23 ديسمبر، 2024 6:27 ص

مدخل في نعيم القبر وعذابه.. الجزء الثاني والاخير.

مدخل في نعيم القبر وعذابه.. الجزء الثاني والاخير.

تناولنا في الجزء الاول من المقال انواع المعارف ووسائل تحققها ودرجات القرب المختلفة…
ومن المهم أن نؤكد ان عالم الآخرة الذي يبدأ بعد الموت مباشرة، له وسائل خاصة للإدراك تختلف عن الوسائل التي نحن نمتلكها في حياتنا الدنيا.

فعالم الآخرة ليس مكان حسي يشغل حيزا في الزمان والمكان يمكن لنا ان نراه بعيوننا المجردة ولا ان نلمسه ونحدده في أرضنا وكوننا الفضائي… فهو عالم اخر خلقه الله تعالى له قوانينه الخاصة وارضه الخاصة وسماؤه الخاصة وزمنه الخاص به الذي يختلف عن عالمنا كلية حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ }يس81 فهذه الاية تؤكد على قدرة الله تعالى على خلق عوالم اخرى وهذه القدرة ليست بالكلام فقط انما هو ما ستراه اعيننا في عالم الآخرة حيث قال الله تعالى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }إبراهيم48 هذا هو عالم اخر بارض جديدة وسماء جديدة وقوانين خاصة لا نستطيع ان نلم بها البتة ، وقد وضع القرآن الكريم قاعدتين مهمتين من خلالهما نستطيع القول ان كل الآيات وكل الأحاديث النبوية الشريفة التي وردت في وصف نعيم القبر وعذابه، والجنة والجحيم أيضا يجب ان تخضع لهما. والتي تقتضي بدورها أن تُفهم على أنها أمثلة تقريبية وليست تعبيرات حرفية عما سنلتقي به بعد الوفاة، وانما كل الآيات التي تصف الجنة والجحيم هي أمثلة ومجازات للتعبير عن حالات لا يمكن لنا فهمها بما نمتلكه من إدراكات حسية وعقلية.

والقاعدتان هما:

{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} الرعد 35

{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السجدة 17

فهاتان الآيتان تثبتان أن عالم الآخرة الذي يصوره القران الكريم في العديد من آياته يجب ان لا تُحمّل على الحرفية، وإنما قيلت على سبيل المجاز والتوضيح. فالله تعالى قال عن الجنة كما أوضحنا في الجزء الأول بأنها “كمثل” جنة تجري من تحتها الأنهار، فهي ليست جنة كما نقدر ان نتصورها. وقال عن نعيمها لا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. لذا فان كل الآيات التي تتحدث عن الجنة هي بالحقيقة لضرب الامثال لتقريب مفهومها لعقولنا التي لا تستطيع ادراك إلا ما تعرفه ، لذلك يقول الله تعالى عن الانسان في لحظات الموت {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق22، أي ان الإنسان سينتقل بعد الموت ليدخل في عالم جديد سيكسب فيه معارف وقوى لم يكن يمتلكها في الدنيا، فسيُكشف عن بصره ويصبح كالحديد لذلك قال الرسول الأعظم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ولتقريب هذا المفهوم اكثر سنعرض مثالا لتعريف الفرق بين عالم الدنيا وعالم الاخرة وهو بالضبط كالفرق بين الجنين وبين رجل بالغ، فلو تكلم الرجل البالغ مع الجنين ليصف له الحالة التي سيمر بها بعد خروجه من رحم أمه الى رحم الحياة العابرة لاضطر لاستخدام كلمات وتعبيرات بدائية ولاستعمال إشارات يدوية تقرّب مفهوم الدنيا الواسع لعقل الجنين البسيط الذي لا يمتلك بعد قدرة عقلية كافية تمكنه من فهم العالم الدنيوي. كذلك الانسان في عالم الدنيا وعالم الآخرة فهو سيمر بمرحلة تختلف عن الحالة التي يعيشها حاليا، وتقع وسائل استيعاب كنه ذلك العالم خارج حدود قواه العقلية التي يمتلكها.

وبعد هذه المقدمة لا بد لنا ان نتناول بعض الآيات والأحاديث التي تعرضت لمسألة القبر وعذابه ونعيمه…في البداية نذكر ما ورد عن الامام علي بن ابي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه الذي قال بأن الشك وقع في قلوب المسلمين حول وجود عذاب القبر لكنه انتهى بعد نزول سورة التكاثر.

