القسم الثالث
لقد روج دعاة الفساد الإداري والمالي والتربوي فكرة تأسيس المدارس الأهلية ، بالعمل على تخلف وتدني مستوى التعليم الحكومي ، وقد ساعدهم في ذلك أجواء الإضطراب والفوضى والإرتباك الإداري العام ، العاصف بريح الفاسدين والفاشلين الطارئين على إدارة التعليم العام بعد الإحتلال ، إضافة إلى عقد النقص المتمثلة في فهم البعض ، من أن التعليم الأهلي مصنع الشخصيات الحكومية وأصحاب الشهادات العليا في الإختصاصات العلمية ، إنطلاقا من المقارنة الخاطئة بين ماضي التعليم الأهلي بكل صور نقائه وصفائه ، وبين حاضره الملوث بكل عناصر المساوئ والفساد ، وفهمه البعض الآخر على أنه وسيلة لمحاربة ظاهرة اللجوء إلى التدريس الخصوصي ، وفضله الأغنياء لما فيه من المزايا الترفيهية التي لا تحققها المدارس الحكومية لأبنائهم ، ويعتقد الأغلبية ويؤمنون ، بأن لا جدوى من المدارس الأهلية إلا فيما يتعلق بتحقيق رغبات وأهواء العوائل المتمكنة ماديا ، وهي ليست أكثر من أدوات ووسائل للكسب والربح المادي الفاحش ، القائم على حساب حرمان التلاميذ والطلاب الفقراء من التعليم الجيد وبالمستوى المطلوب ، ولأن التعليم الأهلي ليس هو الحل البديل الصحيح والسليم ، وبلسم معالجة مشاكل التعليم بكل تفاصيل مقتضياته ومتطلباته ، فإن التشريعات المتكئة على التوجهات السياسية الحاكمة للبلاد بعد الإحتلال ، جعلت مما يمكن تحقيقه منه بعيد المنال ، وساعدت على نشر الثقافات الخاطئة في الفهم والإدراك ، حيث نص البند (أولا) من المادة (31) من قانون وزارة التربية ، على أن ( يحدد مجلس الوزراء بتعليمات ، مقدار الأجور التي تستوفى عن منح الإجازة بتأسيس الروضة أو المدرسة أو المعهد وتجديدها ) ، و ( تؤول المبالغ المستوفاة بموجب أحكام البند (أولا) من هذه المادة إلى صندوق التربية ) حسب نص البند (ثالثا) من المادة ذاتها ، إلا إن ذلك لا ينسجم ولا يتناسب ولا يتوافق مع نص البند (رابعا) ، حين تحدد الروضة والمدرسة والمعهد ، مقدار الأجور السنوية التي تستوفى من الأطفال والطلاب ؟!، بشكل كيفي وبدون أية ضوابط إدارية ومالية ، وبمقياس الأضعاف عما تستوفيه الجهة الرسمية المانحة للإجازة ، ناهيك عما يغدقه نص المادة (29) من النظام ، حيث ( للمؤسسات التعليمية الأهلية قبول التبرعات والهبات والإعانات النقدية والعينية من الأشخاص والمؤسسات الوطنية والأجنبية بموافقة الوزارة وفقا للقانون ) ، على الرغم مما في ذلك من تشجيع فاضح على فساد الذمم وتفشي الرشوة وأخواتها ؟!، مع عدم المتابعة والمراقبة والتنظيم الضامن لخضوع المدارس الأهلية لإجراءات التحاسب الضريبي السنوي ، أو إستيفاء مقادير الرسوم والضرائب من العاملين فيها أسوة بما يؤديه العاملون في المدارس الحكومية ، أو أي نوع من إجراءات الرقابة الإدارية والتدقيق المالي والحسابي الخاص بالحانوت المدرسي على سبيل المثال لا الحصر ؟!.
