الاعداء الخارجيون واتباعهم المنكوسون من المحسوبين على الامة العراقية ؛ عملوا ومنذ القدم على تغييب الهوية العراقية والطعن بها ؛ من خلال غزو العراق و فتح ابواب بلاد الرافدين امام الاجانب والغرباء والدخلاء وقضم الاراضي العراقية لصالح دول الجوار , لاختراق الامة العراقية وتشتيتها ومن ثم تطويقها ؛ للسيطرة عليها ونهب مقدراتها .
ومن أسوأ الاحتلالات الاجنبية والتي حملت معها الكثير الكثير من التغييرات الديموغرافية وحاولت طمس الهوية التاريخية العراقية وانسلخت فيها الكثير من الاراضي الوطنية ؛ فترة الاحتلال التركي العثماني ؛ اذ لم يكتف الاتراك بقضم الاراضي العراقية الشمالية واضافتها الى تركيا , بل تنازلوا عن الكثير من الاراضي للإيرانيين ايضا , فضلا عن جلب المرتزقة الاجانب والموظفين الغرباء والناس الدخلاء الى بلاد الرافدين والذين لا تربطهم أية رابطة ثقافية او تاريخية او عرقية بالأمة والاغلبية العراقية , وان وجدت فهي بسيطة وعلى عدد اصابع اليد , وقد تنشأ بين أمة في الشرق واخرى في الغرب ؛ اذ اتجهت السلطات العثمانية ومنذ البداية للاعتماد على القوات غير النظامية والمرتزقة في العديد من عملياتها العسكرية ؛ وعلى غرار “قوات العزب” (Azap) التي تكوّنت من ميليشيات من الفلاحين والشباب القرويين العازبين الذين تطوعوا كجنود مشاة غير نظاميين وحصلوا على رواتب أثناء فترات الحرب، و”قوات الآقنجي” (Akinji) المُصنفة كنوع من أنواع “وحدات الفرسان الخفيفة” التي اقتات أفرادها على الغارات والنهب، ولم يتردد العثمانيون في إنشاء ما يعرف بفرق “الباشبوزق”، المعروفة أيضا بـ”باشي بوزوق” (bashi-bazouk)، والتي تكونت من جنود أجانب وأوكِلت إليها “أقذر” العمليات خلال فترات الحروب والثورات… ؛ وعلى حسب أغلب المؤرخين، تكوّنت مرتزقة “الباشبوزق” من خليط من الأعراق، وكان قوامها في الغالب العنصر الألباني والشركس … , ومنها “الجيش الانكشاري” وكان أفراد الانكشارية من أسرى الحروب من الغلمان اليتامى الذين يتم فصلهم عن أصولهم , وتطور أسلوب جمع أفراد الانكشارية لدى سلاطين بني عثمان لاحقاً، إذ باتوا يؤخذون من الأسر المسيحية وفق مبدأ التجنيد الذي سمي بـ«الدوشيرمه» (أو الدويشرمه) في عملية جمع دورية تجري كل سنة أو ثلاث أو أربع أو خمس، وقد نظّم أورخان الجيش، فألّف فرقًا من الفرسان النظاميين، وأنشأ من الفتيان المسيحيين الروم والأوروبيين الذين جمعهم من مختلف الأنحاء جيشًا قويًا عُرف بجيش الانكشارية. وقد درّب أورخان هؤلاء الفتيان تدريبًا صارمًا وخصّهم بامتيازات كبيرة، فتعلقوا بشخصه وأظهروا له الولاء… ؛ وكان الانكشارية لا يعرفون حرفة ولا عمل إلا القتال والحرب , وسرعان ما دب الفساد في مفاصل هذا الجيش الهجين , اذ لم تبق مثلبة الا وفعلوها ولا جريمة الا وارتكبوها , بدءا باللواط وانتهاءا بالقتل والسرقات والاجرام , ولم يكن سلاطين الدولة في فترة ضعفها يملكون دفع شرور الانكشارية أو الوقوف في وجهها، فقام الانكشاريون بقتل حسن باشا على عهد السلطان مراد الرابع سنة (1042 هـ=1632 م). ووقفوا أمام السلطان محمود الثاني عندما أراد أن يحدث