23 ديسمبر، 2024 11:00 ص

محمود صبري يعود حياً.

محمود صبري يعود حياً.

بدءاً اقول انني واجهتُ، في تشرين اول الماضي، أياماً كثيرة  وساعات كثيرة ،لمتابعة سيرة ذاتية ،فريدة ومميزة ،أدخلت البهجة الى اعماقي ،فقد انشغلت بقضية كبرى من القضايا التي وصلتْ عندي الى حدٍ يمكن أن أصفه بـ( الانجاز الثقافي الاعظم) القائم على احترام وسائل كشف مظاهر ومصادر الابداع في الفن التشكيلي العراقي محمولة على كتاب مرسوم بقلم  الكاتب العراقي المقيم في عمان – الاردن الدكتور حمدي التكمجي الذي بلغ قمتين إبداعيتين:  قمة (احترام الذات) وقمة (احترام الذات الاخرى) من خلال خبرته التحليلية بعرض وايجاز الجو الفني – الاجتماعي- السياسي عن سيرتيْ حياة شخصيتين عراقيتين ناشطتين في الفن العراقي.فقد وصلني بالبريد من لندن كتابان ، هدية من الصديق العزيز حمدي الذي عرفت كتاباته كلها  تمر بمصانع الكلمات المتقنة من دفاتره الشخصية الصغيرة، كي تتحول الى سجلات كبيرة، بصناعة فكرية متميزة ، بنسيج ساطع اللون، في الكشف المرئي عن نماذج الموهبة والعطاء لدى فنانين عراقيين او كتــّاب عرفوا بالعطاء المتنور ،المثمر.  

يتعين عليّ القول، أولاً،  انني وجدتُ في هذين الكتابين المرسلين، من نظرتي الاولى عليهما، ومن خلال تصفحهما أن مؤلفهما ومصممهما وطبـّاعهما قد بلغوا ،جميعا ، صناعة  هذا الانجاز الاعظم في إصدارات الكتاب العراقي بمستوى حر ، مستقل،  جابه الصعاب بنفسه منتصرا عليها . لم يكن المساهمون بهذا الكتاب مجرد فنانين في فنون الكتابة ، والرسم، والخط،  والطباعة فحسب، بل كانوا مطوّرين حقيقيين لصناعة النشر في العراق، شكلاً وعلماً، لأن كل واحد من المشاركين في صنع هذين  الكتابين كان يحترم ذاته مثلما يحترم ذوات الآخرين سواء  القراء أو  الذين وردت أسماؤهم ومقالاتهم ومشاركاتهم في مضامين الكتابين.

