22 ديسمبر، 2024 2:51 م

منذ نعومة أظفاري و أنا أعيش في محيط من النار، لا سلطة لي في أختياري، ولدت قضاء وقدر هكذا اتخيلني كلما واجهت العوم في ذلك المحيط الناعم الملتهب من حرارة الشمس، لم احظى بطفولة مثل ما سمعت ورأيت بعد ذلك بزمن تسارع وجعلني افترش واحات مياه باردة ملاذ أمن، شغفت صعوبة الحياة التي فرضت عليّ الى أن كابدت لهيبها، خاصة بعد أن ورثت مهنة والدي العراب كمهرب بين حدود دول متجاورة، ذاع صيتي بين حكومات تلك الدول، لم يتبينوا أو يتعرفوا عليّ غير انهم أطلقوا عليّ اسم سندباد محيط النار.. ذلك المحيط الرملي المليء بخبايا السراب و افواه الموت الجائعة التي تتلقف كل من يسترخي او يستريح لبضع سويعات، الرمال التي امتصت سياط الشمس الملتهبة ثم احتفظت بها لتردها الى كل من يسير متبخترا مدعيا انه دليل صحراء محيط النار، كنت قد توصلت الى قرار التخلي عن ركوبه، غير أنه في مرة جائني شخص أراد مني ان انقل له علبة لا يتجاوز حملها اكثر من يد واحدة، مصمما ان لا أحد يقوم بذلك غير و ألزمني أن اسلمها الى رجل اودعني اسمه وعنوانه وصورته، إلا بيده ولا لأحد غيره، كنت قبلها بأيام أداول نفسي كما ذكرت الخروج بسفينتي التي طالما سارت في محيط من الرمال السائبة والمتحركة، كان يرافقي اغلب الاحيان ملك الموت الذي لا ينفك ينتظر كسر صواري عزيمتي، غير ان صوت ما جعلني استفيق من ضربة الشمس التي كانت تهدنني، فتحديتها فعزمت الخروج حيث العالم الآخر، بعيدا عن عالم محيط النار هذا، طلبت ثمنا كونها آخر مهمة لي تعجيزي لكن ذلك الرجل وافق على عجالة ودون تردد، لذا كنت امام الامر الواقع كما اني حسبتها جيدا بأن المبلغ سيعينني على ما نويت في حياتي القادمة.. يعلم اغلب اهل الكار اني لا اسير سوى في الليل درءا لدوريات الشرطة الحدودية و كذلك درءا عن حرارة الشمس ولهيب محيط نار، رمال الصحراء الملتهبة، كالعادة المكان الذي اقصدة لا ينال الوقت فيه سوى أربعة ليال و صباح يوم خامس اكون قد انهيت مهمتي، كما العادة ايضا لا يرافقني في رحلتي سوى بندقيتي وزوادة صغيرة وقربة ماء، توكلت على الله في نفس ليلة الاتفاق لكن بحذر فالكار الذي اعمل فيه لا يخلوا من رفاق سوء او خيانة، عالمنا لا صاحب فيه ولا صديق، مجرد مصالح عنوانها الرئيس الموت او القتل، لم اسأل عن ماهية ماكنت انقله تلك عادة ورثتها عن والدي كي احظى بالامان بالاضافة الى ابقاء جرعة الشجاعة التي اتمتع فيها، لأن معرفتي بما انقله تضعف من عزيمتي وشجاعتي كون الحرص يزداد في حمايتها الى جانب فقدي التركيز على المحيط الذي ابحر فيه، مرت الليلة الأولى بسلام ودون منغصات، و الليلة الثانية ايضا، توجست خيفة، غير ان اليوم الثالث ما أن لبس آخر النهار عبائته حتى تواردت الضباع من عدة اتجاهات كأن هناك من سخرها للنيل مني، عوائها سقيم طبعها لئيم، الضبع حيوان انتهازي مستغل اي لحظة هجوع او سكون، اوقدت النار كي احمي نفسي ثم جلست ممسكا ببندقيتي متجولا