عالم عاش بجسده في عصرنا أمتهن لنفسه الفكر والعلم ليرتقي بها عقول الناس , اما روحه وعقله وتسبيحه وصلواته وعدله عاش في زمن الائمة الاطهار , ولد عام 1904 وتوفي يوم 28/12/1979 ونقل جثمانه الطاهر من لبنان الى النجف الاشرف وصلى عليه الامام ابو القاسم الخوئي قدس سره ودفن في احدى غرف حرم امير المؤمنين علي عليه السلام ,, كان يقول العلامة مغنية (( أغلى امنية على قلبي أن يفاجئني الأجل وأنا أكتب داعيا الى الله والحق والعدل والحرية، بل أسمى رغائبي أن أدخل الجنة لأقرأ فيها وأكتب خالي البال متحررا من الاشغال وهموم العيال وكم مر بخيالي هذا السؤال.اذا انعم الله علي بالجنة فهل أكون بطالا؟وهل يتسنى لي فيها ان اقرا واكتب ؟ وإجيب نفسي اجل ان فيها ما تلذ الاعين وتشتهي الانفس حتى لو تشتهي القراءة والكتابة ويعود السؤال بصيغة ثانية لمن اكتب واهل الجنة كلهم في غاية الجمال))؟ لم يتكرر عطاء الفكر والتأمل لانسانية رجل تصارع مع العلم وابقر جوانبه وفاضت الى الوجود الاسلامي وإنارة سبل المعرفة كالسيل الجارف ,قلماً لاينضب وعين لاتجف من أفكاراً دونت بوقائع وإحداث تاريخية,رباطة جأشه وفراسته تعزف لنا الأمل وتنير سبل المعرفة ,لاتوجد لديه وسطيه وكان مدافعا أمام شبهات أحاكها أعداء الدين والدنيا , أزهر الفكر العربي بعلوم الفلسفة والوجودية والتنوع المعرفي وأغنى المكتب الإسلامية بمنار كتبه النقية الصافية وسعى دوما للتقارب والوحدة الإسلامية , وطاف البلدان من أجل ذلك وله صولات في الأزهر, ضلت أنفاسه وأنامله تقمع الفتن ويديه البيضاء تحمل العلم , أفنى حياته بالمطالعة والكتابة والبحث, كان غزير المعلومات وشديد الثقة ويقظ الضمير سهل المعاشرة بسيط العيش, لا يخشى في الحق لومة لائم , يجري على لسانه الصدق , ويردد باستمرار قوله تعالى ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ), عملاق الفكر والتأمل ولقب بقلم الشيعة ولد في قرية طيردبا قضاء صور وأسم مغنية هو لنهر ينبع من السفح الشرقي لجبل الشيخ ويجري باتجاه دمشق , هو القائل (أما النقد فلا أخشاه مادمت قادرا على الاعتراف بالحق والواقع ودحض الافتراء والباطل ), في أحد أيام الجمعة تجولت في شارع المتنبي كعادتي وعيناي تدور نحو عناوين الكتب المفروشة أرضا ووقع بصري على كتاب عنوانه ( تجارب محمد جواد مغنية بقلمه ) طبع في لبنان واشتريته وما أن وصلت الى دارالدنيا سارعت لقراءته وأخذت صفحاته مني اشتياق التتبع ومتعة الفكر وغزارة الاحاديث سهل البيان لايكل ولايمل , وللأسف الشديد لم أجد كتب هذا العالم الجليل في سوق المتنبي منتشرة , مثلما أجد كتب السياسة وفن الطبخ والأدعية وكتب الدين التقليدية والأقراص المدمجة , ,ولله الحمد قرأت أكثر كتبه واقتنيتها في عهد المقبور صدام لما تحمله من تحليلات وجمل مؤثرة صاغت بأسلوب سلس سريعة الولوج الى الأذهان, و كان لهذا الكتاب أثرا كبيراً في الكتابة عنه باستمرار لما يحمله من طيات خالدة وبصمات الحزن التي رافقت العلامة مغنية , عاش الشيخ مغنية كما يقول يتيم الأبويين فهو لم تنطبق عليه نظرية فرويد حول ولادة الإنسان جنسيا ومعشوقته الأولى أمه ويغار عليها من أبيه , ويتمنى موته ليخلفه عليها من بعده , وحالة الفقر والعوز الشديد جعلته أن يذهب الى بيروت ويعمل بعدة مهن من اجل أن يأكل لا لغيره ولم يوفق بجميع الأعمال , ومن شدة فقره كان يتألم ويشمئز حينما تغيب الشمس ويقبل الليل في الشتاء , ويقول كنت أقيم في بيت أبي القديم اجلس على الأرض وأثني ساقي واضعا صدري على فخذي , وساعدي على رأسي أغطي جسدي بعضه ببعض حتى أصبح كالصرة المربوطة , عسى أن تخف وطأة البرد, وأصبت من ذلك بالروماتزم ولازمني لأكثر من 27 سنة ., ومن أجمل أقواله التي تتردد في ذهني ولأتغيب عن ذاكرتي : ( خذو من ممركم لمقركم ) و ( البلد الخبيث بحكامه وقادته هو شر وبلاء على العلماء والأبرياء ونعمة ورخاء على الجهل والأدعياء) , ويعتبر مغنية أن أسباب المعرفة ثلاث التجربة الحسية وهي المعنية بكلمة علم , العقل والمراد به كلمة هدى , والوحي المقصود الكتاب المنير , واهتم بدراسة تاريخ أهل البيت وألف بهذا المجال روائع الكتب أهمها الشيعة والحاكمون والذي احدث صدى واضحا بين َ فيه مساؤى خلفاء العصرين الأموي والعباسي وارتكابهم الجرائم بحق أئمة أهل البيت عليهم السلام وطبع لأكثر من مرة , وعناوين كثيرة في حقل التأليف , قيل انه كان يقراء ويكتب ويتأمل في الليل والنهار بين 14 ــ 18 ساعة واستمر على ذلك سنين طويله, وفي احدى الايام طرق بابه شخصا وهو منهمك بالمطالعة ولايحب ان يشغله احدا عنها وطلَ على النافذه ليعرف من الطارق واذا برجل يقول له اني احمل الخمس وسرعان ما رد عليه مغنية وقال اذهب ووزعه على المحتاجين وفقراء الحي وعاود للمطالعة , وتسلم القضاء وأصبح قاضيا للمحكمة الشرعية وسل سيف الحق والعدل في وجه الزعماء وارتقى الى رتبة رئيس المحاكم الشرعية الجعفرية عام 1951 في لبنان ( ويعتبر أعلى مركز رسمي وديني ) , ثم بعد فترة من ممارسته للمهنة التي كلف بها وأحسن على أتم الوجه باتخاذه قرارات صائبة وجريئة لحل النزاعات والحكم بالحق والعدل أقصى من منصبه كرئيس للمحاكم الجعفرية لصلابة موقفه وعدم تنازله من اتخاذ اي قرار عادل, حتى بقى الى سن التقاعد دون أن يتدخل في شؤون المحكمة , واستقال من كافة المناصب ليتفرغ للتأليف والقراءة , لقد أفنى عمره بالمطالعة والكتابة وقراء ألاف الكتب والمجلات والصحف وكتب ستين مؤلفا ً بعضها بعدة مجلدات وطبع أكثر من اثنين وخمسين كتابا , اذكر منها فقه الأمام جعفر الصادق عليه السلام بست أجزاء وتفسير الكاشف عن القران الكريم وفي ظلال نهج البلاغة بثلاث أجزاء وكتاب الشيعة في الميزان وهذه الوهابية …الخ , محمد جواد مغنية وصل الى النجف الاشرف عن طريق رحلة لم يمتلك فيها جواز سفر في نهاية العشرينيات من القرن الماضي رافقته أحداث لايتسع الوقت لذكرها , فهو خريج مدرسة الأمام علي عليه السلام التي هي روضة العلم ودوحة الفكر ومصنع العلماء , ورحل منها الى بلده لبنان عام 1936 بعد ان شرب من فكر ومعرفة فيض علوم مدينة النجف الاشرف ليستقر هنالك حتى وافته المنية لينتقل الى جوار ربه صانعا مجدا وعزا لايقهر واسما لايغيب عن اذهاننا دوما, والحديث يطول عنه ولأجل أن لانبخس عطائه الجليل الذي قدمه خدمة للإسلام والمسملين ورفع راية الله في مشارق ومغارب الأرض ليبقى اسمه عالقا في ثنايا قلوبنا دون استئذان ومن خلال كتابته فقد أبصر وأهدى الملايين ووهج طريق النور والمعرفة لهم , كافح من لاشيء ووصل الى الثرى بعقله وقلمه المبدع فرحم الله محمد جواد مغنية يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ويحشره الله من أحبه وكتب عنه باستمرار بحق محمد واله الطيبين الطاهرين .