لا معنى للضجة الغاضبة التي يثيرها سياسيون ومثقفون وإعلاميون عراقيون حول القضاء العراقي بسبب إلغائه أول قرار (إصلاحي) اتخذه حيدر العبادي وأقال بموجبه نواب رئيس الجمهورية من مناصبهم، بتشجيع من المرجعية، وتهدئة لخواطر المتظاهرين في ساحة التحرير.
فهي تكاد تقول بأن القضاء العراقي، وحده، المتهم بخيانة الأمانة والضمير، وباستخدام سلطته وسيلة لتنفيع هذا السياسي ومعاقبة ذاك، وتجريم البريء (س) وعدم مساءلة المجرم (ص)، وكأن الدولة، كلها، صالحة ونزيهة وعادلة وفوق جميع الشبهات.
فقبل كل شيء تنبغي الإجابة على هذا السؤال، هل لدينا دولة؟، أم هي غابة يأكل فيها القوي الضعيف، والغني يدوس على الفقير، لا تحكمها سوى المقاييس التي يقررها صاحب السلاح والمال والدعم الوارد إليه من وراء الحدود؟
فأية دولة تلك التي تعلن، على لسان رئيس وزرائها، أن الحشد الشعبي مؤسسة أمنية رسمية مقدسة تُمول وتسلح من خزانة المال العام، وأن قراراتها فوق كل قرار، ويصرح فيها وزير خارجيتها، رسميا، بأن وزارة الخارجية مجندة لخدمة مشروع الحشد الشعبي، رغم أن القاصي والداني يعلم أن أساسه، وأهم مكوناته، مليشيات تفاخر بطائفيتها، وتجاهر بعدائها لنصف الشعب العراقي، وتعلن، ولا تخاف ولا تستحي، أنها فوق الرؤساء والوزراء، وفوق الجيش والشرطة، ولا تأتمر إلا بما يقرره المرشد الأعلى في طهران؟.
ولعل أدق تشخيص لحقيقة العملية السياسية التي أنتجت هذا الكيان الهش، وسلطت الحشد الشعبي على البلاد والعباد، يأتي من داخل هذه العملية السياسية ذاتها، على لسان السياسي الكوردي الجريء الدكتور محمود عثمان. فهي الأهم والأخطر من جميع الشهادات والتحليلات التي حاول بها جميع الكتاب والمحللين والسياسيين الواقفين خارج النظام تشحيص الوضع الراهن في العراق الجديد.
صحيح أنه ليس واحدا من صناع القرار الأوائل الفاعلين، لكنه صانع قرار أيضا، ولو من بعيد، ومن المقاعد الخلفية في القيادة.
يقول في آخر حديث أدلى به لصحيفة (الشرق الأوسط):
إن “قادة الكتل هم الذين يديرون العراق. البرلمان والوزارات ورئاسة الجمهورية تدار من قبل قادة الكتل السياسية، وهذه الكتل غير متفقة مع بعضها”
“كلهم انتقائيون بالالتزام بالدستور. يقولون نلتزم بالدستور، وهذا غير صحيح، فكل واحد منهم يلتزم بالفقرة الدستورية التي تعجبه أو تفيده، أما التي لا تفيده فلا يلتزم بها”.
ويزيد في تفسير هذه النقطة فيقول:
” اليوم في العراق يوجد نحو مليون مسلح يقودهم المالكي، ومن يتحكم في القوات المسلحة يكون هو الأقوى. فالعراق لا يزال يُحكم بقوة السلاح. صحيح أن هناك برلمانا ورئاسة جمهورية
ورئاسة وزراء لكن الذي يتحكم بالقوات المسلحة هو الذي يحكم”. ويختم شهادته قائلا، إن “العراق ليس دولة”.
وقد جاء قرار المحكمة الاتحادية الأخير تأكيدا لرأي الدكتور محود عثمان، وبالقلم العريض. فقد برر المتحدث باسم السلطة القضائية عبد السلام بيرقدار ذلك القرار بالقول: ” إن وجود منصب نائب أو أكثر لرئيس الجمهورية إلزامٌ نص عليه الدستور، وإن إلغاءه يعني تعديل الدستور لسنة 2005″.
إنها كلمة حق أريد بها باطل. فلو كان القضاء يحترم نفسه، ولو كان حافظا لحياده واستقلاله وعدالته لقال: ( إن ألغاء منصب نائب رئيس الجمهورية يخالف أحكام الدستور) وسكت، لتعود القضية، بعد ذلك، إلى البرلمان، ليقرر تأييد قرار رئيس الوزراء بطرد النواب الثلاثة، أو رده بأغلبية الأصوات. برغم أن النتيجة، في النهاية، ستكون هي ذاتَها في البرلمان الذي يدار من قبل رؤساء الكتل، وخصوصا أقوياءهم أصحابَ القوة المسلحة، (على رأي الدكتور محمود عثمان).
إن الضجة العراقية الغاضبة على القضاء تظلم رئيسه ورفاقه معه حين تصب عليهم نقمتها، وتتهمهم بمسايرة نوري المالكي، وخدمة مصالحه، والخضوع لإرادته، دون احترام لأنفسهم، ولا لسمعة الوطن كله، ودون اكتراث برأي الشارع المحتقن، وذلك لأنها تجهل أن رئيس المجلس الأعلى للقضاء لا يستطيع أن يكون طرزان القرن الواحد والعشرين.
فلو جئنا بالمهاتما غاندي، أو نلسون مانديلا، أو الجنرال ديغول، أو حتى بصدام حسين نفسه وعيناه رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، في دولة يديرها نوري المالكي وهادي العامري وقاسم سليماني وحيدر العبادي وصالح المطلق وأياد علاوي وأسامة النجيفي وإبراهيم الجعفري فلن يستطيع أن يفعل سوى واحدٍ من ثلاثة، إما أن يستقيل فيعتقله نوري المالكي وحيدر العبادي وهادي العامري بتهمة الاختلاس والرشوة، أو أن ينتحر كما انتحر عبد المحسن السعدون، أو أن يفعل ما يفعله مدحت المحمود، منذ ثالث عشرة سنة بالكمال والتمام، فيُطئطيء كما طأطأ، ويرضخ كما رضخ، ويغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويقطع لسانه، وهو كظيم.