بعيون خبرت انفاس تحرك الرمال، في تلك الاثناء حفرت لي في الرمال حفرة ثم حشوت نفسي بداخلها بعد ان غطيت جسمي بالرمال حتى رأسي، بعدها ان وضعت عليه ما يقيني من الرمال غير أني عملت مخرجا صغيرا للتنفس، بداية كنت متفقا مع رمال المحيط التي بدت باردة لكن بعد ان مر اكثر من ساعة وافتني حرارة الرمال حتى ابتلت ثيابي وشعرت بفوران دمي في شرايينها… لم اطقها رغم عشرتها لي، دفعت بنفسي الى الخارج، كمن يلقى طود نجاة من الغرق، كانت الضباع تتجول حولي و لا تقترب خوفا من النار، غير ان احدهم بدا انه زعيمهم هجم علي منتهزا ارتباكي فنال من ساقي بعد ان اجرى فيه انيابه، اطلقت رصاصة لا على التعيين، هرب يجر خيبته وهو يلعنني لكنه نظر إلي بنظرة تشفي وفوز، ثم عوى بقوة كأنه يبلغ جماعته بنصره ويقول لي انه قد نال مني.. سارعت بأخذ قدر كف يدي من الرمال التي تحت النار فوضعتها على الجرح، أحسبها كفيلة على ايقاف النزف، ربطتها و ركنت الى نفسي ممسكا ببندقيتي تحسبا لهجوم غادر سافر جماعي، بينما أنا كذلك سمعت صوت حركة كنت متأكدا انه ليس صوت حيوان، توجست الخيانة لربما هناك من تبعني ليسلبني الحياة وينال مما بين يدي، اخرجت العلبة راودتني نفسي ان اكشف سرها لكن عتاب ضمير منعني فالخيانة رداء لم يرتديه والدي ولا اسلافي، زممت النار بالرمال فانطفأت ثم سارعت في طريقي، الضباع تقارعني بين كر وفر كنت خفيفا وأنا اجري رغم جرحي، أما ذلك الصوت فقد بات بعيدا… ساعات لا اعلم وقتها كنت قد وهنت اوصالي بسبب جرح ساقي، شارف الفجر أن يزيح غطاء الظلمة، طرحت بنفسي بين طل صغير وهضبة شبه بعيدة، بدا الهواء بارد، قبل ان ارى الجرح اوقدت النار ومن خلال ضيائها كان ذلك الضبع ومعه اثنان يتطلعان إلي، اخرجت جعبة الماء وبللت قطعة قماش ثم عمدت الى مسح جرح ساقى، يبدو ان رائحة الدم اثارت الضباع فاخذ تعوي وهي منطلقة تدور حولي، فعمدي الى بندقيتي فصوبتها الى ذلك الضبع الذي وقف منتصبا متحديا لي، اطلقت الرصاصة الاولى فأنفلت منها اما الثانية المباغتة في السرعة اظنها صرعت رفيقا له، في اثناء ذلك كادت رصاصة تصيبني وقد أزت مسرعة بالقرب مني، التفت وإذا برجل يحاول قتلي، رميت بنفسي حيث الطلة الصغيرة ورحت اتدحرج كأنه اصابني، كنت انظر في اتجاة مكان اطلاق الرصاصة.. وهلة رأيت فيها شخص يبادر للنهوض بحذر كنت قد رصدته والضباع تعوي لموت رفيقها، ما ان قام حتى اطلقت عليه النار فارديته صريعا كما ذلك الضبع.. صراخه جعل الضباع تسارع اليه لإفتراسه، اما انا فانتهزتها فرصة كي احظى بركوب رمال المحيط الباردة قبل بزوغ الشمس، في المكان المحدد سلمت الرجل العلبة، بعدها قمت بالتداوي مؤملا نفسي بعمر جديد احياه في بيئة يابسة ليس فيها محيط من الرمال المتحركة، هذا ما قصصته على زملاء لحفيدي كانوا يرتادون زيارته، بعد عودتهم من المدرسة، كان متفاخرا وهو يستمع الى قصة الضباع كبطولة لجده.

القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي