من بات كهلا مثلي لابد يتذكر مسلسلا عراقيا بعنوان “الاماني الضالّة”، الذي طرأ على بالي مع تذاكر امانٍ ساذجة للبشر على مدى الحقب و الازمان بدءا من امنية كلكامش في الخلود مرورا بقصص فاوست و بيجماليون وصولا لتفكير الرعناوات اليوم في شباب دائم من خلال دكاكين التقبيح. أنهم يغفلون عن حقائق هي ناموس الخليقة، و لو وعوا /وعَينَ تداعيات تحقيق تلك الاماني “ان تحققت أصلا، و لن و لم تتحقق” على كل ما يحيط بهم على المديين القصير و البعيد لولّوا فرارا من فساد تفكيرهم. الكارثة الأخطر حين تخرج تلك الاماني من نطاق الفرد الى الجماعة، فما بالك لو كانت تلك الجماعة حاكمة لبلد وبالتالي تكون شطحاتهم الفكرية نافذة ومؤثرة على الرعيّة!!!!
ارتبطت رغبة صناعة “الانسان الخارق، او المتميز” منذ أكثر من قرن بتعطش الأنظمة الحاكمة للسيطرة الطاغية من خلال “صناعة” جيل او أجيال بقدرات جسدية او عقلية او الاثنين معا تمكنها من التفوق في الحرب والعلم والاقتصاد. هنا كانت فكرة انشاء المراكز التعليمية/المدارس/الجامعات إحدى أهم الأدوات لتحقيق هذا الطموح، سواء عبر إعداد النخب الفكرية أو صقل جيل جديد من الجنود والعلماء. أي استعراض لشطحات التأريخ الحديث لن يحيد عن البدء بالتجربة النازية، حيث سعى هتلر فور استيلاءه على الحكم عام 1933الى انشاء مدارس خاصة بالنخبة، حيث أُنشئت مدارس النخبة مثل مدارس نابولا(Nationalpolitische Erziehungsanstalten – Napolas)، التي وصل عددها بحلول عام 1945 إلى أكثر من 40 مدرسة. كذلك أُنشئت مدارس أوردنسبورغ (Ordensburgen) لإعداد القيادات العليا في الحزب النازي. و قد كان الهوس بتفوق العرق الآري و حتمية غرس العقيدة النازية و الولاء المطلق للقيادة حتى في عملية اخضاع العلوم و المعارف، هي الدوافع الأساس لذلك. رغم نجاح التجربة نسبيا في تكوين جيل من الشباب المتحمس والمؤدلج، لكن فشلت في إنتاج عقول علمية خلاقة، حيث ان كبار العلماء الألمان الذين أسهموا فعلًا في التقدم التكنولوجي (مثل فيرنر فون براون، رائد برنامج الصواريخ V-2) لم يتخرجوا من هذه المدارس بل من جامعات تقليدية، و لقد سقطت تلك التجربة التعليمية النازية مع سقوط النظام عام 1945، وبقيت مثالًا على كيفية خنق الابداع بتطويقه بالأيديولوجيا. حيث كانت البداية مع النازي فلست أرى أقرب من ذلك الهوس سوى التجربة السوفيتية التي اطلقت العنان لامثالتلك الأمنية. بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها عام 1945، أرادت السلطة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي تكوين “الإنسان السوفيتي الجديد” Homo Sovieticus “، على ان يكون عقلانيا، منضبطا، ومتفوقا في العلوم. من هنا بدأت الدولة منذ أواخر الأربعينيات، في تأسيس مدارس متخصصة للرياضيات والعلوم، مثل مدرسة كولموغوروف في موسكو (1963)، التي خرّجت أجيالًا من علماء الرياضيات. و التي حققت إنجازات علمية كبيرة مثل إطلاق أول قمر صناعي “سبوتنيك“، بفضل نخبة من العلماء الذين تدرّبوا في هذا النظام التعليم، إرسال أول إنسان إلى الفضاء، يوري غاغارين1961، وهو نتاج منظومة تعليمية وعسكرية صارمة. إضافة للهيمنة على الأولمبيادات العلمية منذ الخمسينيات، حيث برز الطلاب السوفييت في الرياضيات والفيزياء. لكن بأي ثمن؟ لقد ادّى التعامل المتشدد مع الطلبة، بأعمار مختلفة قد تبدأ منذ الدراسة المتوسطة، الى رفع مستوى الضغط النفسي نتيجة لاجواء التنافس شديد، و التهديد بقطع التمويل او الطرد عند الفشل، وغالبًا على حساب صحتهم النفسية. ذلك إضافة لهوس القائمين على السلطة بأدلجة المناهج و المزج بين العلوم والإيديولوجيا الماركسية–اللينينية. بالنتيجة الحتمية و مع انهيار القبضة الحديدية عام 1991 انطلق نزيف العقول حيث هاجر كثير من هذه النخب العلمية إلى الغرب، خصوصًا الولايات المتحدة وإسرائيل، ما كشف هشاشة و حمق المشروع. بالتوازي او كردّ فعل للمشروع السوفيتي انطلقت التجربة الأميركية و الغربية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث اهتاج الوضع لدى القيادة الأميركية مع انطلاق “سبوتنيك” عام 1957، اذ شعرت الولايات المتحدة بتهديد مباشر، فأطلقت برامج تعليمية خاصة مثل برنامج الموهوبين الوطني(National Defense Education Act, 1958)، حيث ظهرت مراكز تعليمية وجامعات بحثية مدعومة من الحكومة مثل MIT وStanford كمحركات للتفوق العلمي، و قد استلهمت بعض دروس الإخفاقات المذكورة سابقا، فحققت نجاحات، مثل نجاح برنامج “أبولو” في إرسال الإنسان إلى القمر1969، بفضل نخب علمية وتكنولوجية تخرجت من تلك المراكز. و صعود وادي السيليكون منذ ثمانينيات القرن الماضي كمركز للإبداع التكنولوجي، مدعوم بخريجي الجامعات النخبوية. بينما ركز الغرب على الإبداع الفردي والتجريب، مما أتاح ثورات علمية في الحوسبة، الإنترنت، والبيولوجيا الجزيئية. لكن ذلك لم يكن دون دفع ضرائب باهظة جدا لعل اقلّها الانفاق الهائل الذي أثقل كاهل الموازنات الوطنية و اثّر تاثيرا كبيرا على الاقتصاد و الخدمات المحلية. كان اتساع الفجوة التعليمية بين أبناء الوطن الواحد ابرز تلك الضرائب، اذ ان مدارس النخبة في الغرب باتت تخرّج قادة المستقبل، بينما بقيت غالبية الطلاب في نظام تعليمي أقل جودة، بل و انخفضت موارده نتيجة تحويلها للنخبة. لقد أوردت العديد من مراكز جمع البيانات العالمية ارتفاع معدلات القلق والانتحار بين الطلاب الموهوبين نتيجة الضغوط النفسية في بيئات شديدة التنافس مثل مدارس Ivy League.
