18 ديسمبر، 2024 8:24 م

مخلمة جلجامش -23-

مخلمة جلجامش -23-

23-

 

التاريخ متقلب المزاج، لست بحاجة إلى قائد تتري من اجل ان تكتب تاريخك بالدم، وتصبغ النهر بالازرق من الحبر، التاريخ بوابته المجد!، والمجدُ حمل كاذب خارج الرحم، الجميع سيغادر الحياة، لايوجد كلاو شرعي يبيح لك أن تقتل الناس من أجل إثبات خلودك في ذهن مواطن عراقي اسمه اطويرش!، اطويرش لايشتري مجدك وخلودك بدينار واحد، الدينار الأبيض في جيب اطويرش ينفعه في هذا الزمن الأسود الذي خبصنا فيه العالم بمجدك وخلودك وانت لاتستاهل عفطة عنز ياجلجامش…

هكذا حدّث اطويرش نفسه وهو يستمع الى اعترافات المحقق!!…[هل اصبح المحقق الاشيب الذي يحقق معي في محكمة التاريخ القديم صديقا حميماً لانني شتمت الآلهة ووصفتهم حسب فهمي بالناقصين!؟]…أنا جنوبي ولي سناين عشيرتي التي جاءت بعد اكثر من أربعة الاف وسبعمئة سنة من غياب جلجامش ومافيات الآلهة القديمة…التاريخ “وصلةُ مسحٍ” انظف حذائي بها…ويلمّعون به بطولاتهم!! …التاريخ الجيد ليس بحاجة الا إلى سيناريست ومخرج موهوم بالاكاذيب،صدَّقها، ويحاول اجبارنا على تصديقها!!..

بعد موت خمبابا والثور السماوي، اجتمع مجلس الالهة في احد الملاهي، اجتمع الالهة (آنو و انليل و إيا وشمش السماوي وعشتار المو..راحة!!) للتشاور بالطريقة التي يجب قتل جلجامش لان خطره ازداد كثيرا، مواقع التواصل الاجتماعية صنعت منه نجما شعبويا، اللايكات والشير تهطل بغزارة على كل جاهل او جاهلة لا يملكان سوى عرض مؤخراتهم في الستوريات…ربما هو إرث سومري أن يخرج عبقري واحد كل مئة سنة ويخرج الف طاكِـ تافه كل يوم!!..مجلس الآلهة يقرر بوجوب التخلص منه ، لكن المادة الرابعة من الدستور الاوروكي والمادة 225 من قانون العقوبات الاوروكي سنة 2600 ق.م.. يمنعان الآلهة من اغتيال آلهة أخرى، واعتبارها جريمة مخلة بالشرف الالهي، وانتهى المجلس بعدم الموافقة على اغتيال جلجامش… واستبدالها باغتيال انكيدو، موت انكيدو سيعاقب جلجامش ايضا لانه سيكون أشبه بوحيد القرن!!…ونقلت احدى صحف المعارضة ان الإله “انليل” دافع عن حيثية “انكيدو” كون انكيدو طعنه بهدية قيّمة!!…لكن كل ذلك لم يمنع الالهة من التوقيع على المرسوم الإلهي بالتخلص من انكيدو….

“جلجامش الذي رآى”، واطويرش الذي بكى، وبين المشهد والمرقد، مابين جلجامش واطويرش الذي إبيضت عيناه من العراق وهو كظيم، كيف يمكن لمزرعة الرموش ان لاتمطر ماءها بهذا المشهد السوريالي او السروالي الذي يحيط بنا؟  كيف يمكن لكائن مخلوق من ربع ترافة ،وربع نواعي، وربع محنة ،وربع ضيم، ان لايكف من البكاء على بلاد اغتصبوها واتهموها بالرذيلة ثم قالوا لأولادها احملوا الاحجار وارجموها..

