ما زال قطار “صوفيا” يسير في ليه الضبابي الملتحف بسكون المجهول أما هي فكانت متكئة بجانب النافذة ترقب بعينيها المباني واليافطات وكل الصخب المتدلي منها , كان هذا الترقب أشبه بوداع مدينة نشأ فيها الحبيب وتنفس من صخبها !, وحينها اقترب القطار من المحطة الأولى لتبدأ ذاكرتها باستنشاق رائحة الماضي وكل شيء يربطها به .
تذكرت أول لقاء جمعهما عندما كانا صغيرين يرميان رذاذ البحر على بعضيهما و يبنيان قلاع الرمال ونظرات البراءة والصفاء تستولي عينيهم آنذاك , ولم تنسى كل شيء كان يتعلق بطفولتهما السحيقة التي خمدت فصولها المتبقية حال اجتياز القطار محطته الأولى , وعندها دخل المحطة الثانية لتبدأ فصول ذاكرتها بالاشتعال من جديد لكن هذه المرة كانت زمن الصبا وكل ما يحيط به من أمسيات دافئة جمعتهم في ذلك الحين , تذكرت كيف كان يأتي إليها بدراجته النارية مختلساً ظلام الليل كي يصحبها الى الخارج , وفور انتهائهم من جولتهم السريعة يذهبان بعد ذلك الى الحديقة العامة يستلقيان تحت ضوء قمرها , متشابكان اليدين وسط جو حميمي مليء بالأنسة القمرية . ولكن سقوط حقيبة “صوفيا” تحت مقعدها فجأة حال دون استمرار فصول ذاكرة ذلك الزمن , وعندما أفاقت من سرحانها أدركت بأن القطار تجاوز المحطة الثانية ليحل ضيفا على المحطة الثالثة . وعند دخوله نمت ذاكرتها من جديد ليكون الفصل الأخير أيام هذه السنة التي انتهت بقرار الرحيل .
أنه يوم زفافهما الذي أقيم تحت خيوط الشمس المتدلية حيث الأهل كانوا والأقارب الجميع كانوا يحيطونهم بنظراتهم السعيدة – المترقبة , وتذكرت أيضا كيف أنهما قضيا شهر العسل في السواحل المطلة على أمواج الشاطىء التي تنساب تحت أشجار المانغو و نخيل الفوفل . لكن ما السبب الذي جعلها تتخذ قرارها الاخير بهذا الشكل المفاجىء بعد كانا زوجين عاشقين ؟.
اكتشفت بعد فترة من زواجهما بأنه كان على علاقة مع غيرها لكنها لم تخبر أحداً كيف اكتشفت ذلك ؟!, ربما هو هول الصدمة لكن لم يعد كل هذا بالأمر المهم على أية حال فهي متجهة الى منزل شقيقتها الكبرى “بيلوسي” التي كان بيتها على مسافة قريبة من المحطة الرابعة الأخيرة التي توقف عندها القطار لتترجل منه باحثة عن سيارة أجرة لتقلها لبيت شقيقتها . وعندما كانت تأخذ نفساً عميقا ً وسط الشارع كانت المفاجأة بانتظارها , إذ ظهر زوجها دون سابق إنذار كان واقفاً أمامها بثبات جنوني كشجرة بلوط وسط رياح عاتية !, لأنه كان يعلم بأن ليس لديها شخص تأوي إليه غير “بيلوسي” , واندهشت ” صوفيا” لقدومه المفاجىء وبدأ يقترب منها شيئاً فشيئاً , كان صمته الثقيل كسيف يضرب دمائها المتجمدة التي جعلتها بمظهر امرأة خاوية أمامه , وعندما وقف على مسافة قريبة أمامها أخرج شيئاً من جيبه لم تميزه “صوفيا” بسبب الهلع الذي كان يغطي عينيها كسحابة رمادية , فبدأ يحدق فيها بعيون متشفية قائلا :
” قد نسيتي قرطك الأيسر عندما غادرتي خذيه معك ….!! ” .
والتقطته من يديه دون ان تجرأ شفتيها على الحركة لتسأله عن معنى ذلك بسبب تصرفه الغريب هذا وعندما أخذت القرط غادر من عندها على الفور دون ان يضف شيئا , بينما هي ظلت متجمدة في مكانها من يلحظها يظن بأنها تمثال حجري صنع خصيصاً لأجل أنظار المارة !, ونظرت بعد ذلك بعيون ممتقعة الى قرطها ألذي أصبح هو وزوجها اليوم شيئاً موحداً في مخيلتها , فلم تكن تتوقع منه كل هذا البرود القاتل في تصرفه . بالرغم من فصل المأساة النهائي الذي جاء مكملاً لفصول الذاكرة التي تخللت مع عبور المحطات الثلاثة إلا أنه جال في خاطرها بأن هذه المحطات كانت النهاية المؤلمة لجميع محطات حياتها التي قضتها معه , أما اليوم فلم يعد هناك شيء تقوله … لم يعد لديها غير الرضوخ لحياتها الجديدة والسير ربما بفصول جديدة , دون ان تعود “للذاكرة ” من جديد لأن خيط أملها الطويل لم ينقطع بعد رغم ان ما فعله بها الليلة أفقدها الحياة والأمل معاً !.