حيث ان الهمّ عندي عراقي أولا، فانني “اخمّن” ان الهاجس المتصاعد اليوم عندنا مردّه، التقليد للتجربة الصينية الحديثة التي بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي و تصاعدت وتيرتها في العقدين الأخيرين. ظهرت في التسعينيات برامج وطنية لتطوير التعليم في العلوم والهندسة كجزء من خطة “التحديثات الأربعة“، و مع مطلع القرن الحادي والعشرين، أطلقت الصين مشاريع طموحة لصناعة “العقل المتميز” ضمن خططها للتحول إلى قوة عظمى. إضافة لما سبق شرعت الصين لانشاء مراكز الموهوبين والذكاء الاصطناعي حيث ظهرت مدارس وجامعات نخبوية، مثل جامعة تسينغهوا وجامعة بكين، التي باتت تُلقب بـ”هارفارد الشرق“. و كانت الصين قد أعلنت رسميًا عام 2017عن استراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية، وافتتحت “مدارس الذكاء الاصطناعي” للأطفال والشباب، بالتوازي مع برامج مثل برنامج الألف موهبة (Thousand Talents Program)، الذي يجذب العلماء الصينيين من الخارج، وأحيانًا حتى علماء غربيين، للانضمام إلى مشاريع الدولة. مع تفوق الصين على الولايات المتحدة في عدد الأوراق البحثية المنشورة في الذكاء الاصطناعي، و اطلاق مهمة “تشانغ آه” إلى القمر وتعيد عينات من سطحه عام 2020، بدعم من نخبة مهندسيها، فقد ظهرت العديد من الآثار السلبية ابرزها ارتفاع مستويات الانهيار النفسي و معدلات الانتحار نتيجة الضغط نفسي الشديد الذي تشّكله امثال نظام “غاوكاو“ (امتحان القبول الجامعي الصيني) الذي ُيعدّ من أصعب الامتحانات في العالم، ويدفع الطلاب إلى معدلات انتحار مرتفعة نسبيًا. أيضا فقد سجّلت مراكز المعلومات خلق تفاوت طبقي واضح اذ ان المدارس النخبوية تتركز في المدن الكبرى (بكين، شنغهاي)، بينما يظل الطلاب في الأقاليم أقل حظًا.
الخلاصة مما سبق، يمكن القول ان تاريخ المراكز التعليمية لصناعة “الإنسان المتميز” يكشف بوضوح أن النجاح الحقيقي لا يكمن فقط في بناء نخب علميةفاقدة للتدرج الطبيعي لحياة الانسان، بل في توفير بيئة تسمح للإبداع بالازدهار دون قمع أو أدلجة. فقد أخفق النازيون لأنهم حوّلوا التعليم إلى أداة أيديولوجية، بينما نجح السوفييت علميًا لكنهم فشلوا إنسانيًا، و رغم ان الغرب قدّم نموذجًا أكثر مرونة وابتكارًا، لكنه أنتج تحديات اجتماعية ونفسية جديدة، و أنسجة مجتمعية اقرب للانحلال و التفكك. يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن بناء مراكز تعليمية تصنع “إنسانًا متميزًا” يجمع بين الذكاء والإبداع والإنسانية معًا، دون أن يسقط في فخاخ الماضي؟
أليس الاسلم و الاصح انفاق تلك الأموال الهائلة و الجهود المضنية بشريا و إداريا في رفع مستوى التعليم برمّته و تزويدها بالمستلزمات المطلوبة لتوفير الفرص المتكافئة لكل الطبقات مع إيجاد حوافز للتفوق في كل المجالات و بالتالي خلق مجتمع متوازن يعيش افراده حيواتهم بكل تفاصيلها الإنسانية بدلا عن استعبادهم الات و أدوات فاقدة للإحساس و الروح؟ ناهيكم عن رفع الضغوط الهائلة على عوائل الطلبة و بالتالي رفع مستويات التوتر المجتمعي نتيجة شحّة الموارد الفردية في مجتمع يعاني أصلا من الطبقية…….
هل من سمّاع؟ لا اعتقد، لكنها حصاة “ربما” تحرك راكدا، و الله من وراء القصد.