عشرة أشخاص – كنت انا من ضمنهم – يجلسون بهدوء في شقة احد العراقيين في موسكو. كانت الجلسة رجالية بحتة , ويتراوح عمر الحاضرين بين الثمانين والخمسين سنة , وكان الجميع ينتظرون البامية (على أحر من الجمر !!!) , والساعة تقترب من الخامسة عصرا في ذلك اليوم من صيف 2018 . قال احدهم – تعطلتم في بداية التحضير , وهذه هي النتائج , فاجاب الثاني – هكذا الامور دائما عند العراقيين , فاعترض الثالث على هذا الاستنتاج الخطير وقال – هذا موقف عراقي متطرف كالعادة , فضحك الرابع وأضاف – ولماذا تتعجب ؟ انه موقف عراقي نموذجي مثلما يتصرف السياسيون عندنا , فحاول الخامس ان يفسر ذلك وقال – كل الامور نسبية, فعندما حولوا حكم الاعدام الى السجن المؤبد في ابو غريب شعرنا بسعادة لا مثيل لها , فسأله السادس – وماذا حدث بعدئذ وكيف خرجت من السجن ؟ اجاب الخامس – عندما زار صدام حسين موسكو – اثناء الحرب العراقية الايرانية وطلب السلاح , اخبروه بانهم سيعطونه السلاح , وقالوا له – ( ولكنك تعدم الشيوعيين في بلدك !) , فوعدهم بانه ما ان يرجع سيحل المشكلة , وقد نفّذ وعده فعلا, وهكذا اطلقوا سراحنا ولم نصدق ذلك , فسأله السادس من جديد – اثناء الحرب ؟ , فقال الخامس – نعم , وارسلونا الى الجبهة , ولكن كل الضباط كانوا يرفضون قبولنا ويقولون , انهم سيندسون بين الجنود ويحرضوهم ضد تنفيذ الاوامر . علّق السابع – رب ضارة نافعة . سأل السابع – هل كان الشهرستاني معكم في السجن ؟ اجاب الخامس – نعم , وكان عنده خادم يخدمه في السجن , وكان طعامه خاصا, فتعجب الجميع , واضاف الخامس – لقد ذهبنا اليه في طهران ( بعد ان هرب من السجن بشكل غريب جدا ) وطلبنا منه المساعدة , ولكنه رفض , فسأله السابع – وكيف وصلتم اليه ؟ فاجاب الخامس – كان عنده مكتب كبير هناك , مثل اي مسؤول كبير . همس الاول في اذن التاسع – هل قرأت رواية بابا سارتر ؟ اجاب التاسع – كلا , ولكني سمعت بها , واضاف – لم اعد اقدر على متابعة روايات العراقيين لكثرتها , فقال الاول – هذا شئ رائع , وظاهرة جيدة جدا . سمع الخامس هذا الحديث فتدّخل قائلا – لقد عرضت عليك القصة القصيرة التي كتبتها انا , ولكنك شرشحتها , وعندما ارسلتها للنشر نشروها ولم يأخذوا برأيك حولها , اجاب الاول – لم تكن الفكرة واضحة , وعندما كنت اقرأ قصة البير كامو كانت الفكرة تصل رأسا , فقال السادس – انك الان تقف جنبا لجنب مع كامو , فماذا تريد اكثر من ذلك التقييم الكبير . توسع الحديث اكثر ووصل الى طه حسين وما كتبه حول الشعر الجاهلي والحركات الاسلامية في تراثنا , وتشعبت النقاشات وتناولت اسماء كثيرة من سيد قطب الى سلامه موسى وما بينهما , و كل أدلى بدلوه بغض النظر عن القبول برأيه او عدم القبول , وكاد النظام يفلت من الجلسة هذه لتعدد الآراء والاجتهادات وتناقضاتها واختلطت الاصوات بين هذا وذاك , ولكن جاءت البامية وملحقاتها , فانقطعت الاحاديث الفكرية المعمقة , وقال العاشر – البامية العراقية الذ واحسن من شقيقتها في كل البلدان العربية ,فعلق الثاني – انها سيدة المائدة العراقية بلا منافس , وقال السادس – انها توحد العراقيين جميعا عربا واكراد وتركمان وكل الاقليات الاخرى بغض النظر عن كل تناقضاتهم واختلافهم , فضحك الجميع , واضاف السابع – ان البامية بحق تعد (عابرة للطوائف والقوميات!), و علّق الثامن قائلا – (انها فعلا فوق الميول والاتجاهات !) , وقال الثالث – عندما كنت في شمال العراق , فاعترض الخامس وهو يقول – قل في كردستان العراق وليس في شمال العراق, فاجاب الثالث – كلا , انا اقول بعد الاستفتاء ( في شمال العراق ) وليس (في كردستان العراق) كما كنت أقول سابقا , فتدخل الرابع وقال في محاولة لتخفيف حدة النقاش – ساحكى لكم نكتة عن الاكراد , ولكني اقول كردستان العراق بدلا من شمال العراق , والنكتة هي ان احد الاكراد طار من بغداد الى السليمانية , وبعد حوالي الساعة وصلت الطائرة الى السليمانية , ولكن صاحبنا رفض الخروج من الطائرة , وعندما خرج الجميع , صعد اليه مسؤول المطار ليقنعه بالخروج , فقال له المسافر , بانه لو كان يعلم ان الوصول الى السليمانية خلال ساعة لما اشترى بطاقة سفر ولتمشى من بغداد ووصل الى السليمانية , فضحك الجميع , وعلّق العاشر قائلا – ومع كل هذا , فان ما تعرض له الاكراد الفيلية زمن البعثيين هو ابادة جماعية بحق الانسانية لم يعرفها العراق سابقا , فسأل الخامس – والانفال وحلبجة ؟ اجاب العاشر – كلها تراجيديات رهيبة طبعا , لكن الحملة ضد الاكراد الفيلية وهم في عقر دارهم كانت مرعبة حقا , فقال السادس – نعم نعم , الفيلية الذين منحوا العراق رضا علي وعزيز الحاج و غائب طعمه فرمان وغيرهم , فقال الخامس – لم اكن اعرف ان غائب كان فيليا ابدا , فقال السادس – وغائب نفسه لم يقل ابدا ذلك , وانما كان يؤكد دائما انه عراقي ليس الا , فعلّق السابع قائلا – دعونا نتمتع بالباميه بلا سياسة , فقال الخامس – لا لا لا , فالبامية مع السياسة يصبح طعمها عراقيا بحتا, فضحك الجميع , وتناسوا الصراع الفلسفي والفكري من اجل التسميات وتحديدها , وبدأوا بالتعايش السلمي الجميل تحت شعار – (الانسجام التام من اجل التمتع بالطعام !).