23 ديسمبر، 2024 8:21 ص

محاولة لاستعادة عوني كرومي

محاولة لاستعادة عوني كرومي

أسكنتُ العمر دقيقة في بيت الصبر
وجلستُ على العشب
كزار حنتوش

توطئة …
الفن الحقيقي لا نهاية له، ولا حدود للتجاوز والتجديد في تاريخ الفنان الحقيقي المختلف وإلا اصاب هذا التأريخ، الفردي والعام، نوع من تصلب الشرايين، ففقد تاريخيته، أي فقد حياته حتى وإن أستمرت في ظاهرها . ولعل هذا الأمر هو ما يجعلني أكاد ابصر هذا الكاتب أو ذلك الفنان في مراحل حياتية مختلفة متغايرة من التكوين والتكون، ولا أكاد أشعر بالحدود النهائية لكل مبدع حقيقي أو لكل مرحلة يمر بها في حياته أو مماته، ولا أكاد أشعر حتى اليوم بتوقفها أو أكتمالها، ولا أقصد كمالها .
لا يمكن للعمل الفني المغاير، شعر/مسرح/قصة/رواية/تشكيل/نحت/موسيقى أو كتابة نقدية معرفية، أن يكتسب جماليته وفاعليته وأستمراره بدون تحديد المعنى، وأنه لا عمل فني ولا جمالي بغير التحالف بين الصدق والمغامرة، وأن حدود التحالف مشروطة بالمعاني ولهذا تتنوع التحالفات اتساعاً وعمقاً وزمناً بحسب طبيعة الفنان وأختياراته أو طبيعة العمل الفني وتقاطعاته .
1
أليس هناك من أحد يوقف مثل هذه الميتات؟ ما أيسرَ الموت، هكذا هو المصير البشري، لكن، كيف للمرء أن يقاوم الموت ويقاتله، أكثر الميتات سخفاً نقطة دم تسد على قلبك الحياة، بين الحياة والموت مجرد نقطة، كل الأحلام والآمال تسقط تحت أقدام تلك النقطة فيا لها من نقطة دم ثقيلة، في هذا الموقف بالذات علينا أن نبحث عن معنى آخر للحياة .
تعودت أن أصغي بانتظام إلى نشرات الأخبار في زمن الكوارث، دائماً أحاول أن أمارس لعبة تحويل الخبر الصادق إلى خبر كاذب كأي عاجز عن فعل شيء أو تطابقاً مع ما أورده (دالاس ستيفنس) في معرض حديثه عن التصديق حيث قال: (أن ألطف معلومة عن التصديق هو ان ما يصدقهُ المرء ليس صحيحاً) ولكن هذه المرة عاد اليقين بعد أن غادرني الشك، والحزن هو البرهان . ما هي الفائدة من موجز للأخبار ليس فيه سوى خبر صاعق واحد؟ موت عراقي في بلد بعيد، أن موت المبدع في عز العطاء والخلق هو أعتداء صارخ على الأمل، هل صحيح مات عوني كرومي؟ لقد سقط في المسرح إثر نوبة قلبية صاعقة، إذن، حدث ذلك الأمر وبات الموجز تفصيلاً . لقد كان يفكر بالعراق الذي لا حدود له في مملكة المسرح، مسرحه الكبير أو بيته الصغير فهل أدرك الأصدقاء أن الفصل الأخير من مسرحيته قد أسدل عليه الستار؟ مسرحه أو بيته أو محرابه الأبدي كان فسحة للأصدقاء، للوطن، للأمل، للحياة، للشعر، للحقيقة، للحب والجمال، للملامح والتجريب، إنه صفحة لا تنتهي .
يطلّ علينا الإنسان النبيل “عوني افرام كرومي” وقد تحول إلى صورة، يطلُّ وبين شفتيه سيجارة يتساقط بعض رمادها على خشبة المسرح، يبتسم كطفل وعلى أصابعه ترتعش البلاد تلك التي أحبها جداً، مرة يحملها في مسرحه وأخرى غارقة في الحلم كتصوراته أو حنينه وتجاربه المسرحية، أليس هناك من أحد يوقف مثل هذه الميتات الباعثة على الخوف؟ أقول الخوف، كي لا أقول شيئاً آخر، هل تعبت المراثي من كل الذين حملوا جثة الوطن المقتول إلى بلاد الغربة وأمعنوا فيها رثاء؟ قد يبدو هذا السؤال مثقلاً بالسذاجة إذ يفتش الموت على المبدع وحشرجاته المكبوته بعد أن كساها النسيان، تتوالى فصوله على شكل قفزات الكنغر، الموت، الحتف أو كلاهما معاً إذ لا ينطلق الحتف في تصنيفه من تفضيل نوع على آخر، حينئذ نجد أنفسنا أمام السؤال التالي: أينطلق الحتف في تصنيفه من وعيه طبيعة عمله؟ الحتف لا يكف عن العمل ولا يريد من أحد إحالته على التقاعد، أن يكن الأمر هكذا، فإننا نجد أنفسنا أمام أشكالية جديدة تتمثل ليس في طبيعة الحتف بل بالاختيار وهنا لا يخلو الأمر من استثناءات .
2
أن الموت ليس شكلاً خالصاً بل هو جزء من المعنى ..
نكتفي بالإشارة ونحن نعي أن موتنا يحتاج إلى سياق آخر يتيح لنا أن نتلمّس سيرورته التي تومض بالغياب والرحيل والمفارقات بين بلاد تبحث عن نفسها مسكونة بالانتظار وبين ذات تتلاشى في ضمير الجماعة لتصبح تعبيراً مجرداً عن هّم الحياة المسلوب . أحرى بالموت أن يذهب بكوابيسه بعيداً عن النعاس، بعيداً عن الجمال . الموت لا يجيد التخاطب مع القديسين غير أن العراق طال وأستطال وأمتد وصار أشد كثافة وأنضغاطاً فإذا رغبة الانتظار لدى العراقي تستحيل ضرباً من سلوك أستسلامي، نظرات الغرباء حائرة وهي تبحث عن عزاء فلا تجد، الإثنولوجيون يعرفون جيداً أن ثمة مجتمعات وثقافات تعتبر الحلم واقعاً أمَّا نحن الذين نعيش في عالم لم يعد موضوعاً للإثنولوجيين فقد ابتدعنا مع المنفى تعريفاً للحلم جديداً مشتركاً في ما بيننا، تواضعنا عليه، وسلّمنا بان ما نراه ونسمعه ونلمسه يشكل الأبعاد الحقيقية لذلك الحلم الذي هو صورة متوهَّمة عن عالم الموت فلا أهمية له تالياً، هكذا تتعاقب علينا دورة الحزن، الموت، الخراب والألم في الطبيعة وهكذا أيضاً يضيق الواقع ويتحول إلى مجرد أفق صغير من الأحتمالات، هل ستظل هذه الاحتمالات ـ الميتات ممكنة في عوالم أخرى قادمة؟ إننا إلى حد بعيد نحيا في عوالم غرائبية . أن قدرة الفنان إنما تتجلى في الحياة، في قدرته على تحمل ثقل الموت وهو مدرك مجئ الغد بالمزيد من الجمال والحب، لقد قبل الفنان عوني موته راضياً لأنه يعرف جيداً أن موهبته ما تزال قادرة على مواصلة الحياة، أجل إنه يستطيع أن يكون ما يشاء مادام قد قرر ذلك الموت بطريقة مسرحية، إن الموت بهكذا طريقة عمل كبير يحتاج إلى صدق وصمود لا يتوفران قط إلا للمواهب الحقيقية .