23 ديسمبر، 2024 5:26 م

محرمات الديمقراطية: القواعد العامة في التجارب الخاصة

محرمات الديمقراطية: القواعد العامة في التجارب الخاصة

لعل هناك من لايعتقد ، والأحرى انه لا يريد أن يعتقد ، إن الديمقراطية يمكن أن تتضمن بعضا”من المحرمات السياسية ، وتشتمل على حيزا”من النواهي الاجتماعية ، وتشترط  قسما”من الروادع القانونية ، وتستلزم نوعا”من الزواجر الأخلاقية ، وتبيح شيئا”من القوة المؤسسية ، التي تلزم الناس بمراعاة ضرورتها وتقدير أهميتها واستيعاب دروسها واستلهام عضاتها . إذا ما أرادوا أن يعيشوا ضمن مجتمع يوفر لهم حياة إنسانية كريمة ، ورغبوا في الانضواء تحت ظل دولة تضمن لهم الإحساس بالأمن والأمان ، وتوخوا التعايش في اطار نظام يحفظ لهم حقوقهم ويصون لهم كرامتهم . فضلا”عما إذا كانوا جادين للإسهام – ضمن الجماعة الإنسانية –  في إشادة صرح الحضارة الكونية ، على أسس من التثاقف البناء والتلاقح المتكافئ ، دون أن يكون ذلك الإسهام مشروط بتبعات الهيمنة السياسية والاستتباع الاقتصادي ، أو منوط بمخلفات الاستعلاء العرقي والتفوق العقلي . وعلى الرغم من شدة بريق الفكرة الديمقراطية بين تضاعيف الوعي الجمعي ، وسطوع وهجها في دهاليز السيكولوجيا الشعبية ، نظرا”لتوافقها مع طموح الطبقات المقصيّة ، واستجابتها لرغبة الجماعات المهمشة ، بحيث تبدو وكأنها أقرب الى الحلم منها الى الحقيقة ، وأدنى منها الى الطوبى منها الى الواقع ، على خلفية ما يشاع عن فضائلها بالقياس الى الاشكال الأخرى من التجارب والمماراسات . الا انها من وجهة نظر سوسيولوجية تعد من أكثر المفاهيم محايثة لانعطافات التاريخ ، وأشدها التصاقا”بتعرجات الواقع ، وأصدقها تجسيدا”لتطلعات الانسان . وهو الأمر الذي يتطلب من عناصر المجتمع الراغب بانتهاج خيار النظام الديمقراطي ، والمصمم على الاتجاه صوب تبني قيمه ، التحلي بقدر عال من الادراك لطبيعة مبائه العامة من جهة ، والتمتع بدرجة متقدمة من الوعي بمتطلباته الخاصة من جهة أخرى . ليس فقط على صعيد عقلنة التنظير الايديولوجي للأحزاب ، وعلمنة الخطاب السياسي للحكومات فحسب ، وانما – وهو الأهم – على مستوى أخذ الخبرة التجريبية لتلك المبادئ بعين الاعتبار من جانب ، ومراعاة الاستجابة الواقعية لتلك المتطلبات الظرفية من جانب ثان . لاسيما ما يتعلق بالمعطيات النوعية للواقع الاجتماعي ، الآيل الى الحراك في سيروراته ، والتفاعل بين مكوناته ، والتشابك بين عناصره ، والترابط بين بناه ، والتصادم بين اراداته ، والتجاذب بين قيمه ، والتنافذ بين ثقافاته . صحيح ان فكرة الديمقراطية تتضمن جملة من المعايير / المقاييس ، تفقد دونها ماهيتها نظريا”وعمليا”، ان هي أباحت التنازل عنها لصالح هذه التجربة أو تلك ، وأجازت التهاون فيها لحساب هذه الممارسة أو تلك . من حيث كونها معطى انساني يستهدف الحفاظ على وجود البشر الذاتي والموضوعي ، دون الاهتمام بنوعية أعراقهم وسلالاتهم ، وينبري للدفاع عن حقوق الناس الطبيعية والوضعية ، دون النظر لخاصية ثقافاتهم وعاداتهم ، ويجتهد في صيانة كرامة الأفراد الشخصية والاجتماعية ، دون الالتفات لعقلانية أفكارهم ومعتقداتهم . بيد ان ذلك كله لا يحول أن تكون هي ذاتها (=الديمقراطية) أول المعارضين لنوازع تقويض سلطة الدول بزعم انها مستبدة ، وأنها في مقدمة المناوئين لدوافع تحطيم هيبة القوانين بزعم انها تعسفية ، وأنها من أصلب المحاربين لمظاهر تفكيك وحدة المجتمات بزعم أنها مدجنة . فبصرف النظر عن كون الديمقراطية تستدعي تقليص