كما أورد البخاري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في تفسيره لآية {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} إبراهيم 27، فيقول: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: “إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت.”

حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة بهذا وزاد يثبت الله الذين آمنوا نزلت في عذاب القبر.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم ساردا لقصة أحد الأنبياء في سورة يس (21-28)

وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ{20} اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ{21} وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{22} أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ{23} إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{24} إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ{25} قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ{26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ{27} وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ{28}

هذه الآيات تتحدث عن مرسل جاء لنصرة مرسلين آخرين تعرضوا الى اضطهاد قومه فلقي حتفه وتلقته الملائكة بالقول (قيل ادخل الجنة) فقال هذا المرسل متمنيا لو أن قومه علموا بما صار اليه حاله فقال (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ{26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ{27}) وبعد دخول هذا الرسول جنة البرزخ جاء عذاب الله لقومه فقال (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ{28}) وهو خطاب واضح وسرد صريح لقصة انسان دخل الجنة بعيد وفاته وبعدها انزل على قومه العذاب المهين.

يقول الله تعالى في موضع اخر من القران الكريم في سورة المؤمنين (99-101)

حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ{99} لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{100} فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ{101}

وهذه الآية تتحدث عن رجل حضره الموت وتوفي وبعدما قبض الله تعالى روحه ورأى امارات عذاب القبر قادمة طلب من الله تعالى ان يرجع للدنيا كي يعمل صالحا، فأجاب الله تعالى بأن

هناك برزخ يحول دون رجوعك الى الدنيا وهذا البرزخ سيستمر الى يوم القيامة الى يوم البعث فإذا نفخ في الصور انتهت مرحلة البرزخ وابتدأت القيامة الكبرى.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم في سورة الأنعام

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} الأنعام 93

اذ تقول الملائكة للظالمين وهم في غمرات الموت اليوم (وهو مطلق الزمن) تجزون عذاب الهون وهذه الآية تتحدث عن لحظات الموت.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الأنعام 27

وشاهد الاية تتحدث عن قول الكفار يا ليتنا نُرد، أي ان الدنيا ما زالت قائمة ولم تقم الساعة الكبرى فيتمنى الكافر ان يُرد إليها ولكن الله تعالى لا يُرده لأنه من مات لا يرجع لقوله تعالى

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الزمر 42

فمن يتوفاه الله تعالى لا يرده الى الحياة أبدا ويستمر الكافر يتذوق عذاب القبر

يقول الله تعالى في سورة غافر عن آل فرعون بأنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا ومن ثم سيدخلون جهنم يوم البعث وهنا العرض من خلال هذه الآية فانه يتم قبل يوم القيامة أي في عالم البرزخ بعد الموت حيث يقول الله تعالى (غافر 44-46)

فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ{45} النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ{46}

يقول الله تعالى }وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }التوبة101

فالعذاب مرتين عذاب في الدنيا وعذاب في القبر ومن ثم عذاب في الآخرة والذي أسماه بالعذاب العظيم، وهو امر قال به الكثير من المفسرين فقد قال الطبري في تفسيره

وقوله: {سَنُعَذّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} يقول: سنعذّب هؤلاء المنافقين مرّتين: إحداهما في الدنيا، والأخرى في القبر.وقد ورد في تفسير ابن كثير عن تفسير هذه الآية ما نصه: وقال مجاهد في قوله: { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} يعني: القتل والسبي، وقال في رواية: بالجوع وعذاب القبر، ثم يردون إلى عذاب عظيم، وقال ابن جريج: عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ثم يردون إلى عذاب عظيم: النار، وقال الحسن البصري: عذاب في الدنيا، وعذاب في القبر،

وهناك آيات أخرى تثبت وجود عذاب ونعيم قبل يوم القيامة، ولكن سنكتفي بما أوردناه الآن واننتقل لتوضيح آية يستدل بها المنكرون على الآ وجود لحياة بعد الموت وقبل يوم القيامة اي (في عالم البرزخ) وهي:

{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ }يس52

فدلالتهم ان الكافرين سيتفاجئون بيوم الحساب بعد ان يوقظهم الله من مرقدهم ظنا منهم ان المرقد يعني هذا القبر الذي في الارض وان المرقد يعني النوم لذلك سنرجع الى اللغة العربية لنعرف معنى “مرقد” ورد في معجم “لسان العرب” في بيان كلمة المرقد ما نصه

الرُّقاد: النَّوْم.والرَّقْدَة: النومة.وفي التهذيب عن الليث: الرُّقود النوم بالليل، والرُّقادُ: النوم بالنهار؛ قال الأَزهري: الرُّقاد والرُّقُود يكون بالليل والنهار عند العرب؛ ومنه قوله تعالى: قالوا يا ويلنا من بعثنا من مَرْقدِنا؛ هذا وهذا المعنى يوافق على ما عليه الناس وما عليه المنكرون لعذاب القبر ولكن مهلا ليس هذا المعنى الوحيد لكلمة المرقد فيضيف صاحب معجم لسان العرب ما نصه (وأَرْقَد بالمكان: أَقام به. ابن الأَعرابي: أَرْقَدَ الرجل بأَرض كذا إِرْقاداً إِذا أَقام بها.

وهو المعنى الصحيح الملائم لهذه الاية فالرقود هنا هو المكان الذي يأوي اليه الانسان وقد بينا ذلك في الحلقة الاولى فالمرقد هو (مكان) الانسان الذي يقبع فيه في البرزخ ولا يقصد به القبر الموجود في المدافن

ويقول صاحب معجم صحاح اللغة ان من أَرْقَدَ بالمكان: أقام به.

وقد ورد في تفسير الامام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية ما يوافق هذا المفهوم فقد جاء فيه ما نصه }قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} يعنون: قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم، { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا }؟ وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد. قال أبي بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والحسن وقتادة: ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة: وذلك بين النفختين، فلذلك يقولون: من بعثنا من مرقدنا؟ فإذا قالوا ذلك، أجابهم المؤمنون، قاله غير واحد من السلف: {وَهَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ} وقال الحسن: إنما يجيبهم بذلك الملائكة، ولا منافاة، إذ الجمع ممكن، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ويقول الامام الشوكاني في تفسيره فتح القدير قريب من هذ المعنى فقال ({ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياماً

فهنا نفهم من هذه الآية ان بعد البرزخ يأتي زمن يسمّى عالم البعث، تتلقى فيه كلُّ روح جسماً محسوساً بيناً، صالحة كانت تلك الروح أم طالحة. وقد قُدِّر يوم ذلك المحشر للتجليات الربانية الكاملة، التي بفضلها يعرف كلُّ إنسان ربَّه حق العرفان، ويبلغ كلُّ واحد عندئذ الذروةَ من جزائه

أن المنكرين لهذه النصوص ولتفاسيرها يرتكزون على حجج لا بد من أن نتفهمها، إذ ان أصحاب المدرسة التقليدية يعتنقون مذهبا للعذاب على انه يقع للجسد المادي وإن هذا الجسد نفسه سيُبعث يوم القيامة وعلى ان العذاب في عالم البرزخ عذاب معنوي في حين ان هناك الكثير من الأحاديث التي تفيد بوقوع العذاب على أجزاء من الجسم كالرأس والعضلات وغيرها. اما المدرسة القرانية تنكر وجود عذاب القبر بسبب الحرفية السقيمة التي أشرنا إليها في فهم النصوص المتعلقة بعالم الآخرة وهو ما أدخل المدرستين في نزاع كبير.

ان الانسان مع روحه لا يستطيع ان يعيش باستقلال عن الجسد البتة، وترى الروح تتأثر لو ان الجسد اصابه عطل أو مرض، وان الروح تفارق الجسد ان تعرض للأضرار، و مما اختلط على الناس هو فهم العلاقة بين هذين الإثنين، فالناس تظن ان الروح منفصلة عن الجسد وان وجودها يختلف عن وجود الجسم وانها تحل بداخله، غير ان المتابع للأحاديث النبوية ومن قبلها الآيات القرآنية يستدل على ان الروح هو جوهر لطيف نشئ في الجسم وتولد منه ومرتبط به وان حل

