18 ديسمبر، 2024 8:50 م

في أواخر السبعينات من القرن الماضي صدر قرار حكومي يسمح بموجبه للعرب المقيمين في العراق بإدخال سيارة خاصة للاستخدام الشخصي. وكانت السيارات يومئذ باهظة الثمن، صعبة المنال، على العكس مما كانت عليه في دول الجوار.
وحينما سمع أحد زملائي المصريين العاملين في محافظة البصرة، أعجبته الفكرة، وتمكن من الحصول على سيارة صالون مستعملة يابانية الصنع من الكويت.
كان هذا الصديق طيب القلب، ودوداً، فسمح لجميع أصدقائه من المهندسين باستخدام سيارته للتدريب على السياقة. ثم وسع دائرة كرمه لتشمل الطبقة العاملة أيضاً، من مواطنيه الراغبين في الاستمتاع بهذا الاختراع العجيب. ولشهور عديدة غدت السيارة ملكاً مشاعاً، ينتقل من يد إلى يد، ومن صديق لصديق، ومن منطقة لمنطقة.
وكان من الطبيعي أن يتردى وضع السيارة، وتتعرض لألوان المكاره. فمن الحوادث الطفيفة التي تنتهي بمصالحة مجتمعية، مع بضع عشرات من الدنانير، إلى عطلات أساسية في المحرك ونظام التشغيل والإطارات وناقل السرع .. ألخ. ولم يكترث الصديق لهذه الخطوب، فهو يؤمن بقضاء الله وقدره، ويسارع إلى الخيرات، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ويوماً بعد يوم بدأت قدراته المالية بالتضاؤل، وموارده الشهرية بالنضوب. ولم يعد بوسعه إعمار البنية التحتية المنهارة لسيارته. فالتجأ إلى أصدقائه المقربين، يقترض منهم بعض الدنانير. حتى إذا ما وقع المحظور وتوقف المحرك عن الدوران، آمن أن من المناسب أن تتقاعد السيارة عن العمل، وتركن إلى الدعة. فإصلاح محرك سيارة كان خارج طاقته هو، وطاقة زملائه الممولين. وهكذا كان.
وحينما نشبت حرب الخليج الأولى في أيلول 1980، اهتبل الرجل الفرصة، وقرر التخلص من السيارة. وراقه كسب رضا الرفاق، الذين هبوا لمناصرة الحكومة. فذهب إلى مقر الحزب وأعلن بكل فخر أنه يتبرع بسيارته الخاصة للمجهود الحربي. فانهال الثناء عليه من كل جانب، وخلعت عليه الألقاب من كل جهة. وغدا بطلاً قومياً في غمضة عين.
كانت تلك الليلة من أسعد لياليه، وأكثرها بهجة. فلم يذق مثلها منذ شهور. وقرر أن يحتفل بها مع أصدقائه الذين أقرضوه وقت العسرة. فساعات الشدة انتهت، ويوم السداد بات قريباً.
وبعد بضعة أيام حضرت إلى موقع العمل لجنة من مقر الحزب، تضم عدداً من الرفاق بالزي العسكري لاستلام السيارة. وحينما علموا أنها عاجزة عن الحركة، بدا عليهم الامتعاض، وعادوا أدراجهم خائبين.
وإن هي إلا أيام حتى فوجئ باللجنة من جديد، وهي تحمل معها كتاباً رسمياً، يلزمه بنقل السيارة إلى أحد أقضية محافظة الأنبار، ويحمله كامل المسؤولية عن أي ضرر تتعرض له، باعتبارها ملكاً صرفاً للجيش الشعبي العراقي.
وأسقط في يد الصديق الذي كان يعاني من الإملاق وكثرة الدائنين. وحاول جاهداً العثور على ممولين يتولون تغطية كلفة النقل الباهظة، إلا أنه أخفق في مسعاه. ولم تخف عليه نظرات الشماتة من ذوي القربى، ومعارضي الحرب، واللائمين. فلم يعد أمامه سوى التماس مهلة من قيادة الحزب حتى يتمكن من تدبر أمره. وأخذ يبحث هنا وهناك عمن ينقذه من هذه الورطة. وحينها لم يجد بداً من شد الرحال إلى بيجي، والتوسل بأحد أبنائها من النقابيين البارزين. وكان قد جمعته وإياه زمالة عمل مشهودة. فلم يخيب الرجل ظنه، وأسرع بمد يد العون، عبر سلسلة من المكالمات الهاتفية المطولة. وكان أن وفق في جهوده، فنقلت السيارة بعد أيام على ظهر شاحنة حكومية، وأرسلت إلى المكان المطلوب دون أية مشاكل، أو معوقات. وكان الله بعباده لطيفاً خبيراً.