* أن المدارس الأهلية تخالف بالمطلق توجهات الدولة في فرض تطبيق مجانية التعليم روحا ونصا إجتماعيا وإقتصاديا وتشريعيا ؟!، كما إنها تتباعد بإتجاهات الضد من تحقيق إلزامية التعليم في المرحلة الإبتدائية ؟!. حيث لم يكن لأهداف نظام التعليم الأهلي والأجنبي رقم (5) لسنة 2013 ، الصادر إستنادا لأحكام المادة (42/ ثانيا) من قانون وزارة التربية رقم (22) لسنة 2011 ، غير المبالغة في الوصف أو التوصيف لما ستضطلع به مدارس التعليم الأهلي ، إلى حد الغلو والتطرف التعليمي والإداري التربوي ، الذي لمسناه فيما نصت عليه المادة (1) منه ، على ما يمكن تحقيقه من الأهداف في بلد الموارد والإمكانيات المادية والبشرية الهائلة ، وعلى ما يوجب إعادة النظر فيها كما يأتي :-
أولا- لعل من غير المستحسن إن لم يكن من غير الإنصاف ، أن نعهد إلى التعليم الأهلي مسؤولية ( تطوير قطاع التربية والتعليم ، ورفده بالمستجدات التربوية والتعليمية والتقنية ، وتعزيز التعاون بين المؤسسات الأهلية والرسمية في جميع مراحل التعليم وأنواعه ) ، لأن التعليم الأهلي وإن كان هو الأساس المعتمد عند تطبيق نظام المعارف العامة العثماني الصادر في24/ جمادى الأولى /1286 هجرية الموافق لسنة 1866 ميلادية ، إلا إن إلغاءه بموجب قانون المعارف العامة رقم (28) لسنة 1929 ، جعل من التعليم الحكومي منبعا يرفد التعليم الأهلي بما لا يملك من إمكانيات وقدرات بشرية وتنظيمية متعددة منذ ذلك التأريخ ، وليس العكس إن لم نقل قبل ذلك التأريخ ، حيث نصت المادة (16) من القانون الأساسي العراقي لسنة 1925(1) ، على إن ( للطوائف المختلفة حق تأسيس المدارس لتعليم أفرادها بلغاتها الخاصة والإحتفاظ بها ، على أن يكون ذلك موافقا للمناهج العامة التي تعين قانونا ) ، وهو تأكيد ودليل على المباشرة في تقليص مساحة التعليم الأهلي منذ ذلك الحين ، كما نصت المادة (12) من نظام التعليم الأهلي النافذ حاليا ، على أن ( يكون مدير المؤسسة التعليمية الأهلية مسؤلا عن تطبيق أحكام هذا النظام والتشريعات المطبقة في وزارة التربية ) ، وهذا النص الحاكم الشامل للتعليم الأهلي على وفق التشريعات التربوية النافذة ، يؤكد وجوب عدم التقليل من شأن التعليم الحكومي ، وبما يؤدي إلى تشجيع أغنياء أولياء أمور الأطفال والتلاميذ والطلاب ماديا ، إلى التوجه نحو التعليم الأهلي ظنا منهم بتفوق مستوى التعليم فيه ، مع عدم السماح بلامبالاة بعض أعضاء الهيئات التعليمية والتدريسية في بذل الجهود المتميزة في المدارس الحكومية ، بل وتركها والتوجه للعمل في المدارس الأهلية التي أصبحت عامل جذب للعاملين ، بفعل المردودات المالية غير المتيسرة في المدارس الحكومية ليس إلا ، لأن أساس إعداد وتدريب الهيئات التعليمية العاملة في المدارس الأهلية ، هو ذاته المنتج للهيئات التعليمية الحكومية ، كما إن توفر الأجهزة والمعدات الحديثة , مع جودة وحسن إستخدامها من قبل التلاميذ بشكل عام وصولا لطلب المعلومة ، جعل من الهيئات التعليمية الأهلية أو الحكومية ، عناصر مساعدة وليست رئيسة في التعليم الإبتدائي ، مما أدى إلى ضعف وإنخفاض مستوى تعاون عوائل التلاميذ مع إدارات تلك المدارس وخاصة الأهلية منها ، بسبب نظرة العلو للنظام التعليمي الأهلي على الحكومي وإن كان من غير إستحقاق حقيقي ؟!