أضواء جديدة على مشاهد قديمة

تميز عندي هذا كله بمتابعةِ نشاطٍ وفعاليةٍ من نوعٍ خاص حين أكملتُ،  بشغفٍ واهتمام ، قراءة كتابين، كبيرين ، جميلين ، بحجم الرافدين العظيمين ليسجلا عنوانيهما في المكتبة الوطنية بأنهما أكبر وأجمل كتابين عراقيين مالئين العرش الفارغ في كتب الفن العراقي الملون . الكتابان من اعداد وتأليف الدكتور حمدي التكمجي. كان الاول عن الفنان المفكر محمود صبري . الثاني عن الفنان الطبيب قتيبة الشيخ نوري. وجدتُ مؤلف الكتابين قد سعى ، بجهد عظيم،  لكسر الصمت الاعلامي، الفني، الثقافي، عن شخصيتين فنيتين عراقيتين توالدت فعالياتهما الريادية في الفن التشكيلي العراقي منذ عقودٍ عديدة، لكن  أبعدتهما عن الأضواء ممارسات السلطات الثقافية الرسمية في زمان القهر والعدوان الذي مرّ بالعراق، خاصةً زمان  صدام حسين . بهذين الكتابين أوجد حمدي التكمجي بديلاً فعــّالاً لمواجهة الصمت بتحدٍ ثقافي كبير إذ  استطاع أن يُنبت في مكتبة الثقافة العراقية روضتين مخضرتين بالنشاط الفني . كان ميـّالا نحو توفير علاقة متناسقة بين شخصيتين فنيتين، والتاريخ الفني العراقي،  على أساس من النظرة الجماعية ، التحليلية ، لفنون ونشاط محمود صبري وقتيبة الشيخ نوري لكشف جوانب هامة من تراث الفن التشكيلي العراقي المكتوم.  بجهود جميلة وعظيمة في تاريخ الفن العراقي استطاع كاتبنا التكمجي أن يُدخل إلى  المكتبة العراقية مثل هذا الحدث ،الذي انجزه ، وهو ثمانيني العمر، مستخدما تكنيك الشباب الحر، بشوق حار ،وبإصرارٍ متحمس.  بل وجدتُ التكمجي يتجوّل ويتحوّل  في ظل أسلوب ثقافي – فني متميز قادراً على ان  يقدم للجيل الفني – الثقافي العراقي الجديد قيماً فنية – فكرية تخص السيرة الذاتية لأثنين من الرسامين العراقيين الاكثر ذكاء ووعياً في فهم (الحرية) وشروطها المسبقة المتعلقة بـ(الوعي) أولا وقبل كل شيء.

مفاهيم عن قضية الحرية

بالرغم من ان الموت قد انهى حياة الفنان قتيبة قبل الاوان ،وانهى حياة محمود صبري ربما  في أوانه ، إلا ان حمدي التكمجي مؤلف الكتابين أراد تأكيد حقيقة ان (الموت) ليس نهاية كل شيء طالما اشياء هذين الفنانين كانت معنية بقضية (الحرية) ثم جعلهما بمبادرته وبقلمه معنيين بقضية (الخلود) من خلال ما اتصف به وعرف عنه من وفاء ليس لأصدقائه فحسب ، بل لشعب العراق كله . لقد أراد حمدي اعادة بناء مفاهيم الحرية الحقيقية في الفن العراقي ،  أراد أن يكون منصرفا لتحريض آخرين من الكتــّاب والفنانين والسياسيين العراقيين ليعلنوا خطابهم المستتر عن كل ما هو مخبوء او مختزن في الذاكرة الثقافية العراقية . بدا لي بوضوح تام ان المؤلف بما يملكه من وثائق، وارشيف صحفي،  وذكريات شخصية، ومعلومات خاصة وعامة،  فسح المجال امامه لسرد الاحداث والوقائع والافكار من ثم في إخراج ذلك السرد الجميل ، كله ،  بشكل فني متميز برقيّ الطباعة والتصميم والتلوين يليق بمستوى علمين مرفوعين على اعلى صاريتي هذين الكتابين بما يجذب ويوسّع  افق  القارئ عن “الحرية”  من خلال  الاطلاع على التجربة الوجودية العملية لبعض جوانب مكونات الفن العراقي متجلية في ميادين افكار ولوحات محمود صبري وقتيبة الشيخ نوري.

في هذا السياق ابدأ ، أولاً،  في مقالتي الأولى هذه، بتقريب القارئ من الكتاب الأول الذي ركز فيه الاضواء الكاشفة على الفنان محمود صبري ،المفكر، المبدع ،الانسان .لا أدري كيف يمكنني تصنيف هذا النوع من تناول سيرة فنان في كتاب يريد التميز بالوصول إلى أعلى مستويات الطباعة والتلوين والإخراج..؟ هل أصنفه في خانة الكتابة عن (سيرة فنان ذاتية)  يكتبها صديقه.. أم اصنفه ضمن كتب التوثيق ، أم اصنفه ضمن تمجيد النشاط ، النوعي أو الكمي،  لفنان مناضل من خلال ما كتبه الفنان نفسه أو ما كتبه الاخرون عنه من نقاد وصحفيين ومؤرخين ومفكرين..؟ في الحقيقة يمكنني القول أن الأساس في منظور المؤلف – المعد (الدكتور حمدي التكمجي) هو جمع كل هذه الاساليب في تجربة متلاحمة الجوانب ومتداخلة الأزمان والامكنة ليقدم لقرائه كتاباً من نوع جديد بأسلوب فني ، هارموني،  مشوق ومذهل،  ساهم أو يساهم في تقدم المنهج البنيوي في ركن هام من اركان الثقافة العراقية مما يستحق عليه عظيم الشكر والامتنان.

