بعد غزو العراق وفي منتصف عام 2004، كنت مارا كالعادة في سوق السراي وشارع المتنبي أتفقد المكتبات والكتب التي تفرتش الأرض من باعة البسطيات لعلي أظفر بأحد الكتب النادرة او المخطوطات الثمينة لأضمها الى مكتبتي الخاصة، وكانت لي علاقات صداقة مع معظم الباعة وأصحاب المكتبات، وبعضهم كان يحتفظ لي بمخطوطة او كتاب نادر ولا يعرضه للبيع، في بعض الأحيان تكون عندي نسخة من الكتاب النادر فأشتريه لغرض المقايضه مع كتاب نادر آخر افتقده، فنحن لا نتعدى العشرة أشخاص ممن يبحثون عن الكتب النادرة ويقايضون بها نواقصهم فيما بينهم، ويسمينا البعض (صائدي النوادر) وكنا نجزل العطاء لأصدقائنا الباعة ولا نبخسهم الأسعار، ومن الطرف ان البعض من الباعة يعتقد انه احتفظ لنا بكتاب نادر، والحقيقة هو ليس بنادر فنقيم له سعره ولا نشتريه عادة لعدم ندرة الكتاب.
خلال جولتي الثالثة في الشارع وجدت فتاة تجلس على طاولة صغيرة قدمها لها أحد باعة الكتب وهو الصديق باسم البصراوي، وكان بحارا في السابق، وقد التف حولها البعض من الشباب، وكانت تعرف القليل من العربية، ولكنها بارعة في اللغة الأنكليزية، دفعني الفضول الى التقرب منها، وكانت تسأل أحدهم باللغة العربية المفهومة نوعا ما: ما اسمك؟ هل انت مسلم ام مسيحي؟ فيجيبها: أنا مسلم. فتسأله مرة أخرى: وهل انت سني او شيعي؟ فيقول شيعي. وتسأله السؤال الثالث: ما رأيك بتحرير العراق من الدكتاتورية. فيجيب مثلا: جيد! فقد تحررنا من الطاغية بمساعدة قوات التحرير الامريكية. وتتحول بنفس الأسئلة الى شخص آخر، وهكذا دواليك.
تقربت منها فإبتسمت بوجهي، وقالت: ما إسمك؟ فقلت لها سأجيبك بكل ما ترغبين وباللغة الأنكليزية، فربما بعض الكلمات العربية لا تفهمي معناها، فطارت من الفرحة، وقالت القليل هنا يجيدون اللغة الانكليزية، وكررت السؤال. فقلت لها هل أنت نصرانية أم بوذية او كونفوشيوسية؟ فإستغربت من السؤال، وقالت انا يابانية فقط. فقلت لها: قد عرفت انك يابانية، ولكن ما هي ديانتك؟ فقالت: انا يابانية فقط. فقلت لها: ان تجدي حرجا في الإفصاح عن ديانتك، وتعتبريه من الخصوصيات، فكيف تسمحين لنفسك ان تتدخلي في خصوصيات الآخرين؟ فقالت: أنا لم أجبر اي من قابلتهم على الإجابة، فقد أجابوا فورا بلا تردد وبجرية تامة، ولم يعترض أحدا سواك. فقلت لها: قد قلت حقا، فالعيب فينا، وليس فيكم. فقالت: هل ترغب في الحديث معي على انفراد، فلدي الكثير من الأسئلة وأود ان تجيب عليها؟ فقلت لها: لا مانع، توجد في نهاية الشارع مقهى الشاهبندر وهو مخصص للأدباء والشعراء والمثقفين عموما، ويمكنني ان اضيفك على ما تودين من مشروبات عراقية، ونتحدث بحرية دون إزعاج المارة من الناس. في المقهى سألتها من تكوني، فعرفتني بنفسها (Eita Endo) وقالت انها طالبة دراسات عليا في جامعة ( Osaka University) ورسالتها عن تحرير العراق، لذا فإنها تجمع المعلومات، وتستمع الى أصوات الشعب المتحرر من الطاغية، لأن الزعماء السياسيين معروفة مواقفهم وتصريحاتهم، وحصلت عليها عبر وسائل الأعلام العراقية والعربية والأجنبية، وهي عبارات متكررة عن تحرير العراق، والتخلص من النظام القمعي، كأنهم يتكلموا من فم واحد.
عرفتها عن نفسي بموجز، بأني كاتب عراقي، وحائز على شهادتين البكالوريوس والدبلوم العالي بما يعادل الماجستير، ونشرت المئات من المقالات في ابرز الصحف العراقية والعربية، ونشرت كتابين ـ في حينها ـ ، ولدي خمسة مؤلفات مخطوطة لم أنشرها بعد. أما عن ديانتي فأنا كما تصفين نفسك، أنا عراقي فقط. فضحكت، وقالت: لن اسألك هذا السؤال لأني أعرف الجواب مسبقا. لكن حدثني عن تحرير العراق من الدكتاتورية، وما هو شعورك قبل وبعد التحرير؟ وهل العراق في طريقه الى الديمقراطية كما نسمع من وسائل الأعلام الامريكية والغربية، علمت إن بلدي ساهم في عملية التحرير ضمن نطاق المجال الإنساني (طواقم طبية) وليس الحربي كما تعلم.
أجبتها: يبدو ان لديك خلط في المفاهيم، فالتحرير لا يكون عبر الغزو، والديمقراطية ليست بضاعة تصدر وتستورد، ولو كانت كذلك لطالبت شعوب العالم بإستعمارها لتحصل على الديمقراطية، وغزو العراق من قبل الولايات المتحدة لم يكن من خلال موافقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل هو قرار منفرد اتخذه الرئيس الأمريكي بوش الإبن، كما إن مبرر الغزو لم يكن تحرير العراق وقيادته الى الديمقراطية، بل البحث عن أسلحة التدمير الشامل وهي اكذوبة روجتها الولايات المتحدة واوربا لغزو العراق، وبات بطلانها، واعلن الأمين العام للامم المتحدة كوفي عنان بأنه ” دون الحصول على قرار من مجلس الأمن سيكون العمل العسكري ضد العراق غير شرعي”، لكن الأمم المتحدة بعد الضغظ الامريكي على الأمين العام للأمم المتحدة غيرت موقفها.
وهذا ما يقال عن علاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة بإعتراف وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في شهر كانون الثاني 2004 بأنه لم ير دليلا ثابتا أو ملموسا أو حتى تلميحا يدعم تأكيدات إدارة بوش بوجود علاقة بين صدام حسين وتنظيم القاعدة. كما ورد في شهادة (ريتشارد كلارك) منسق أعمال مكافحة الإرهاب سابقا أمام لجنة التحقيق المستقلة في 24/3/2004 ذكر بان الرئيس بوش حاول جاهدا أن يربط بين العراق وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وتبين إن الطيارين الانتحاريين تلقوا تدريباتهم في مدارس أمريكية للتدريب على الطيران في فلوريدا واريزونا واوكلاهوما منيسوتا. كما اصدر الرئيس بوش في 24/10/2001 قائمة بأسماء (11) منظمة ارهابية هي: القاعدة، جماعة ابو سيف، الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر، حركة مجاهدي كشمير، حركة الجهاد في مصر، الحركة الاسلامية الاوزبكية، عصبة الانصار اللبنانية، المجموعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر، مجموعة القتال الاسلامية الليبية، الاتحاد الاسلامي الصومالي، جيش عدن الاسلامي في اليمن اضافة الى (12) شخص واربع منظمات خيرية، وليس للعراق علاقة بكل ما سبق ذكره.
وللعلم ان الولايات المتحدة هي التي نسفت معاهدة الأمم المتحدة للحد من الاسلحة البيولوجية برفض توقيع ( بروتوكول التحقق) كما انتهكت شروط الحقوق لمعاهدة الحد من الاسلحة الكيمياوية بل إنها طردت المدير الكفؤ لمنظمة حظر الاسلحة الكيمياوية (د. روبرت واطسون) لأن رفض املائاتها. وهي الدولة الوحيدة في العالم التي رفضت قرار مجلس الأمن الذي دعا الى احترام القانون الدولي واستخدمت الفيتو لنقضه.
