في هذه الكلمات أود تسليط الضوء على أحد إبداعات السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) التي قلما يُلتفت إليها المحبون وغيرهم. وهذا الإبداع يتعلق بفن الترجمة. بات واضحاً أن كل من أتقن التحدث بلغة أخرى غير لغة الأم ليس بالضرورة أن يكون قادراً على الترجمة، لأن الترجمة تمثل أعلى درجات أتقان اللغة؛ فهناك الكثير ممن يتقنون التحدث باللغة الانكليزية ولكنهم يعجزون عن الترجمة من لغتهم الأم إلى الانكليزية أو بالعكس، بالرغم أنهم يفهمون اللغة الانكليزية ويتحدثون بها.. إن الترجمة تنقسم إلى أنواع مختلفة. فمثلاً، الذي يريد ترجمة كتاب، أو مقال، أو أي نصٍ مكتوب، يختلف الحال لديه عما إذا أراد أن يترجم خطاب، أو مؤتمر صحفي، أو أي كلام مسموع، يلقيه المتحدث شفاهاً وهذه تُسمى(الترجمة الفوري)؛ التي تتطلب الأصغاء الجيد وبنفس الوقت التكلم. ومما يزيد الترجمة الفورية صعوبة هو نوع الكلام الذي يلقيه المتحدث، فالمضمون العلمي العميق يختلف عن المضمون الاعتيادي؛ فمثلاً، لو كان مضمون الكلام فلسفياً فمن الأكيد سوف تكون الترجمة أكثر صعوبة، لأن المترجم يحتاج إلى فهم واستيعاب المصطلحات الفلسفية المعقدة؛ لأن اللغة العلمية المعمقة تختلف كثيراً عن اللغة العرفية الساذجة.. وهذا يذكرني بقصة ترجمة كتاب(الأسس المنطقية للاستقراء)، للسيد محمد باقر الصدر(قدس) حيث كان هناك مشروعاً لترجمة هذا الكتاب في سبعينيات القرن الماضي، وقد أنبرى لذلك المشروع مترجم مصري من كبار المترجمين العرب، ولكنه بعد أن ترجم شيئاً من الكتاب، اعتذر عن مواصلة الترجمة بسبب صعوبة الكتاب؛ وقال: أنني يلزمني عدة سنوات أتتلمذ فيها على يد السيد محمد باقر الصدر(قدس) كي يتسنى لي ترجمة الكتاب بصورة صحيحة. وهذه الحادثة ذكرها الشيخ محمد رضا النعماني في كتابه ( الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار). وبعد هذه المقدمة التمهيدية لا بد لي أن أشرعَ في الحديث عن إبداع السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) في الترجمة الفورية… إن الشهيد السيد محمد الصدر(قدس) قد حضر درس الفقه(البحث الخارج) عند السيد روح الله الخميني(قدس) سنة 1965وكان الدرس باللغة الفارسية، ومن المعلوم لدى طلبة العلوم الحوزوية، أن درس البحث الخارج يُعتبر من الدروس المعمقة والصعبة. وقد حضر السيد محمد الصدر(قدس) الدرس لأنه كان يتقنُ اللغة الفارسية؛ وكتب تقريرات الدرس باللغة العربية أثناء الدرس. وهذه هي أوضح مصاديق الترجمة الفورية، بل وأصعبها بالرغم من صعوبة الدرس ودقته وعمقه.. والشيء الطريف والعجيب أيضاً أن تقرير الدرس ليس أمراً سهلاً إذا كان بنفس اللغة، فضلاً إذا كان بلغة مختلفة؛ فكيف بالحال إذا كانت الترجمة أثناء الدرس وأثناء كتابة التقرير؟! إن صعوبة تقرير درس البحث الخارج تكمن في صعوبة المطالب، وسرعة الإلقاء خلال الدرس. حتى لو كان الاستاذ يُلقي الدرس بنفس لغة الطالب فضلاً عن اختلاف اللغة… إن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس)، أبدع في التقرير، وفي الترجمة الفورية معاً. آخذين بنظر الاعتبار أن السيد محمد الصدر(قدس) كان يستعمل الترجمة الفورية عن طريق الكتابة وليس عن طريق التكلم… فإذا كانت الترجمة الفورية التي يتكلم من خلالها المترجم أثناء الحديث هي أصعب أنواع الترجمة، فكيف الحال بالنسبة للترجمة الفورية التي يكتب المترجم الترجمة أثناء إلقاء الاستاذ الدرس!؟ وهذا ما قد حصل فعلاً على يد السيد الشهيد محمد الصدر(قدس).. والذي يؤكد ويؤيد هذا الإبداع أن الكثير من طلبة البحث الخارج يعتمدون على التقنية الحديثة من تسجيل الدروس صوتياً، حتى يتسنى لهم تقرير الدروس؛ بالرغم من عدم اختلاف لغتهم عن لغة استاذهم!! إن التقريرات التي كتبها السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) لدرس السيد روح الله الخميني(قدس)، وهي كما أسلفتُ عبارة عن ترجمة فورية منقطعة النظير، ترجمة من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، وهذه التقريرات مخطوطة؛ وبفضل الله وبجهود السيد المجاهد مقتدى الصدر تمّ طبع تسعة مجلدات من هذه التقريرات ولم يتبقَ إلا مجلدان، هما الجزء العاشر والجزء الحادي عشر وهما في طريقهما إلى الطبع والخروج إلى النور. ولا بد لي أن أثمن الجهود المخلصة والمشكورة لهيئة أحياء تراث الشهيد محمد الصدر(قدس) التي شكلها السيد المجاهد مقتدى الصدر(دام عزه) فقد تمّ طبع الكثير من المخطوطات النفيسة التي خطها الشهيد السعيد محمد الصدر(قدس)؛ فجزى الله السيد القائد مقتدى الصدر وجزى الله هيئة التراث خير جزاء المحسنين على هذا العمل العظيم المبارك. إن هذا الدرس أقصد: درس المكاسب، الذي ألقاه روح الله الخميني(قدس) والذي حضره السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) قد بدأ سنة 1965 واستمر حوالي ثمانية أعوام. فقد انتهى تقريباً سنة 1973 وكان انقطاع الدرس بسبب الظروف التي عصفت بالسيد الخميني(قدس) وقتئذٍ… لأن السيد الخميني(قدس) جاء إلى النجف بسبب نفي الشاه المقبور له، حيث تعرض السيد الخميني(قدس) للسجن وبعدها النفي خارج إيران، وقد اختار السيد الخميني(قدس)، النجف الأشرف. وقد شرع في تدريس المكاسب المحرمة، وقد بدأ من القسم الثاني من المكاسب وهو:(كتاب البيع)، وقد حضر السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) هذا الدرس من أوله إلى آخره. وكانت تقريرات الدرس حوالي أحد عشر مجلداً، طبع منها لحد الآن تسعة مجلدات وهي: عبارة عن ترجمة فورية فريدة من نوعها كما أشرتُ سابقاً… إن كل من اطلع على هذه التقريرات سوف يكتشف هذا الإبداع في الترجمة الفورية والتقرير العلمي على حدٍ سواء. وفي الختام لا بد لي أن أنقلَ كلام السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) بخصوص هذا الموضوع، كي تطمئن قلوب بعض المشككين حيث قال السيد محمد الصدر(قدس) في لقاء الحنانة ما نصه:( , وسبحان الله حينما جاء – وهذا أيضاً تاريخه مضبوط – حينما جاء السيِّد الخمينيُّ إلى العراق بعد إخراجه من إيران في حينها, على أيَّة حالٍ أعلنوا في الحوزة أنه سوف يبدأ درس المكاسب من كتاب البيع وليس المكاسب المحرَّمة, أي القسم الثاني من المكاسب، وأنا حضرت, وكان يدرِّس في مسجد الترك الذي هو يسمى بمسجد الشيخ الأنصاري في سوق الحويش – محل الشاهد – ويتكلَّم بالفارسيَّة طبعاً, لم يتكلم عربي إطلاقاً, بالرغم من أنَّه بعض مؤلفاته عربيَّة، وهو يعرف العربيَّة ويفهم العربيَّة وحسب فهمي يستطيع أن يدرِّس وأن يتكلَّم بالعربيَّة ولكنه لم ولن يتكلَّم !! لماذا؟ الله العالم، ربما أنه يخاف شيئاً من الخطأ الذي يُخِلُّ بشأنه, والله العالم, يعني تفسيره الاجتماعيُّ كان هو هذا وإلا لماذا لا يتكلَّم العربيَّة؟ على أيَّة حال !! فكان يدرِّس بالفارسية وأنا أكتب خلال الدرس باللغة العربيَّة, وموجودةٌ كتابتي الآن, وفي حينه أيضاً مررنا ببحث ولاية الفقيه الموجود في المكاسب, وطبع أيضاً بعنوان الحكومة الإسلاميَّة, طبع أوَّلاً باللغة الفارسيَّة ثمَّ ترجم وطبع باللغة العربيَّة وأنا عندي تقريراته من جملة كتابة المكاسب وبقيت إلى آخره إلى أن قطع الدرس وذهب إلى فرنسا,..) انتهى انقر هنا من أجل الرد أو إعادة التوجيه