، حين النص فيه على ( الإستفادة من قدرات القطاع الخاص في تطوير التعليم في جمهورية العراق ونقل الخبرات الأجنبية في هذا المجال ) ، مما يؤكد غياب الرؤية لدى المشرع السياسي الطارئ أو الجديد ، الذي لم تسعفه البصيرة في تدارك الخطأ ، بأن ليس في العراق قطاع خاص للتعليم ، يمكن الإستفادة من قدراته الخاصة في تطوير التعليم ، إنما العكس هو القائم والصحيح ، حيث يستند التعليم الأهلي إلى أسس التعليم الحكومي دائم الحركة والتشغيل بنصوص أحكامه منذ نشأته ، من حيث الدراسة والمناهج وتطبيق الأنظمة التربوية والإشراف والمتابعة والإمتحانات ، وبالإستفادة من فائض المعلمين والمعلمات والمدرسين والمدرسات لإعداد ملاك التعليم أو التدريس لمدارس الفتح الجديد ، وبذلك نلقي بحجتنا على من يقول بتميز أداء الهيئات التعليمية والتدريسية في المدارس الأهلية على المدارس الحكومية ، بإستثناء حالات غياب وخز الضمير وعدم بذل ما تتطلبه المهنة من جهد متميز ومخلص ودؤوب ، إلا على أساس الفرق في الرواتب والإمتيازات المادية ، وتلك من المظاهر والعوامل المساعدة على شيوع الفساد الإداري والمالي والتربوي في قطاع التربية والتعليم .
ثانيا- لقد شجع نظام التعليم الأهلي والأجنبي على تسابق أصحاب رؤوس الأموال على إستثمار ما يملكونه لغرض الكسب والتربح المادي في مجال خصب ونظيف ، حيث لم نسمع من عديد مؤسسي وإدارات المدارس الأهلية ، غير لهاث المتسابقين على منافع ومغانم المدارس الأهلية وإمتيازاتها المرتبطة بإمكانيات العوائل الميسورة ، وما يغدقونه عليهم من الهدايا والخدمات المجانية ، ولا أدري إن كان لدى وزارة التربية ما تؤكد بموجبه ، مساهمة التعليم الأهلي في ( تشجيع المبادرات في مجال البحوث التربوية والإستفادة منها ، وتطوير المناهج وطرائق التعليم ، وتدريب المعلمين والمدرسين وتطوير إدارة المؤسسات التعليمية ) ، ومؤهلات المؤسسين غير التعليمية ولا التربوية تساعد على المعدوم من ذلك بمطلق اليقين .
ثالثا- إن جعل الحكومة من أهداف التعليم الأهلي ( تأمين فرص عمل جديدة للعاملين في مجال التربية والتعليم من معلمين ومدرسين وإداريين وغيرهم ) ، برهان على إخفاقها وفشلها في تأمين فرص العمل للخريجين من ذوي المؤهل التربوي وغيرهم من العاطلين عن العمل ، مع إيجاد سبيل قانوني لتسرب الملاكات التعليمية والتدريسة من مواضع العمل الحكومي إلى الأهلي ؟!، كما إن ( تأمين فرص تعليم نوعي متطور ومتنوع لمختلف شرائح المجتمع بما ينسجم مع حاجات التنمية ) ، إقرار رسمي بعدم تأمين تلك الفرص عن طريق التعليم الحكومي ، مع إن التعليم الأهلي لا يجعل المعلم والمدرس فيه ، من ذوي المواصفات العلمية التي تفوق أقرانه من حيث المؤهلات المطلوبة في المدارس الحكومية ، حيث نصت المادة (20) من النظام ، على أن ( يشترط في من يدرس في المؤسسة التعليمية الأهلية ، أن يحمل ذات المؤهلات العلمية والتربوية الواجب توافرها في عضو الهيئة التعليمية والتدريسية في المؤسسات الحكومية ) وليس العكس ، وهو ما لاحظناه من إستخدام الخريجين الجدد أو القدامى من العاطلين عن العمل لأي سبب كان ، للقيام بمهام التعليم والتدريس في المدارس الأهلية ، وليس قدماء المعلمين والمدرسين من المتقاعدين بشكل مطلق ، أما المهارة الفردية والكفاءة والخبرة المستمدة من التجربة العملية في المدارس الحكومية ، فينبغي المحافظة عليها وعدم التفريط بها ، من أجل نجاح المدارس الأهلية على حساب فشل وتدني مستوى التعليم أو التدريس في المدارس الحكومية .