بمُركب الروح اي الجسد أي عطل تتأثر به الروح مباشرة وان تعطل الجسد غابت الروح عنه ومات وماتت، فالله تعالى لم يذكر في كتابه ان الروح حلت في الجسد بعد ان تكون او بعد ان بلغت مرحلة ما، بل قال: }هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} غافر 67وتلاحظون في هذه الآية سرد توصيفي لمراحل نمو الانسان الذي تكرر في مواضع عدة في القرآن الكريم، ومما اختلط على الناس قوله تعالى في اكثر من موضع عن نفخ الروح فظن الناس ان الروح في تلك الايات هو الذات الانسانية ، ولكن المتبصر في كتابه عِزّ وَجَل يعلم ان نفخ الروح لا يتعلق البتة بخلق الانسان انما يتعلق بالأنبياء وبعثتهم، أي نزول الوحي و بلوغ مرتبة عالية من الروحانية، حيث يقولالله تعالى :

}وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}الأنبياء 91

}وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} التحريم 12}فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} مريم

17وقال عن سيدنا آدم عَلَيه السّلام}فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} الحجر9

وهذه الآية توَهم بها بعض الناس ان الله تعالى ينفخ في الانسان الروح، مع ان القراءة البسيطة والمتأنية للآية تدل على خلاف ما اعتاد عليه عوام الناس، فالآية توضِح وتقول فاذا سويته اي بعد اتمام خلقِه لا يكون الا ببعث الروح في الهيكل الطيني للإنسان، كما اننا اوضحنا في مقال قديم بأن آدم عَلَيه السّلام ليس اول البشر انما كان أول الأنبياء، وان نفخ الروح فيه تعني الايذان بنزول الوحي على بني الانسان للالتزام بهدي الله وشريعته.

ولعل ما ورد في سورة السجدة يبين ان مراحل خلقِ الانسان سبقت سيدنا آدم عَلَيه السّلام، فكان اول خلق الانسان من طين ومن ثم تحول الانسان من مراحل التكاثر الطيني الى مراحل التكاثر المائي وعندها اكتملت قدرات الانسان العقلية بعد اكتمال حواسه فاستوى خلقه وعندما استوت خِلقتُ البشر تأهلت الى ان تحمل الرسالة، ولتنبعث فيها الروحانية باستقبال النبوة حيث قال الله تعالى فيها:الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ{7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ{8} ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ{9} (السجدة) فإن نفخ الروح ونفثها في اكثر من موضع بالقران الكريم جاءت بعد تسوية الانسان واكمال خلقه، فنفس الإنسان كانت موجودة فيه عندما كان في مراحله الطينية الا انه ما

ارتقى روحيا الا بعد بعثة آدم عَلَيه السّلام الذي كان إيذانا بالحج نحو هدي الأنبياء رسل الله تعالى.

من بعد هذه المقدمة الطويلة نكتشف ان الروح لا تحل بالإنسان كما يتوهم البعض، وهو كما اشارت اليه آيات خلق الانسان في القرآن الكريم، غير ان ما يُفهم من الاحاديث النبوية التي اشارت الى نفخ الروح في الجنين بعد مرور اربعة اشهر من تكوينه لا بد ان يأخذ ضمن التوصيف القرآني اعلاه لا ان يحيد عنه، فالروح تنشأ من خلال نشأة جسد الإنسان وهي جوهر لطيف او نور مكنون في نطفة الانسان يتجلى في نفسه في مراحل النطفية والدنيوية وما بعدها، ويكتفي ان نشير الى ان نطف الانسان وباعتراف العلماء انها نطف تكون حية وميتة وبالتالي فان الروح في الانسان توجد في مرحلة النطفة كنور مكنون فيه ينتقل معه عندما يتطور الى جنين ومن ثم الى طفل ومن ثم الى رجل فشيخ ومن ثم الى النشأة الأخرى ومما تقدم نستدل على ان الروح لا تستطيع ان تستقل بنفسها بل لا بد لها من جسد تقبع فيه وتنير ظلماته. وان ما ورد في الاحاديث فعلى الأغلب له فهم خاص حسب سياقه، ولا يجب ان نأخذ بما يناقض صريح آيات القرآن الكريم.

