الفقهي لدى الشيعة، أو تراجعت عجلة الدرس والبحث العلمي؟، وهذا التراجع كان محطة ارتكز عليها ما تبعه من ركود معرفي استمر حوالي القرن.
حقيق أن تأسيس مدرسة في النجف كان إنجازا عظيما، بل إبداع نال طائلة السبق؛ لكن هل التأسيس ارتقى بالدور العلمي لمدرسة التشريع؟ حتى هو شيخ الطائفة، على المستوى الشخصي، انشغل بإدارة المدرسة وتأسيس العلوم لها، وضعفت نسبة التأليف للمصنفات في زمن مدرسة النجف، فهو لم يؤلف سوى كتاب المبسوط في الفقه، والأمالي في الأخبار، ومختصر مصباح المتهجد في الدعاء، في حين مؤلفاته الأولى في الفقه والأصول والحديث والرجال والتفسير والتصنيف ومسائل الخلاف والتي بلغت خمسين كتاباً أو كادت، جميعها كانت في بغداد، ومنها ارتقى كتابان الى صافة الكتب الأربعة المعتبرة عند الشيعة هما التهذيب والاستبصار، وهذا –بحد ذاته- يوحي الى أن استحقاقات المدرسة الفتية في النجف لا تتمثل بأكثر من هذه، حيث المستوى العلمي فيها بسيطا، وليس فيها طلبة من العلماء والفضلاء الجادين في الدرس، مما يستوجب البحث العالي والتحليل بما يناسب مستواهم المعرفي. وكان لانقطاعه عن مدرسة بغداد له الأثر أيضا. “وأما الحوزة الأساسية ذات الجذور في بغداد فلم تتفاعل مع أفكار الشيخ، لأنه كان يمارس عمله العلمي في مهجره منفصلا عن تلك الحوزة، فهجرته إلى النجف وإن هيأته للقيام بدوره العلمي العظيم لما أتاحت له من تفرغ”.