تجارب محمود صبري

ركز حمدي التكمجي في هذا الكتاب على مسألة التحديث النوعي للمعلوماتية التي يملكها وذلك  بلجوئه الى الامتثال في استخدام كل تقنيات الطباعة الحديثة لإصدار كتاب امتلأت متونه بتوافق تام مع امتلاء حياة وفنون ونضال الاسم الخالد المحمول على عنوان الكتاب.  هذه هي فرضية اولى واساسية لدى التكمجي فأِن الفنان المسكوت عنه ينبغي ان يعطى امتيازا خاصاً،   باستخدام منجزات ونظرات ومكتسبات ليس فقط في كتابات ولوحات محمود صبري نفسه ، بل في ضوء الدراسات والمقالات المكتوبة من قبل أصحابه ونقاد فنونه في ضوء مناهج فنية – تشكيلية من وجهة نظر معرفية بأبعادها الليبرالية – العلمانية.  فتح التكمجي بكتابه عن الفنان محمود صبري باب المعلومات المنغلقة عن جوانب كثيرة في الفن التشكيلي  العراقي  وعن سلطة الفلسفة في التأثير عليه . كما جعل القارئ والباحث امام نقاش دقيق وامام تفسيرات تقدم جواباً حاسماً عن مستويات التطور في فن الرسم العراقي، التي بلغها محمود صبري بتوافقه التام مع الوضع الاجتماعي والسياسي ضمن واقع  الطغيان الحاكم ، وتجارب نضاله داخل وطنه وضمن خارطة معاناة الغربة خارجه.

لوحة وطني

تضمن الكتاب المعنون : ( محمود صبري ..حياته وفكره وفنه) الصادر بجهود فنية راقية من مطابع دار الاديب العراقية في عمان – الأردن بتصميم رائع أنجزه كفاح الشبيب بـ334 صفحة  مخصصة باللغة العربية وبـ 17 صفحة باللغة الإنكليزية بحجم  كبير. حجم خاص ومبتكر، مربع الأبعاد ، وبمظهر بدا لي بمستوى عال، رفيع ، كانت قد  بلغته، من زمن بعيد،  دور النشر العالمية في لندن وباريس وبرلين  وغيرها . بدأ الكتاب بعرض لوحة (وطني) التي باشر برسمها  محمود صبري في بغداد وأكملها في موسكو وبراغ وهي من لوحات المسيرة النضالية العراقية .. ابطالها الناس بمختلف مستوياتهم الاجتماعية. يفترض ان تكون نهاية عرض هذه اللوحة ذات يوم في المستقبل  بموقع متميز في احد شوارع بغداد او منتدياتها او قاعاتها لتكون اضافة فنية جديدة عالية المستوى في طقس بغداد الفني، لأنها في جوهرها ذات رمزية نضالية و ذات شعبية لا تقل عن شعبية (نصب الحرية)  لجواد سليم بما تمثله من امتثالية واسعة  وعميقة .