خلاصة ما فصلنا ان الروح نور مكنون في الجسد ينتقل معه في مراحله كلها من النطفة الى مرحلة الدنيوية وبالتالي فان الإنسان بعد الموت لا يكون شاذا عن المراحل التي سبقت الموت فالروح بحاجة الى جسد، وهو جسد آخر غير الذي يدفن في المقبرة والذي سيبلى في وقت آخر. وما أشكل على الناس وبسببه انكروا عذاب القبر ونعيمه على ان مرحلة القبر هي مرحلة روحية إلا ان المستحصل من الأحاديث النبوية يدل على ان للانسان جسد واضلاع وغيرها من الامور التي يحصل عليها العذاب من ضم وتحطيم ، وهنا نقول ان جسد الانسان في مرحلة البرزخ هو جسد روحي يتمثل فيه أعمال الإنسان في الحياة الدنيا فيتحول إيمانه وعبادته الى أشياء مادية تتجلى عليه بصورة لا يدركها العقل البتة لان ما يتعلق بعالم البرزخ وكما اوضحنا في الحلقة الاولى لا يمكننا ادراكه بعقولنا لان العقل قاصر على بلوغ مرحلة عين اليقين، فكما ان الرضيع لا يستطيع ان يفهم الحياة الدنيا في مقتبل عمره الذي هو واسع على وعيه، هكذا هو الانسان في الحياة الدنيا بالنسبة الى الحياة الآخرة التي يبدأ بعالم البرزخ، فعقلنا وحواسنا قاصرة عن فهمه لذا يلجأ الوحي الى التشبيه حتى يقرب الامر للناس فيقول انكم لا تستطيعون فهم النشأة الاخرى بل قيسوا على نشأتكم التي انتم فيها، فيقول الله تعالى في سورة الواقعة:

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ{60} عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ{61} وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ{62}

أيها الناس لقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكّرون لأن نشأة الاخرى ستنشأ في ما لا تعلمون،

وبالتالي ان فهم هذه الآية سيحل مسألة الخلاف بين القائلين بعذاب القبر ونعيمه وبين المنكرين له، فالقائلين به يظنون ان جسد الانسان الدنيوي هو من سيعذب ومن يقول منهم بالعذاب الروحي يصطدم بالاحاديث التي تروي اصناف العذاب التي تصب على جسد الانسان في البرزخ التي ينكرها وينكرها الطرف الآخر الذي ينكر عذاب القبر ونعيمه برمته .

ان الانسان في الحياة البرزخية سينتقل الى طور من الحياة مختلف عن الذي نعيشه الان، وسيكتسب قوى مختلفة تؤهله للتنعم بالآخرة او تحمل عذابها، والأجسام ستكون اما نورانية او ظلامية فقد ورد في القرآن الكريم وصف لتلك الأجسام في عدة آيات نذكر منها:

}وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} الزمر

60

}يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} آل عمران 106

}يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الحديد 12

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} الأنعام 31

ان كل هذه الآيات وغيرها تتحدث عن تحول الأعمال التي نعملها في الدنيا الى تمثُلات عينية في الاخرة ابتداءً من عالم البرزخ باستمرار ليوم القيامة، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم عن تمييز الكافرين من المؤمنين في سورة عبس:

وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ{38} ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ{39} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ{40} تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ{41} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ{42}

ونحن نعرف ان وجوه المؤمنين والكافرين في هذه الدنيا غير متمايزة ولكنها في الاخرة ستختلف حتى يتبين المؤمن من الكافر من خلال علامات واضحة، ويقول الله تعالى

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} الرحمن 41

لذا من خلال تلك العلامات والسِّيم سيستطيع أصحاب الأعراف التمييز بين اهل الايمان واهل الكفر، فيقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم:

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} الأعراف 46

ولو كان الحشر في جسد الدنيا ما استطاع اي أحد تمييز المؤمن من الكافر البتة.

