تعد مدينة النجف – جنوب غرب العاصمة بغداد- مركز الحوزة العلمية لدى الشيعة، التي يرتادها طلبة العلوم الدينية، من مختلف البلدان الإسلامية، فالعلم والتعلم والتعليم هناك، ليس له حدود، يدخلها الطالب صبيا أو شابا أو شيخا، وقد يغادرها بعضهم ويعود لدياره؛ لتعليم ما تعلمه، ويستقر فيها آخرون، حتى نهاية عمرهم.
بعيدا عن العلوم الدينية، نلقي نظرة على دور الحوزة، في التعامل مع القضايا الأساسية، السياسية والانسانية والوطنية، فهي ذات تأثير كبير في الأوساط الشيعية، وتعد المرجعية الروحية لملايين الشيعة، في العالم أجمع.
لا تتدخل حوزة النجف في الجوانب السياسية، إلا بالنصح والرشد، هذا يتمثل في موقف المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، الذي أغلق باب بيته، بوجه السياسيين العراقيين لسنوات، وما زال على هذا الحال، بعد أن نصح بالابتعاد، عن كل ما يزيد من معاناة الشعب العراقي، واستنكر الفساد المستشري في البلاد، وطالب بمحاسبة الفاسدين، واصلاح القضاء.
رفضت الحوزة الدينية، التفرقة والطائفية، ويبدوا ذلك جليا، في دعوتها للوحدة، إبان تفجير مرقد الإمامين العسكريين – المبجلين لدى الطائفة الشيعية- حين تصاعدت الهجمات الإرهابية، وازدادت التناحرات، وباتت البلاد على شفا الحرب الأهلية؛ أصدر السيد علي السيستاني بيانا، قال فيه: “إن السنة انفسنا” سعيا منه لتقليل الاحتقان، وتجنيب المواطنين شر الاقتتال.
دخول ما يسمى “داعش” إلى سورية والعراق، وما قاموا به من قتل وتنكيل، بالنساء والاطفال والابرياء، واقترابهم من العاصمة العراقية بغداد، في موقف غريب،؛ حين سيطر الإرهابيون على محافظات كاملة، وبلا مقاومة، حينها تدخلت الحوزة الدينية، وأعلنت فتوى الجهاد الكفائي، فخرجت الملايين من الشباب العراقيين، لمساندة القوات الحكومية ومقاتلة “داعش” ، وعندها بدأ العد التنازلي للقضاء على التنظيم الإرهابي في العراق.
تعد الحوزة في النجف، من المناصرين لكثير من القضايا الانسانية والإسلامية، كالقضية الفلسطينية، التي نالت التأييد منها على مدى السنوات المتتالية، وتمثل ذلك في البيانات والدعوات المتكررة، الرافضة للاحتلال، وآخرها رفض التطبيع مع اسرائيل.
الحوزة لها عدة مراجع كبار، لهم اتباعهم، وثقلهم في المجتمع العراقي والشيعي، أحد هؤلاء، السيد محمد سعيد الحكيم، الذي توفي مؤخرا، هو من عائلة مشهورة؛ بالعلم والعلماء والشهداء؛ فلهذه العائلة اكثر من خمسة وسبعون شهيدا، اعدموا خلال حكم نظام صدام، وبعض ممن سلم من القتل؛ ناله السجن لسنوات، ومنهم السيد الحكيم، الذي قضى سنين عدة من حياته في السجون.
يعد السيد الحكيم من أبرز علماء النجف، وأحد المرشحين لخلافة السيد السيستاني، كمرجع أعلى للطائفة الشيعية، له كثير من الكتب والمؤلفات والمحاضرات، وهو أحد أركان الحوزة العلمية المؤثرين، وبفقده خسرت النجف، مرجعا ترعرع بين حلقات دروسها، صبيا وشابا وشيخا، طالبا واستاذا وعالما.
العراق في ظل ظروفه الحالية، يحتاج لكل صوت عقل وتسامح وإنسانية ، وإن فقد أي رمز من رموز الاعتدال؛ إنما يمثل خسارة للبلاد، المتخمة بالمشكلات السياسية والاجتماعية والامنية، ويمكن وصف التحدي الذي يواجه البلاد منذ عقود، بأنه تحد مواجهة السلاح بالعلم، والطائفية بالوطنية، والعنصرية بالإنسانية، والفساد بالنزاهة، وكل ذلك بحاجة إلى رجال، لهم ثقلهم وكلمتهم وتجاربهم.
إن غياب مثل هذا المرجع؛ يمثل خسارة كبيرة للحوزة الدينية الشيعية بصورة خاصة، وللعراق والإسلام بصورة عامة، وليس ما حدث بأفغانستان من سيطرة طالبان على الحكم ببعيد، لأن الفارق بين ما حصل في العراق، العام 2014 بدخول إرهابيي “داعش” وما يحصل اليوم في افغانستان، هو كلمة السيستاني زعيم حوزة النجف، التي غيرت موازين القوى، وأنقذت العراق من مصير مرعب.