انطلاقة تقدمية

في هذا الكتاب انطلق المؤلف من عرض التجربة الشخصية لمحمود صبري، التي ظلت حاضرة في مفهوماته الفنية والسياسية والاجتماعية من ايام شبابه حتى رحيله في الغربة. وقد كانت هذه التجربة نموذجاً فنيا فريدا جعلها قادرة على تحقيق ظاهرة الاندفاع نحو تكوين وانشاء الانظمة العلمية في الفن العراقي لوضعها في متناول الاجيال الفنية الجديدة بصور متطابقة بين فن الماضي والفنون الحاضرة في تجارب الفنانين التشكيليين العراقيين، التي كانت قد انطلقت في تلك الفترة انطلاقاً، طبيعيا ،تلقائيا، في العراق من دون تدخل السلطات الحاكمة بذاتها وبما حملته من اخطار اجتماعية وفنية حين تدخلت ،مثلاً، سلطات صدام حسين في شئون الفن والثقافة عموما من خلال مخطط تطبيقي لضمان تبعية الثقافة والفنون للحكومة واجهزتها لتكون صدى لنداءات جنرال الحروب الداخلية والخارجية التي جعلت ارض العراق خراباً، كما جعلت كثيرا من فنونه رسوماً لتفسير خطابات الفوهرر العربي صدام حسين .

جماعة الطريق

في الصفحات الأولى  كتب التكمجي مقدمة وافية عن محمود صبري كاشفاً فيها حقائق عديدة وكثيرة  غير متوقعة من قبل القارئ إذ عرض فيها تفاصيل متنوعة، بحسٍ وطني، سليم وخالص،  عن الروح  الشبابية الوطنية اليسارية ،التي ملأت أعماق هذا الفنان . ثم مواصلته هذه الشبابية الى اخر يوم في حياته من دون ان يفترق عن ذات الطريق، التي بدأ منها في النضال والمعرفة والفعالية الفنية من أجل الجمهور والوطن والبقاء . وقد كشف التكمجي عن نوع من العلاقة بين ثلاثة اصدقاء كانوا يشعرون بأمان نسبي من جانب ،وبروح الفعالية المشتركة من جانب اخر، وبالإصرار على عمل فني يخدم بنهاية المطاف مصالح الناس المحبين للحرية والمندفعين نحوها. اطلق حمدي التكمجي على هذا النوع من علاقة صداقة ثلاثية جمعت محمد صالح العبللي ومحمود صبري وحافظ التكمجي اسم (جماعة الطريق) التي توسعت في ما بعد لتضم عددا من الاصدقاء والمعارف . نتطلع هنا الى أن اختيار التكمجي لكلمتي (جماعة الطريق) لم تكن عفوية او اعتباطية بل كانت (الطريق) جديرة بالثناء لهذه الجماعة الثلاثية ليوفر منذ البداية بداهة مقنعة تتعلق بمشترك عام وخاص يجمع، ببساطة ، هؤلاء الشخصيات الثلاثة على سجادة واحدة ذات أهداف مشتركة على وفق فكر مشترك وجدوا أنفسهم مجمعين على نشره بين الناس .

مكتبة الطريق

 من الذكريات الجميلة التي كشفها حمدي التكمجي في كتابه الفريد أن جاذبية العلاقة الثلاثية كانت قد انتجت أثراً كبيراً ذا دلالة عظيمة في الثقافة العراقية  وفي ميدان (التنظيم) من اجل (الحرية) بتصور ايجابي في حق المواطنين بامتلاك الكتب الناشرة لمفاهيم ووسائل الحرية ومعطياتها حين بادر العبللي مقترحا  تأسيس مكتبة تحتوي على كتب وطنية ويسارية وثورية لتوزيع وبيع الكتب ونشر الإصدارات الحديثة. بالفعل، وبالاشتراك مع حافظ التكمجي، اسسا مكتبة (الطريق) بشارع الأمين في بغداد بتشجيع من محمود صبري . انتقلت المكتبة في ما بعد الى شارع الرشيد مجاورة مقهى حسن عجمي . ركزت جهودها في نشر وتوزيع الكتب التقدمية ومنها ترجمة وطبع وتوزيع كتاب (الحرية) للكاتب هاورد فاست وبسبب نشاطاتها الوطنية اغلقت المكتبة وكذلك اغلقت مكتبة بغداد لنشرها  كتاب (ما هي الماركسية). 

عملتْ (جماعة الطريق)  على تأسيس نادٍ في المدرسة الاعدادية المركزية في العطلة الصيفية لعام 1945 كما اوضح حمدي التكمجي دور هذا النادي في (مكافحة الأمية) بتعليم  العمال الذين لا يعرفون القراءة والكتابة.  كان من جملة من عمل في تدريس طلاب دورات مكافحة الامية هم كل من:  عبد الله عباس، ويحيي الوادي، وعبد الرحمن الدايني، وسعد شريف، ويوسف شريف، وداود سلمان، وعدنان النقيب،  وقد انتخب محمود صبري رئيسا او مديرا لهذه الدورة . كانت (جماعة الطريق) قلقة جدا من مخاطر وجود الامية في بلادنا وكانت تعرف ان مثل هذه الدورات لم تكن على مستوى الواقع تمثل قدرة عملية انتقالية واسعة ، لكنها قد تستطيع تنبيه المعنيين الى ان (الجهل) أحد اخطر الامراض الاجتماعية مما يستوجب معالجته عاجلا او اجلا .

محمد صالح العبللي فناناً

هل يمكن ان نتصور ان شاباً نشيطاً في الحزب الشيوعي كرّس وقته في العمل السياسي والجماهيري ان يجد فرصة أخرى لكي يلبي امنياته بالعمل الفني ايضا رغم قلة امكاناته..؟  على هذا السؤال أجاب حمدي التكمجي في احدى نقاط مقدمته المكثفة حين تناول مسألة لم يتطرق لها الكتاب المسرحيون ولا الأرشيف المسرحي العراقي وهي أن (مسرحية قيس وليلى) التي كانت مكتوبة بــ(اللهجة اليهودية الدارجة) ألفها محمد صالح العبلي وأخرجها ومثـــّلها. كان التكمجي على اطلاع بكل تفاصيلها حيث قام العبللي بدور (قيس) وقام شهاب القصب بدور (ليلى) . قدمت المسرحية في ساحة مدرسة المأمونية وأعيد عرضها في الاعدادية المركزية.  كما ذكر التكمجي ان العبللي ألف واخرج مسرحيات اخرى عرضت في مدرسة المأمونية ونالت استحسان المشاهدين والدوائر الفنية الرسمية مما يؤكد حضورها في الساحة الفنية آنذاك ساعياً الى توجيه رفاقه بالقول: كونوا نشيطين فعـّالين  في كل ميدان ومن الخطأ ان لا تقدموا كل ما تستطيعون.

في الحقيقة أن جسارة محمد صالح العبللي وقوة شخصيته واندفاعه نحو النشاط الفني التلقائي  بما يحمله من محاسن الإرادة الذاتية جعلته  قادراً على تنويع نشاطاته، العامة والخاصة،  وتصريف جزء منها للعمل المسرحي ليكون مناضلا صالحا من اجل الشعب وحقوقه وتطوير ثقافة شبابه. بهذا فأن احدى فضائل هذا الكتاب انها كشفت للقارئ ، وللمناضلين ، القدماء والمعاصرين، صفة ايجابية من صفات الشيوعي العراقي بإيجاد رابطة واضحة بين النشاط العام والنشاط الخاص ، بين النشاط الاجتماعي والنشاط الفني.

سيرة محمود صبري ورؤيته

كانت استراتيجية حمدي التكمجي في هذا الكتاب تقوم على أساس تقديم العرض المكثف، المركز، في السيرة الذاتية لمحمود صبري لكي تمثل وقفات تنظيمية لا تشمل افتراضات بل هي وقائع محددة بالتواريخ والشهادات الموثقة لتجد تعبيرها المباشر في توثيق كتابه بالعديد من الاشكال والوسائل المتفوقة ، ذات القدرة على تزويد القراء بالعلاقات المشحونة في حياة الفنان محمود صبري الاجتماعية والسياسية الفنية. كانت صفتها الرئيسية أنها علاقات ذات بنى واسعة من الوجود الفعلي في الساحة العراقية ، من المؤكد أنها ستكون اضافة حقيقية فعالة في الثقافة العراقية بما استخدمه هذا الفنان من نشاطات سياسية واجتماعية وفنية بأشكال غير محدودة ، سواء في التورية اللغوية او في الرموز الفنية أو بما يتعلق بتاريخه الفاعل في ميادين مختلفة .

رسخ حمدي التكمجي في كتابه خلفيات متجذرة تاريخيا في سيرة محمود صبري، منها :

    عام 1953  كان محمود صبري أحد الاشخاص المهمين في اصدار مجلة الثقافة الجديدة . ما زالت هذه المجلة حاضرة حتى اليوم بما تحمله من التزامات وطنية وثقافية حرة ،بما تحمله من قدرات لتعزيز مظاهر الثقافة التقدمية داخل المجتمع.

     في مذكرات محمد حديد ورد ان لقاءات الرفيق سلام عادل (سكرتير الحزب الشيوعي) مع محمد حديد ( القيادي في الحزب الوطني الديمقراطي) للتحضير لثورة 14 تموز كان بعضها يُعقد في دار محمود صبري .

 

    في عام 1960 سافر محمود الى موسكو. كان هذا الانتقال خطوة رئيسية لسبر مراحل تفوق الرسم العالمي ورصد صوته ورؤياه وايماءاته من اجل رفع مستوى الرسم العراقي.

 

    كان سلام عادل يتردد دائما على شقة محمود صبري في موسكو .بالإضافة للمشاعر السياسية والوطنية والثقافية المشتركة كان سلام عادل  يحمل مشاعر كشفت عن حقيقة أنه يهوى الفن والادب والشعر والمسرح . كان يحضر الى شقة محمود صبري كل من صلاح خالص وغائب طعمة فرمان والشاعر عبد الوهاب البياتي وعدد من الفنانين العراقيين والسوفييت . كذلك كان سلام عادل يصحب معه  محمود صبري لزيارة الطلاب العراقيين وتفقد شئونهم ودراستهم.

 

    حال الاعلان عن انقلاب 8 شباط 1963 كان محمود صبري أول المتحركين لإدانته سياسياً، حيث اجتمع  في تلك الساعة العصيبة بشقة الدكتور صلاح خالص  كل من حمدي التكمجي وعبد الوهاب البياتي وغائب طعمة فرمان . تمّ اطلاعهم على البيان الذي وضعه محمود صبري وترجم الى عدة لغات وارسل الى الامم المتحدة ورؤساء دول عدم الانحياز والصحف العالمية. تم اثر ذلك تشكيل أول لجنة للدفاع عن الشعب العراقي واستمر محمود مع اللجنة في كتابة البيانات والبرقيات ضد الانقلاب ثم انضم الي هذه المجموعة الدكتور محمد علي الماشطة والدكتور عبد الرزاق مسلم والدكتور دارا رشيد جودت.

 

    بالرغم من ان حمدي التكمجي قد تابع كل نشاطات وفعاليات صديقه  محمود صبري الا انه لم يترك متابعة نشاطه الفني الواسع فقد اشار في كتابه الى ميزات العطاء في فن محمود ، في رسمه لثمانية او عشرة ألواح جدارية ملوّنة بطول 5 م جسدت ملحمة نضال الشعب العراقي بعنوان (وطني) كانت اشبه بنصب الحرية على أساس أن يضعها خلف جدارية جواد سليم في حديقة الامة. كانت هذه اللوحة انجازاً فنياً عظيماً.. عرضها في عدة مدن اوربية ونالت اعجاب كل من رآها . كان التكمجي قد شاهدها في أول عرض لها بمدينة كارلو فيفاري الجيكية بحضور الدكتورة نزيهة الدليمي والفنان يوسف العاني.

 

    كذلك انجز محمود صبري ألبوماً فنياً تضمن 12 لوحة تحتوي على رسومات رائعة لكل من فهد وسلام عادل ومحمد صالح العبللي وجمال الحيدري . كما كان قد رسم حمامة سلام لمؤتمر النساء العالمي قدّمها بواسطة وفد رابطة المرأة العراقية . كما رسم لوحة تل الزعتر، ولوحة تشيلي، وحامل الصليب  .

 

استطاع الدكتور حمدي التكمجي ان يقدم سجلاً موثوقاً لقرائه بستة فصول من كتابه. كل فصل صار امتيازاً غنياً في رسم صورة بانوراميه تحليلية عن ثروات الفن العراقي المتجسدة ليس في لوحات وفنون محمود صبري فحسب، بل في كونه فناناً متجذراً في أعماق الشعب العراقي وبكونه جزءا كبيراً من الثروة الثقافية اليسارية في العراق، وفي كونه صاحب نظرية فنية كانت وستظل محور اهتمام الفنانين العراقيين وغير العراقيين، الذين يمتلكون فصاحة عميقة ونصاعة نشيطة، منظمة او غير منظمة ، ليكونوا ضمن الظاهرة المتفردة ، التي ناضل من اجلها محمود صبري آملاً ان تكون محركاً لتغيير المجتمع العراقي نحو مستقبل افضل . لتكريس صورة ظاهرة محمود صبري قام حمدي التكمجي بفهرسة ابواب الكتاب السبعة بصورة جعلها مرأة حقيقية امام الناظرين الى سيرة محمود صبري، الخالد الذكر . الفصل الأول تضمن مقالات وابحاث محمود صبري، الفنية والفكرية والسياسية، كان منها مقال بعنوان مشكلة الرسم العراقي ، ومنها بيان واقعية الكم ،وملاحظة حول دور الفن في القضايا العربية المعاصرة ، واقعية الكم وبرتولد بريخت ، ودراسة حول المفهوم المادي للتاريخ وغيرها.

اما الفصل الثاني فقد تخصص بالمقالات المكتوبة عن محمود صبري بأقلام يوسف العاني، وفيصل لعيبي ،وكامل شياع ،وعبد الله حبه، وجاسم المطير ، وثمينة ناجي يوسف، وصادق الصائغ وغائب طعمة فرمان وغيرهم

الفصل الثالث تمّ تخصيصه لكتــّاب تناولوا فيها نظرية (واقعية الكم) كان منهم مفيد الجزائري وعدنان الظاهر ومكية الشامي وعادل كامل ومحمد الجزائري وغيرهم .

الفصل الرابع من الكتاب تضمن مقتطفات من رسائل محمود صبري الى الدكتور حمدي التكمجي كان اغلبها يحمل مضمونا فكريا عن اهمية الفكر، وعن اهمية الاختبارات الصحيحة في الحياة ، وحول الحداثة والفلسفة والدين والعلم ،وغيرها .

الفصل الخامس تضمن نشاطات محمود صبري بأقلام مجموعة من المثقفين العراقيين امثال مهدي الحافظ ،الفريد سمعان، ساطع هاشم ،امجد حسين.

اختتم  الفصلان السادس والسابع بلوحات عن شهداء الحركة الوطنية العراقية وبصور شخصية للفنان محمود صبري .

ختاماً لا بد من القول ان هذا (الكتاب – الموسوعة) المنجز بجدارة تامة من قبل الدكتور حمدي التكمجي يقدم للقراء العراقيين والعرب نموذجا فريدا من امثلة الفن العراقي باعتبار محمود صبري واحداً من أعاظم  نشطاء العناصر الفنية اليسارية في العراق قدمت للفن والتاريخ والثقافة العراقية عطاء لا يكف عن ممارسة تأثيره الفعال في المجتمع العراقي وفي بناء مستقبله .