لا يمكن لمطلع منصف إن يتحدث عن المفكر والمصلح الكبير السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) دون إن يكون تفوقه وصدارته في ميادين عدة العنوان الأبرز لحديثه، فمحمد باقر الصدر كان عالماً عاملاً، ومفكراً مبدعاً، وفيلسوفاً متبحراً، بامتياز يحير العقول.
ففي مجال العلم والعمل تجد بصماته شاخصة في مجالات عدة، ليس مجرد بصمات بل ريادة ومنهج جديد وتطوير منقطع النظير. وكأمثلة على ذلك:
في مجال الفلسفة صدر له كتاب فلسفتنا الذي بين فيه المعالم الرئيسية للفلسفة الإسلامية والفارق بينها وبين غيرها وضعف الطرح الآخر بأسلوب علمي رصين.
وختم بكتاب الأسس المنطقية للاستقراء الذي قدم فكراً جديداً في مجال بقي جامداً على منهج معين لأكثر من ألفي سنة، وإلى الآن لم يأخذ هذا الكتاب حقه من الاهتمام بحثاً وتدريساً وترجمة.
وفي مجال الاقتصاد قدم أطروحة البنك اللاربوي والذي كتبه استجابة لطلب بعض أهل الاختصاص وقدم من خلال نموذج متقدم للعمل البنكي الإسلامي.
وقدم كتاب اقتصادنا الذي يمثل طرحاً اقتصادياً متقدماً بمراحل على أي تصور سبقه يمزج بين الواقع المعاش والطرح الإسلامي الرصين.
وفي مجال الأصول قدم دروس في علم الأصول أو الحلقات التي تعد منهجاً أصولياً متكاملاً لمراحل الدراسة الحوزوية.
وفي مجالات أخرى يطول الحديث عنها قدم الكثير، ويمكن تلخيص ما قدمه بمقولة نقلها عنه أحد تلامذته مضمونها
“ما طرقت علماً إلا ووجدت نفسي على رأسه”
وكان كما قال قدس سره الشريف.
وعمل الشهيد محمد باقر الصدر في أكثر من ميدان بالتوازي مع التنظير في عدة مجالات فكان مثالاً حقيقياً للجمع بين العلم والعمل.
ففي الحوزة الشريفة -فضلاً عن نشاطه في مجال التأليف مظهراً بذلك الوجه الأكثر اشراقاً للحوزة العلمية ومحفزاً لغيره- كان دائب العمل في تطوير مناهج الدراسة الحوزوية وتطوير الأساليب. وفي مجال الإصلاح كان له صاحب اليد الطولى عبر أساليب تنوعت بين التواصل المباشر مع الناس والتفاعل مع الاحداث وطرح الحلول. فعندما كان المجتمع يأن من الفكر الماركسي الالحادي أصدر فلسفتنا واقتصادنا وأخرس الألسن وأبطل الحجج، وعندما استلم حزب البعث زمام الأمور في العراق تصدى له بكل الإمكانيات المتاحة وكان منهجه وفكره وأسلوب عمله هو الأساس الذي استندت عليه الكثير من الأحزاب والحركات الإسلامية داخل العراق وخارجه.
ولا يمكن أن نوفي المصلح الصدر حقه في خلاصة كهذه لم نذكر فيها إلا أمثلة مقتضبة من إسهاماته العملية.
هذه الصورة عن العلمية والعمل الكبير لهذا المفكر والمصلح الفريد لم تشفع له ليكون موضع اهتمام وتقدير أو أن يترك لحاله على الأقل بل كان حافزاً لجهات عدة متناقضة في الظاهر لتصب جام غضبها عليه فتظهر مظلوميته بصور مختلفة.
فكتبه وأطروحاته العلمية واسهاماته في تطوير مناهج الحوزة العلمية صارت لدى البعض موضع اتهام وتشويه وخاصة من داخل الحوزة نفسها، وتنوعت الاتهامات بين كفر وزندقة وخروج على المذهب وعمالة وغير ذلك.
واستمر الحال في بعض جوانبه إلى الآن للأسف فلازال هذا المفكر الكبير في نظر البعض ليس بمجتهد في أحسن التقادير!
ولازالت كتبه محل اتهام وعدم اهتمام في حوزة النجف رغم إن لها الريادة في حوزة قم!
أما حركته الإصلاحية ومنهجه في مواجهة الظلم فهو موضع اتهام أيضاً رغم إنه من يتهمه يعيش بركات هذا المنهج الذي لولاه لما تغير شيء أو لكان تطلب وقت وتضحيات أكثر.
وعمله السياسي التأسيسي تنظيراً وعملاً والذي يعد بحق الأساس لكل الحركات والجهات الإسلامية الشيعية الفاعلة في العراق حالياً، والجهات خارج العراق بمستويات مختلفة وخاصة في إيران ولبنان، بل إن تأثيره امتد إلى ابعد من الوسط الشيعي والإسلامي.
رغم كل ذلك تنكرت الكثير من الجهات السياسية له ولمنهجه وأخذت تنأى بنفسها عنه وعن منهجه، ومتخذة في بعض الأحيان المنهج المخالف له، وتسير في ركب من يرون ضلال منهجه الشريف.
رغم عن أبرز صور المظلومية للمفكر الكبير محمد باقر الصدر وفقاً للمتعارف تتمثل فيما تعرض له من ضغوطات على يد النظام الصدامي البائد، والتي انتهت باستشهاده وهي مظلومية كبيرة بلا شك إلا إن مظلومية منهج الصدر وفكره هي الأكبر والأدهى والتي لولا جهود تلميذه الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لكانت بصورة أكبر، والذي عانى بدوره ولا زال من مظلومية مماثلة، ولكانت الكثير من جهوده ضاعت سدى ولتعرض منهجه للتحريف لولا عناية الله سبحانه وتعالى الذي لم ترتفع يد رعايته عن هذه المدرسة الإصلاحية الناطقة والتي هي الامتداد الأكثر مصداقية للمنهج المحمدي العلوي. هذه المدرسة –ولا نبخس حق أحد- تتمثل في وقتنا الحاضر بشخص المرجع المصلح الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ومنهجه وفكره الذي يعد الامتداد الأكثر مصداقية لمنهج المدرسة الصدرية الإصلاحي ووريثها علماً وعملاً ومظلومية.