تعودت في امسيات ديوانيتي لسنوات عديدة ان اقدم للحضور في نهاية الجلسات بعد منتصف الليل عشاء بسيطا بنكهة عراقية اعتاد المشاركون ان يتبادلوا الحديث والفكاهة مع بعضهم خارج ضوابط المحاضرة ،لكن ما كتب في بعض المواقع حينها عن موائد دسمة ودعوات كبيرة في الديوان والاستفسار عن مصادر تمويل و و جعلتني احذف هذه الفقرة والاكتفاء بتقديم الشاي والقهوة والفاكهة. قبل ايام فاجئني احد الحضور بانه اعد وجبة طعام عراقية ليتناولها الحضور بعد انتهاء الندوة فاعتذرت عن ذلك وتمت التسوية بعد إصراره بأن ننتقل الى تناول الطعام في دار احد الحضور القريب من الديوان ، وفعلا فوجئ الجميع بوجبة طعام عراقية دسمة هي( تشريب كرعان هوش ) والتي انقض الجميع على منسفها حتى انهوه بنهم وبشكل لا يصدق !. همست بأذن احدهم بقولي الحمد لله شبعنا واتخمنا ولو كانت الدعوة في الديوان لفوجئنا غدا بمقال عنوانه (ديوان الكرعان ) إذ سبق وان قيل عنه في تقرير رسمي ( نجحنا بغلق ديوان اللوبية أكبر وأشهر دواوين المعارضه هنا) ! بعد الاستفسار دلني مضيفنا على محل متخصص تعمل به الباجة العراقية في عمان على أفضل ما يكون حسب اجتهاده.
عصر اليوم التالي بعد انتهاء عملي في المستشفى توجهت الى المحل المذكور الذي اتضح انه لا يبعد عن المستشفى الا دقائق ودخلت مطعما سفريا نظيفا تعرض فيه أجزاء الباجة بشكل جذاب بين نفحات وفوحان رائحة الباجة الشهيرة ، فوجئت عندما استقبلني رجل مهيوب بهندام لطيف في الستينات من العمر : تفضل حكيم : أنا هنا محاسب المطعم ماذا تطلب ؟ قلت له كيف عرفتني حكيم ، قال هذه قصة اخرى واستمر: انا أيام زمان كنت في كلية الطب العراقية ببغداد وكنت أسكن في ساحة الوثبة بشقة اجرني إياها المرحوم الدكتور كمال السامرائي في بناية تعود له عندما عرفني طالب طبية أردني من فلسطين ولكني تركت الكلية بعد ستة اشهر وعدت الى عمان وها أنا هنا بعد ما يقارب خمسين عاما أوصف للناس غذاءَ شهيا محليا عرفت شهرته من بغداد لا دواء كيمياويا أجنبيا يخطي ويصيب وبالتالي هكذا شاءت الأقدار !.
ضحكت واعطاني قائمة باسعار الأجزاء ( رأس ونصف رأس وكرش ومنابير وكيبايات وكرعان ولسان ومخ وكل جزء امامه سعره بالمسمى او بالوزن) . قلت له ولكن الرأس يحوي المخ فلماذا تبيعه منفردا . ضحك هو الآخر وقال
: نبيع المخ الكامل هنا منفردا ، وانت سيد العارفين يا حكيم ،ساسة الأمة العربية وساسة العراق تحديدا اليوم ومنهم أطباء تعرفهم من أيام الكلية هم بأمس الحاجة لمثل هذا المخ ! واكمل قائلآ بحاجة ان تطعمهم هذا المخ وبعدها ترجهم بهزة قوية تحفز عقولهم ربما سيكون هذا العلاج أفضل من الانتخابات لتحقيق التغيير المنتظر ! وحرك كفه بطريقة لها معناها .
عرفت أن صاحبي ليس بائعا للمخ والباجة فحسب ، ولكنه عقل ستيني يحمل في جعبته هموم أمة كاملة ، ودعني بعد أن حملني 4 امخاخ مطبوخة ومغلفة ب 4 أواني بلاستيكية في كل إناء مخ بفصيه كاملا ، وقال ضعها حكيم في البراد لن تتلف وحاول ان تقدمها لضيوفك من الساسة الجدد ، وأصر ان تكون هدية منه لكني أجبته النماذج (أقصد السامبلات لا تشفي ) وتركت ثمنها على طاولته و ودعته على أمل اللقاء ثانية .
ينقل عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب انه وصف العراق بانه جمجمة العرب والجمجمه بالمعني العضوي تعني وعاء المخ وبالمعنى الوظيفي تعني الفكر والذكاء والسيطره . كيف تمكن المحتلون من انتقاء ساسته الجدد كركائز لعمليتهم السياسية خلال السنوات العجاف التي مضت بالرغم من ان منهم من يحمل شهادات عالية وتخصصات دقيقة وقسم كبير منهم حملة شهادات من جامعات شهيرة ؟.
موافقة هولاء الساسة على اختلاف مللهم وتخصصاتهم وتجمعاتهم السياسية ( تحت عنوان المعارضة العراقية في حينها) على قبول أجندة الاحتلال العسكري وإسقاط النظام بذريعة مظلومية الشيعة وتحرير الأكراد وتهيئة ساسة سنة جدد مناصرين للاحتلال لقاء وعود بمنحهم حكم الاقليم السني كان هو معيار العبور والقبول لهؤلاء الأزلام وتنصيبهم يقول أحدهم متناسيا نفسه انه تعجب في يوم من الايام بعد انعقاد مؤتمر لندن وهو خارج من اجتماع مع مسئولين أميركان في البيت الأبيض ان يرى زعيم شيوعي بارز وزعيم قيادي في حزب الدعوة وقيادي من الاخوان المسلمين ينتظرون دورهم للمقابلة بعد انتهاء مقابلتي ؟ لم يكلف هذا العبقري والدكتور من احد جامعات اميركا المشهورة ان يسأل نفسه لماذا يقابلونا فرادى ؟ .
من قبل باحتلال العراق عسكريا وتدمير مفهوم الدولة فيه واستبداله بنظام اتحادي فدرالي تقسيمي يضعف العراق ويضمن الأمن الإسرائيلي من العراقيين يحسب بأنه يقبل بكل ما هو دون ذلك من سقوف واطئة. سيقبل ان يكون طائفيا وتقسيميا وتبعيا وسارقا وعميلا وقاتلا تحت غطاء امريكي يحميه وحينها تسقط وطنيته ولا تعني له خبرته وشهادته شيئا سوى التبجح لغرض الاستغلال والاستئثار . وهكذا وظفت اميركا وبريطانيا عملاء الاحتلال على اختلاف خلفياتهم ( الدين والمذهب والجنسية) لتحقيق مصالحهما وامتيازاتهما .
وفقا لهذا المفهوم تم ترسيخ عصابة الحكم في العراق وإنشاء تحالفاتها وكتلها وتقاسم الثروة والامتيازات فيما بينهم . دلوني على اسم واحد من هؤلاء الساسة لم يسرق ولم ينهب ولم يستغل ولم يقتل . دلوني على اسم سياسي واحد جاء مع الاحتلال وتقلد موقعا قياديا في السلطة الحالية واستمر فيه لغاية اليوم ممكن ان يؤتمن على مصالح الامة والوطن . نعم هناك شخوص قليلة انتفضت لنفسها وادركت جسامة ما ارتكبت من أخطاء ، وهي أما ان تكون اليوم قد انسحبت واختفت او اكتفت بما كسبت او عارضت وصفيّت . أما من بقي وما زال فهذا لن تزيحه انتخابات ولن تبدله صناديق مازال ملتزما بما تعهد به لأسياده وعرابيه وسيستمر بالكسب الحرام والسلوك الشاذ طالما توفر له العيش والمأمن ولن تستنفذ اساليبه وحيله من أجل تحقيق مكاسبه . هؤلاء الساسة باقون ليزيدوا العراق اشتعالا بالطائفية ويوقدوا مشاريع التقسيم والتشظية ويزيدوا ارصدتهم مالا حراما ،لحين ان ينتهي دورهم ليقذفوا في مزبلة التاريخ .
العراق في ظل بقاء نفس الوجوه الحاكمة والكالحة والكتل المتنفذة بالرغم من التشبث بصناديق الاقتراع والاعتصامات والتظاهرات ماض الى مصير مجهول وانهيار مؤكد .الطائفية تتعمق والتقسيم يتجذر والفقر والمرض والبطالة والنزوح والتهجير يتزايد واساليب العنف والارهاب وتصفيات الحساب تتطور والثروة تنضب والفساد يسود .
ترى هل سيجدي ساسة العراق الجدد مخ يؤكل او دماغ يزرع او نداء يسمع او انتخابات تزور أو صناديق تسرق , كلا ورب الكعبة : يقول الشاعر الفند الزماني معللا ثورات الشعوب المنكوبة قبل الإسلام :
صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ … وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ
وعَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ … قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا
فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر … فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ
وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ … دِنَاهُمْ كَمَا دَانُوا
مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ … غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ
بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ … وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ
وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ … غَذَا وَالزِّقُّ مَلاْنُ
وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ … لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ
وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ … لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