رابعا- ليس هنالك من سبيل عملي وواقعي من غير ربط المواطن بالوطن ، من خلال إحترامه وتوفير فرص العيش الكريم له ، وضمان حقوقه وممارسته لحرياته ، أما القول ب ( ربط المغتربين في الخارج بوطنهم من خلال فتح مؤسسات تعليمية أهلية مناسبة لهم داخل العراق وخارجه ) ، فلا ينطلق إلا من قول أفاك أشر ، يقصد به ومن خلاله تذليل أسباب الهجرة والإغتراب للمتمكنين من المواطنين ماديا فقط وليس للفقراء منهم ، كما لا نجد في عبارة ( فتح مؤسسات تعليمية أهلية مناسبة لهم داخل العراق ) من أثر أو علاقة بربط المغتربين بالوطن ، مما يتوجب حذف جملة ( داخل العراق ) إن لم يكن بالإمكان سياسيا حذف البند بكامله ، لتعارضه مع أهداف وغايات أسس روابط المواطن بالوطن .
خامسا- ربما يكون في ( تأمين فرص التعليم المناسبة لذوي الإحتياجات الخاصة ) من مبرر لفتح المدارس الأهلية في هذا المجال ، ولكننا نتساءل عن دور الدولة ومسؤوليتها تجاه الفقراء من المواطنين في ذات الإتجاه والمجال ، وما سيخلقه ذلك الإهتمام من تفرقة شائنة في تأمين حق فرص التعليم المناسبة لذوي الإحتياجات الخاصة بشكل عام ، ومن غير تمييز مخل بين المواطنين عند أداء الحكومة لواجباتها المماثلة .
سادسا- إن ( تشجيع المشاركة الشعبية ورأس المال الوطني والأجنبي في الإستثمار في مجال التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته في إطار تنظيمي جديد يجعله أكثر فعالية ) ، من أشد أخطاء وأخطار ما جاء به القانون والنظام ، لأن تشجيع الإستثمار في مجال التعليم ، مع كونه من الحقوق اللازمة والأساسية التي يتوجب على الدولة تأمينها وديمومة تقديمها للمواطن مجانا ، جعل من التعليم سلعة تباع على قارعة الطريق بأبخس الأثمان المتبادلة ، وكأنه مادة إستهلاكية صناعية أو زراعية معروضة للبيع من قبل صاحب الإجازة بعد مضي ثلاث سنوات على منح الإجازة ، بموافقة وزير التربية حسب نص البندين ( أولا وثانيا ) من المادة (9) من النظام ، كما جعل مدارس التعليم الأهلي إرثا لذوي المتوفى من المؤسسين حسب نص البند (ثالثا) من ذات المادة ؟!، مما يساعد على تبني الدعوة في طلب إلغائه ، بسبب تداعيات نتائج ما نحن بصدد دراسته ؟، حين نسمع نكران مؤسسي المدارس الأهلية ، مساعدة وزارة التربية لهم أو إستفادتهم منها بذات ما يقدمونه لها ، من مساعدة في تشغيل عدد من العاطلين والتكفل بتعليم وتدريس عدد من التلاميذ والطلاب خارج إمكانيات الوزارة ، متجاهلين إستثمارهم لطاقات وإمكانيات ومؤهلات بشرية لم يسهموا في إعدادها لمهنة التعليم والتدريس ، وأن التعليم الأهلي لا يتفق والحقوق الدستورية التي تلتزم الدولة بضمان تقديمها للمواطنين مجانا ، ليأتيك الجواب ومن غير علم ولا دراية ، وبدوافع الحرص على الإحتفاظ على جني ثمار المكاسب والمغانم المادية غير التربوية ، بأن دول العالم تعتمد على هكذا تعليم ونحن جزء منها ، لنقول لهم وبلسان عربي فصيح ، أن ليس في دساتير تلك الدول من نص يقضي بمجانية التعليم بكل أنواعه ومستوياته ومستلزماته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نشر القانون في مجموعة القوانين والأنظمة لسنة 1925 .