جيشه وأقاموا التمرد واضطر السلطان إلى تأجيل محاولته لوقت لاحق … ؛ و تم إلغائه في عام 1826م على يد السلطان العثماني محمود الثاني , ولم يقتصر الامر عند هذا الحد , اذ طالما مد الاتراك العثمانيون دولتهم في العراق وسائر البلدان الواقعة تحت سيطرتهم بالعناصر الاجنبية والغريبة , و في زمن الحروب والثورات، لم تتردد السلطنة العثمانية في الاستعانة بـ”الباشبوزق” وغيرهم من المرتزقة لمهاجمة المدنيين داخل المدن حيث نشر هؤلاء الخراب أينما حلّوا، فسرقوا ونهبوا الممتلكات وأحرقوا المنازل وابتزوا الأهالي وعمدوا لخطف الأطفال والنساء واغتصبوهم ونقلوا العديد منهم كعبيد نحو الأستانة ؛ كما ارتبطت بمرتزقة “الباشبوزق” وغيرهم العديد من جرائم الإبادة وجرائم الحرب والتطهير العرقي والطائفي , و بفضل هذه المهنة التي مارسوها، حصل مرتزقة “الباشبوزق” وغيرهم على أموال طائلة ؛ ففي مقابل حصولهم على أجور زهيدة جداً بالكاد تكفي لسد الرمق، جمع هؤلاء ثروة طائلة عن طريق عمليات النهب والسلب والسرقة التي امتهنوها عند دخولهم للمدن بأمر من المسؤولين العثمانيين ؛ وبفضل ذلك، جذبت مهنة مرتزقة “الباشبوزق” عدداً هائلاً من المجرمين وقطاع الطرق الذين أقبلوا نحو الأستانة للانخراط في صفوفها والحصول على صبغة قانونية لممارسة مهامهم… .(1)
حاول العثمانيون إغراق بعض البلدان العربية بالأجانب المرتزقة وشذاذ الافاق من الغرباء والدخلاء , ولم يقتصر الامر على جلب سكان القوقاز واسيا واوربا وغيرها ؛ بل حتى سكان البلدان الاسلامية والعربية الخاضعة للسلطات العثمانية , فالتنجيد كان اجباريا على هؤلاء , اذ ممكن ان يرسل الاتراك العثمانيون مواطني سوريا الى مصر ومواطني مصر الى فلسطين , ومواطني العراق الى البانيا وهكذا , وقد دخل المماليك على الخط ايضا , اذ قام الوالي العثماني حسن باشا في بغداد ؛ بجلب المماليك الى العراق بعد أن فسد نظام الانكشارية ؛ فقد اراد أن يجعل لنفسه جندا مختصين به يستعين بهم ويتعصبون له فأرسل إلى بلاد القفقاس من يأتي إليه بالصبيان , وكانت أسواق مدينة تفليس آنذاك زاخرة بالصبيان المعروضين للبيع، فأسس حسن باشا في بغداد دائرة خاصة اسمها إيج دائرة سي أي دائرة الداخل ومهمتها هي الإشراف على شراء المماليك من تلك البلاد وتدريبهم، وعندما تولى الحكم من بعده ابنه أحمد باشا أكثر من شراء الجنود المماليك واعتنى بهم، حتى أصبحوا قوة لا يستهان بها، وبعد وفاة الوالي أحمد باشا كثر عددهم واستطاعوا فرض إرادتهم على الدولة العثمانية, ونصبوا أحدهم وهو سليمان باشا أبو ليلة واليا على العراق سنة 1749م ؛ وتعود أصولهم إلى عدة مناطق من آسيا الوسطى (جورجيا ومن بلاد الشركس وداغستان وبلاد جبال القوقاز الأخرى)، حيث استمر حكمهم للعراق زهاء 82 عامًا بولاية سليمان باشا الكبير المكنى بأبو ليلة في سنة 1749م، وانتهى بعزل داود باشا من منصب والي بغداد سنة 1831م.
اصبح العراق في عهد حكم المماليك ملجأ وملاذا للمشردين والمغامرين وارباب السوابق والمجرمين والشواذ وقصده الكثير من الاتراك والايرانيين والقفقاسيين والارمن واليونانيين ومن كل فج عميق … (2) .