حقل النشاط السياسي وتفعيل دور الفاعل الاجتماعي ، فان هذا لا يعني انها تتوخى – مهما كانت الأسباب والظروف – ترويج سلطة العصبيات بدلا”من سلطة الدولة . وبقطع النظر عن كون الديمقراطية تفترض وجود حرية الرأي السياسي والتعدد الحزبي ، وتستدعي ضرورة التباين الايديولوجي والتنوع الثقافي ، وتشترط توافر الاختلاف الديني والتخالف المذهبي ، الا ان ذلك لا يوحي بالانطباع الرامي الى انها تبيح علاقات التخوين السياسي / الحزبي بين أطراف القضية الواحدة ، كي تكون هي الفيصل لاثبات أحقية هذا الطرف دون ذاك ، لتمثيل المصالح الوطنية الاجتماعية العليا ، ومن ثم هيمنة مظاهر الاقصاء والتهميش والاستبعاد . كما أنها لا تروج لذهنيات التكفير الديني والتحقير الطائفي بين مكونات المجتمع الواحد ، لتغدو هي الحكم للبرهان على مشروعية هذا الجانب دون ذاك ، لامتلاك الحقيقة الالهية المطلقة ، وبالتالي سيادة نوازع التعصب والتطرف والعنف . ولعل من أبرز النكسات التي منيت بها فكرة الديمقراطية في المجتمعات النامية ، تلك التي لم تبرح تعاني التصدع في بناها والتذرر في مكوناتها ، التمسك بوهم كونها المرادف لمفهوم الحرية الشخصية دون قيود والاستقلال الذاتي دون شروط . للحدّ الذي يجعل المطالبة بها والدعوة لها تأتي من باب الإباحة لا من باب الالتزام ، وان التعويل عليها والاحتكام اليها  تجئ من منطلق الرغبات لا من باب الحقوق ، والانخراط فيها والمنافحة عنها تأتي من باب الاستئثار لا من باب الحوار ، وان القناعة فيها والشروع منها تتحصل من باب الإملاء لا من المشاركة . وهو الأمر الذي أحالها الى مجرد خطابات سياسية منمقة ، تخفي شتى ضروب القمع والردع على مستوى الواقع ، وشعارات حزبية مزخرفة ، تتستر على مختلف أنواع الفساد المالي والاداري على صعيد الممارسة . وعلى الرغم من حاجة تلك المجتمعات الملحة الى رافعة الديمقراطية ، لانقاذها من وهدة التخلف التي ارتمت فيها ، وانشالها من مستنقع الجمود الذي سقطت فيه . فقد تحولت الى عبء تنوء بعواقبه الشعوب المغلوبة على أمرها ، بحجة انها منذورة لتحقيق وحدتها الاجتماعية قبل أن تنال حقوقها المواطنية ، ومدعوة لاجتراح تهضتها التنموية فبل أن تطالب بكرامتها الانسانية ، ومطالبة باحترام انظمتها السياسية قبل أن تتطلع الى حرياتها الاساسية . وهكذا فقد تشظت الأولى نتيجة لاستشراء مظاهر الطغيان السياسي ، وانهارت الثانية تحت ضغط ظواهر الحرمان الاقتصادي ، وانهارت الثالثة بفعل وابل الاحتقان الاجتماعي . وليس أدل على عواقب استغلال بريق الديمقراطية وتوظيف رمزيتها ، من لدن الدول الشمولية والحكومات الدكتاتورية ، لتلميع قباحاتها وتسليع أوهامها وتشريع جرائمها وتبديع خصومها ، من تلك الأحداث الداراماتيكية المروعة التي تشهدها الأنظمة العربية ، بمختلف تياراتها الاقوامية وتلاوينها الاصولية ومشاربها الايديولوجية ، حيث شرعت – مثل قطع الدومينو – بالتداعي المتواصل والسقوط المتسلسل ، على نحو فاق كل التوقعات السلبية والترجيحات المتشائمة ، لا بل تجاوزت حتى أكثر التخيلات جموحا”وتطرفا”. وهكذا بقدر ما تشتمل الديمقراطية من تشريعات دستورية وممارسات سياسية وعلاقات اجتماعية ، فانها تتضمن – وبالقدر ذاته –  محرمات نظرية وعملية ، لا ينبغي العبث فيها والتجاوز عليها والتغاظي عنها ، والا فان النعمة والنعيم اللذان طالما شكلا بواعث نضال وأمل الملايين من البشر ، لا تلبث ان تنقلب الى نقمة وجحيم تسلع ظهورهم بساطها الموجعة وتكوي جباههم بنيرانها الحارقة .