وقد ورد في الحديث الشريف قول النبي الكريم صَلَّى اللَّه عَلَيه وَسَلَّم

)عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ )صحيح البخاري( فنشأتُ الانسان الأخروية ستكون نشأة اخرى فيما لا نعلم فقال الله تعالى {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} النجم 47

وقال ايضا {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} الواقعة 61

لذلك فان جسم الانسان سيكون على هيئة مختلفة ليتنعم بنعيم الآخرة كما كان الجنين يتلقى الغذاء وهو في بطن امه من خلال الحبل السري والغذاء يسري في جسده عن طريق الدم دون اية لذة، عندما ينتقل الى الحياة الدنيا سيتذوق الطعام وسيقول ما احلى هذا الطعام وما ألذه

تماما حال المؤمن في الآخرة كمثال الجنين والوليد فالمؤمن يقوم بالعبادات والعمل الصالح ويكابد نفسه ويصابر على الشقاء والابتلاءات، لكن في حياته الأخرى سيُكشف عنه الغطاء وسيشعر

بتلك العبادات والتضحيات بلذة وطاقة جديدة، وسيكون ايمانه جنته وسيمتثِل له كأشجار ترويها المياه، والماء هو اعماله الصالحة ولذا سيتلذذ المؤمن بعبادته في الاخرة وستكون له لذة كالجنس والطعام في الدنيا بل هي اكبر وأبرز

يقول الله تعالى:

1 – {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} محمد 35

2 – {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} محمد 15

وأرجوا الانتباه الى عبارة “مثل الجنة” فالجنة وصفها الله تعالى بأمور يقربها لنا فالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر عقلب بشر

فالإنسان في مرحلة الآخرة له طعامه وشرابه كما كان في الدنيا لكنه يختلف فطعام الانسان وشرابه في الدنيا يلام جسده المادي اما في الاخرة فان طعامه وشرابه سيختلفان ، فيقول الله تعالى في كتابه الكريم عن الإيمان والكلمة الصالحة بانه كشجرة تؤتي اكلها كل حين، اي تؤتي اكلها للحي في الدنيا وفي البرزخ وفي الاخرة فهو يأكل منها ويتقوى يقول الله تعالى في سورة ابراهيم

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء{24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ{25}

فالتزود في الاخرة يكون عن طريق الايمان والتقوى حيث قال الله تعالى )تَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )

وهو ما اشار اليه الله تعالى في كتابه الكريم في قوله

}وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة25

فقد رزق الانسان المؤمن من رزق الآخرة في الدنيا ودخل جنة الله الارضية وهي كما قلنا جنة روحية تتنعم فيها الروح بذكر الله وتسكن الى بارئها لا كما يظن الناس بان رزق الجنة الطعام والفواكه فهذا الرزق قد رزق الله به المؤمن والكافر في الدنيا انما هذا الرزق هو من ثمر شجرة كلمة طيبة التي تؤتي أكلها كل حين لذا قال الله تعالى في كتابه الكريم

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }الرحمن46

وهي جنة في الدنيا وجنة في الاخرة

قال العلماء (ان لله جنتان جنة في الدنيا وجنة في الاخرة فمن لم يدخل جنة الدنيا لن يدخل جنة الاخرة) بينما قال عن من كفر بربه وعاند، بانه لن يكون له رزق وسيحرم من النعم الحقيقة وتكون روحه عليلة محرومة من غذائها فيصبح الكافر بالله تعالى عليلا سقيما، فقد قال الله تعالى عنه في سورة ابراهيم

{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }إبراهيم 26

وخلاصة القول في هذا الامر ان الانسان كما كان له طعام وشراب وهو في مرحلة النطفة وفي مرحلة الجنينية وفي مرحلة الحياة الدنيا سيكون له ايضا طعام وشراب في العالم الاخروي وطعامه وشرابه هو ايمانه وعباداته وعمله الصالح حيث يقول الله تعالى (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)

ويبقى السؤال الأهم هل ان مرحلة البرزخ مرحلة جديدة على الانسان؟

الجواب هو بالطبع كلا، فالله تعالى اعطانا شيئا نتذوق به الحالة البرزخية وهو المنامات حيث تخلق عوالم واجساد يتعامل معها الانسان، من العدم وتؤثر فيه فان راى الانسان في منامه نارا يصبح الصبح وقد يصاب بالحمى او يرى كابوسا فيجعله يمتنع عن الطعام ويزعج مزاجه بل وقد يصيب جسمه بالضرر. ان الموت كما تقول العرب اخر النوم وهو حالة يعرفنا الله بها على العالم الذي سننتقل اليه في يوم ما وعندما ندخله سنراه عالما ليس بالغريب عنا بل هو حصائد اعمالنا وحصائد ما جنيناه فمن حصد خيرا فسيتنعم بنعيم الجنة ومن كان غير هذا فيولي الله ما تولى.