سألتني: إذن ما الغرض من التحرير ـ عفوا ـ أقصد غزو العراق؟
أجبتها: أمران هما النفط، وأمن اسرائيل من خلال تفكيك العراق، فالعراق هو الواجهة الحقيقية لإسرائيل، بل العراقي يولد وهو يحمل العداء لإسرائيل، فالقضية الفلسطينية قضية محورية في النضال العربي. وهذا رأي أبرز المحللين الأمريكان، فقد ذكر (روبرت فيسك) عام 2003 ” يعتقد كل عربي بأن البترول وحده يفسر حماسة بوش لغزو العراق وكذلك يعتقد الاسرائيليون وانا أيضا أعتقد ذلك”. بل هذا هو نفس قول نائب الرئيس الامريكي ديك تشيني” الرئيس العراقي صدام حسين يتربع على 10% من احتياطات العالم من النفط”، وكذلك قول الخبير النفطي الدولي ( Anthony Sampson ) بان ” شركات النفط تتوق شوقا للوصول الى العراق وتزداد رغبتها كلما زاد قلقها على سلامة امدادات النفط السعودي”.
قالت: حسنا، وماذا بشأن تقسيم العراق وأمن اسرائيل؟
أجبتها: في عام 1991 قدم السيناتور عن الحزب الديموقراطي ( جوزيف بايدن مشروعا حول الشرق الأوسط الجديد يتضمن تقسيم العراق نشرته مؤسسة ( راند ) الأمريكية، مع تعليق مديرها (فاولر) جاء فيه ” هل سيبقى العراق موحداً عام 2002 ؟ فأجاب جورج بوش الأب ” إن تقسيم العراق هو المخرج الوحيد من المأزق”. وشارك (ريتشارد بيرل) وكان رئيسا لمجلس تخطيط السياسة الدفاعية في الولايات المتحدة زميله (دوغلاس فيث) الرجل الثالث في البنتاغون في كتابة دراسة عام 1996 لرئيس وزراء الكيان الصهيوني اليميني المنتخب حديثا(بنيامين نتنياهو) تدعو لإسقاط نظام صدام حسين باعتباره هدفا استراتيجيا مهما للكيان الصهيوني على اعتبار إن مستقبل لعراق يمكن أن يؤثر في التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط تأثيرا عميقا.
أما عن أمن اسرائيل، فقد ذكرت صحيفة آهارتس الاسرائيلية في 30/9/2002 عن عضو مجلس النواب الامريكي توم لانتوس ( Tom Lantos) قوله لمسؤول اسرائيلي رفيع المستوى” لا تقلقوا فلن تجابهوا أي مشاكل مع صدام، سنضع في مكانه دكتاتورا مواليا للغرب يكون جيدا لنا ولكم”.
قلت لها: أختم حديثي بقول المحلل الستراتيجي (بيتر بريستون) ان” الديمقراطية في العراق مجرد وهم”. ويشاطره الرأي المحلل السياسي (سوماس ميلني) في صحيفة (ذي غترديان) بقوله ” ان اعادة استعمار العراق لا يمكن تسويقه كتحرير”.
طلبت مني في نهاية الحديث اللقاء مرة أخرى للأجابة على أسئلة أخرى قد تخطر على بالها، وإمكانية تزويدها بوثائق عما تكلمت به، فوعدتها بتلبية طلبها.
تنويه
أود الإشارة بأني سبق ان كتبت هذا اللقاء في مدونتي الخاصة، لكنها مع الأسف بعيدة عن متناول يدي بسبب الإغتراب، فإعتمدت على الذاكرة، والتفاصيل كثيرة واللقاء تجاوز الساعتين. وأذكر في نهاية اللقاء استوقفني فريق عمل كان جالس على مقربة منا في (مقهى الشاهبندر) ويبدو انه استمع الى حديثنا او مقتطفات منه، فطلب مني اجراء لقاء مباشر للحديث عن (تحرير العراق حسب وصفه)، وعندما سألته عن عنوان فريقه الاعلامي، قال انها محطة راديو مكسيكي ولا اذكر اسم المحطة الآن.