في جنوب بغداد، لم يعد “مخبر البناء” مجرد شخص يراقب جيرانه، بل صار حلقة أساسية في شبكة غير معلنة، تربط الأهالي بالقوات الماسكة للأرض، خصوصاً الشرطة الاتحادية. وظيفته واضحة: التبليغ عن أي محاولة لإدخال مواد بناء إلى الأحياء الزراعية غير المحوّلة، مقابل أجر مالي قد يصل إلى 25 ألف دينار عن كل حالة تنجح بالتنسيق.
و”مخبر البناء” هو تسمية يطلقها الأهالي في مناطق جنوب بغداد على أشخاص مدنيين يعملون كجواسيس للقوات الماسكة للأرض، حيث يتولون مهمة مراقبة السكان والتبليغ عن أي محاولة لإدخال مواد بناء إلى الأحياء المشيدة على أراضٍ زراعية غير محوّلة، ليتم منعها أو مصادرتها، وبذلك تحوّل هذا الدور إلى أداة ضغط وابتزاز، زادت من معاناة الناس الباحثين عن مسكن في ظل أزمة السكن الخانقة.
آلية عمله تقوم على خطوات دقيقة. فعند ملاحظته شاحنة طابوق أو حمولة حديد تدخل إلى أحد الأزقة، يرسل إشعاراً فورياً إلى القوة الأمنية عبر الهاتف أو تطبيقات تحديد الموقع(GPS)، حيث يحدد المكان بدقة. وإذا حصل توافق بين صاحب البناء والجهة الأمنية على “تسوية مالية” أو منع مؤقت، يحصل المخبر على حصته المتفق عليها. أما إذا لم يتم الاتفاق، أو فشلت المساومة، فإن المخبر لا يحصل على شيء، ليبقى جهده في حدود التبليغ فقط.
هذه الممارسة امتداد مباشر لفكرة “المخبر السري” التي عرفها العراقيون في مراحل سابقة، لكنها هنا تتعلق بملف البناء والسكن، لا بالجرائم الجنائية أو القضايا الأمنية التقليدية. ومع توسع الظاهرة، صار المخبر يوظّف محيطه العائلي في المراقبة: الأطفال الذين يلعبون في الشوارع، والنساء الجالسات قرب الأبواب، كلهم يتحولون إلى عيون إضافية، يلتقطون حركة الشاحنات ويدوّنون تفاصيلها.
يعتمد المخبر أيضاً على أدوات تقنية بسيطة لكنها فعالة: كاميرات الهواتف، تسجيلات صوتية، خرائط المواقع. بهذه الوسائل يثبت مصداقية بلاغه، ويضمن حصوله على المكافأة المالية. وفي بعض الحالات، يتم إنشاء مجموعات تواصل مغلقة تضم عدداً من المخبرين الصغار، لتبادل المعلومات بسرعة، وكأنها غرفة عمليات مصغرة مرتبطة بالقوة الأمنية.
هذا الدور الفني يعكس كيف تحولت الحاجة إلى السكن إلى ملف أمني معقّد، حيث تُعامل مواد البناء كأنها تهديد يستوجب المراقبة. المواطن العادي، حين يرغب في تشييد بيت لعائلته، يجد نفسه مراقَباً بتقنيات تحديد الموقع، ومتروكاً لتقدير شخص مجهول قد يكون جاره نفسه.