وقد تسنم مماليك وغلمان ومرتزقة الاتراك العثمانيين مناصب الدولة الحساسة والعالية والإدارية والعسكرية وكان أكثرهم من (الألبان، والأرمن، والشركس، والصرب، والبوسنة، والكرد، والكروات)، ونادر أن تجد تركماني في منصب رفيع أو صدر أعظم للدولة العثمانية.(3)
وبما ان الناس على دين الملوك ؛ واتباع الحاكم والقوي وصاحب السيف والسطوة والسلطة , اصبحت دعوى (( التسنن )) في العراق العثماني و من ثم الانكليزي مظلة يحتمي تحتها كل الغرباء والدخلاء والطارئون من وعاظ وجنود وخدام واتباع الغزاة والمحتلين والسلاطين ؛ والتسنن الحنفي منهم براء , فالعراق كان ولا يزال علويا حنفيا وكلاهما يجسدان الصورة الحضارية الناصعة للإسلام بصيغته العراقية , واما ما يتحدث عنه القوم ويعتقدون به ؛ فهو لا يمت بصلة الى بلاد السواد , فإسلام هؤلاء اسلام اموي ناصبي اعرابي غريب وطارئ على هذه الارض ؛ لذا نشأت الاضطرابات والقلاقل والفتن والصراعات وحدثت التغييرات الديموغرافية في بلاد الرافدين , وتضررت الامة والاغلبية العراقية وعلى مختلف الاصعدة والمجالات , ولا تزال اثار هذه الهجرات الاجنبية والغريبة بادية الى هذه اللحظة , وقد قدم الكاتب السعودي في كتابه (سفر برلك… قرن على “الجريمة العثمانية” في المدينة المنورة ) عرضًا سريعًا لأصول الأتراك التاريخية وجذور ذلك العرق القادم من أواسط قارة آسيا ليستوطن الجزء الشمالي من العراق والشام، موضحًا أنهم عرفوا طريقهم إلى البلاد العربية مبكراً عبر استقدامهم من حكام الدول الإسلامية والعربية في أزمنة سالفة مختلفة بصفتهم “مماليك” يستخدمون في الحروب والمعارك، قبل أن يتحوّلوا إلى مستوطنين في أراضي الأناضول. (4)
لذلك لو دقق الباحث الموضوعي في سكان بغداد والمحافظات المجاورة والغربية والشمالية ؛ لوجد ان بعض الاقليات عبارة : عن خليط غير متجانس عرقيا وثقافيا ولغويا واجتماعيا – (( لملوم )) ؛ لا يجمعهم شيء سوى العدو المشترك الوهمي – الاغلبية العراقية – الذي رسخه المحتل العثماني الغاشم و المستعمر الانكليزي الخبيث في عقولهم , وهذا الخليط الهجين احتمى تحت مظلة اللهجة البغدادية احيانا , واللهجة التكريتية تارة اخرى ,والمصلاوية ثالثة واللغة الكردية والتركية والفارسية رابعة وهكذا ؛ والتي اتقنها بعض الدخلاء والغرباء والاجانب ومجهولو الاصل ؛ هربا من انكشاف اصله المجهول او تأصيلا لوجوده الطارئ وهجرته القريبة من بلاده البعيدة ؛ ومن هذه الطينة نشأت الحكومات الطائفية الهجينة ( 1921-2003) ومن هذه العجينة الهجينة خرج مئات الساسة الحاقدين والضباط الطائفيين والمثقفين والكتاب والاعلاميين ورجال الدين المنكوسين , والاف القتلة والجلادين والذباحين , وبسبب هذه الظاهرة السلبية امتلئت بلاد الرافدين بالسجون والمعتقلات وغرف التعذيب والتحقيق والسراديب المظلمة والزنزانات , وارتوت ارض الوطن بدماء مئات الالاف من ضحايا الامة والاغلبية العراقية ؛ وتعتبر هذه نتيجة طبيعية لتلك المقدمات التاريخية والسياسية , فما حن دخيل على اصيل قط , ولعل تجربة مجرمي اوربا مع الهنود الحمر سكان القارة الامريكية , وتجربة الصهاينة مع الفلسطينيين ؛ من أوضح الشواهد على ذلك , اذ لا يأتي من الاستيطان الاجنبي وتجنيس الغرباء سوى الويل والازمات والعنصرية والطائفية ونهب الخيرات والثروات .
……………………………………….
1- “الباشبوزق”.. مرتزقة عثمانيون خرّبوا ونهبوا أينما حلوا / طه عبد الناصر رمضان.
2- بغداد وحكامها / ح ٦ – عجم محمد / عبد الكريم الحسيني .
3- هل قام العثمانيون بتهميش العرب وتمييز الأتراك؟/ سيف الدين التركماني ؛ مما لاشك فيه ان كلامه محل تأمل .
4- سفر برلك… قرن على “الجريمة العثمانية” في المدينة المنورة / محمد الساعد .