عيون اطويرش لاتشبه عيون “إلزا” التي سودنت “اراغون”، لكنه يملك عينين اثنتين أعمتهما الحروب، من قال ان الحروب ليس باستطاعتها النظر الى موتاها وهم نائمين!؟ لكن اطويرش يملك قلبا مفطورا واحدا، هل قلت ان قلبه يشبه وجهه الذي تتجمع فوقه النوارس فيصبغها بالبكاء؟ هل قلت ان النوارس تبحث عن قلب جنوبي يسير على الماء مثل مشحوف جنوبي فلا يجد سوى البردي حين ينوح عليه وهو يمر مرور الجراح على ناياته؟ كيف يمكن لهذا الجسد الذي يترك انفاسه ببلادٍ، وروحه عند قبور اهله في النجف؟ يااطويرش… انا محتاجك كما لم احتج الى ثوبٍ يستر سوءتي عن الناس؟ بحاجة الى قلب يعرف تاريخي بعد أن تبرأت الوجوه مني وكأنني كنت في حفلة تنكرية، السلطان الذي أمر بنفيي مازال يصدر كل هذا الضجيج حتى لايسمع صوتي سوى الطرشان في وطنٍ اجروا له عملية رفع الزائدة الدودية، فأبدلوا قلبه بآخر صناعي ليس لوزارة الصناعة شأن فيه.

لنكن ثلاثة يا اطويرش: أنا وأنت ونحن، هذه الاصابع التي ترقص على الكيبورد أصابع لها عيون لايبصرها الا من كان له ضمير مثل ضميرك، ولنا عيون تركض لطلب النجدة من العوينات لنرى طريقا لم نكن نعترف بها يوماً ما، ولنا هذا القلب الذي يشبه وجهي ووجهك حين ترسم المأساة وجوه آبائنا وأمهاتنا واخواننا الذين سبقونا الى الدفان، أرأيت ان الهمزة في كلمة (أم) مرفوعة حتى يسمع الناس صراخها على بنيها، فيما الهمزة في كلمة(إخواننا) مكسورة مثل ضلع “وطني” وهو يفترش التراب بعيدا عنا؟! هل قلت لك كم كان الموت قريبا الى روحي التي أجاهد ان تنتظر صديقا يودعني وانا أزمع الرحيل الى هناك…حيث لا…هنا.

قالوا لي انك ستعمى، وانك ربما تفقد الضوء من عينيك اللتين ابيضتا من حزن عراقك، تصوّر ان الكون محشور بملايين العميان وانت المبصر الوحيد فيهم، سأقول لك انها القيامة يااطويرش، كثرت “العيون”  ولاصوت سوى زقزقة الروح وهي تحبو تحت سريرك المتخم بالقصب، اذن لتتعود منذ الان ان ترسم صور اهلك باصابعك المبصرة، عيونهم التي ستبصر اصابعك وانت تمررها على عيونهم وخدودهم وانوفهم، انت تعوّدت على رائحتهم، فلايضرك ان تركت هذه القضية، عليك ان تخطط لغد اعمى فيما لو صدق قلبك بالعزاء على العراق، ساطالب الجميع ان يمنعونك عن البكاء، سنقول لقلبك أن كل هذا الذي يجري كذب وبهتان يااطويرش، العراق ليس فيه جوع، كذب السيّاب وصدّقه الشعراء الغافون على قصائدهم، العراق يشكو من التخمة وليس بحاجة الا الى دعاء او شراب مسهل!، من يقول لك ان العراق يبكي سنقول انها دموع الفرح ليس الا، الامهات اللواتي يلبسن السواد لم يفقدن سوى صور شخصية كانت معلّقة في قلوبهن في وسط الهول!، الآباء الذين طالت لحاهم لانهم آمنوا ان حلق اللحية حرام وفسق، دشاديشهم السود ومرض السكري والضغط الدموي إنعاش عراقي في هذا الوطن الذي يمنح لبنيه دفتر الامراض المزمنة حتى يفرّقهم عن غيرهم من الأجانب الأصحّاء!، من يقول لك ان التوابيت التي تسير الى النجف بتذكرة ذهاب فقط!، محمّلةٌ بالعراقيين، سنقول له ان هذه التوابيت درجة سياحية لرؤية سماء الله من قريب!، حتى الاكفان التي يلفونهم فيها ما هي إلا مشهد رومانسي لعيون عمتنا “الزا” التي سودنت الحاج اراغون!!،ارأيت كفنا يكتبون عليه دعاء الجوشن الكبير الا في العراق؟ كل مايقولونه لك كذب يااطويرش، العراق بخير وكل هذا الذي يجري ماهو الا  برنامج الكاميرا الخفية من اجل ابقائك على قيد العراق.

البكاء يعمي عينيك على العراق يا اطويرش، فدع البكاء لي، بي حزن ان ارثي الكون ولااقدر ان اتقرب اليك بكلمات الحزن يا…، ابق كما انت، بعينين او من دون عينين، فانت قصب جنوبي لايحسن سوى العويل على….”اهلنه الضيّعونه”.