23 ديسمبر، 2024 7:46 ص

مجنون يلفظ أنفاسهُ ألأخيرة

مجنون يلفظ أنفاسهُ ألأخيرة

”  كان هناك طائرا صغيرا يستقبل الغد المشرق ببسمات كلها أمل وإنشراح…يحلم بسعادةٍ لاتتعارض مع سعادة آلآخرين. يخرج في الصباح الى الحقل الذي إتخذ منه رمزاً لرزقه اليومي دون التفكير ولو للحظةٍ واحدة بألأقتراب من أرزاق آلآخرين أو مزاحمتهم في ما كانوا يحصلون عليه من تللك ألأرض الممتدة على طول مسافات النظر. تراوده كل لحظة أحلاماً قد تكون وردية وقد تتعارض أحياناً مع تقاليد فئات المخلوقات التي ينتمي اليها….همه الوحيد العثور  على مخلوقه تنتمي الى فئته أو أي فئة أخرى تنسجم مع ميوله وأحلامهِ الممتدة خلف مسافات الزمن الملتهب خوفا وأشياء أخرى. كل صباح يقف خلف الرابيه ينظر الى ألأفق البعيد ..الى السماء الواسعه يحلم ويحلم ويحلم. كل ليله يعود مهموما يرتمي بين أحضان والدته التي أفنت عمرها في رعايته كي يصل الى هذه المرحلة التي وصل اليها. في كل مره يعتقد أنه بدء يقترب من الهدف المطلوب ولكن عواصف الدهر ونزيف الرياح الهابة من خلف الروح تعصر أحلامه وتحيلها الى سرابٍ ليس له قرار……. ويعود الطائر الصغير مرة أخرى يبحث عن حبةِ قمحٍ  هنا وغصنِ زيتونٍ هناك  بَيْدَ أن احلامه لاتلبث أن تذوب عند  الطرق المتعرجة في زوايا الحارات الكئيبه ويعود مخذولا كما بدأ أول مره. كانت والدته ترفرف حوله كلما إجتاز حقلا من الحقول لكنه لايراها ….كانت ترسم له خيطا رفيعا كلما إقترب من حبةِ قمحٍ ملقاة عند حافة حقلٍ من الحقول…كانت روحها تقوده الى طريقٍ آخر وهدفٍ آخر…ووالده يعتصر الماً كلما شاهده يتخبط في زاوية من زوايا حقول أشجار الزيتون باحثاً عن غصنِ بانٍ أو شجرةِ رمان مركونه على قارعة الزمن القاسِ . كان الطائر الصغير مزهوا بريشهِ الجميل معتزاً بثورةِ الشباب التي تغلفه منذ سنوات وسنوات. من بعيد لاح له في ألأفق الوردي حبة قمح تلمع في سلامٍ ووئامٍ كأنها زينة عروسٍ في ليلةِ زفافها. أسرع الخطى صوب تلك القمحةِ المزينةِ برائحة العشق وجمال الطبيعةِ الخلاب.
إحتضنها بين جناحيه وطاربعيداً في السماء التي لاتنتهي ..فرحاً بكنزه وحلمه الذي أوشك على أن يظهر الى النور. فرحت أمه وطارت معه فوق الحقول تدربه على أشياءٍ وأشياء كثيرة لمواجهة الحياة الجديدة. كانت ساعات النهار بالنسبة له عرساً لاينتهي وطقوسأً قدسية لم تكن موجودة في ألأزمنه الغابرة…خُلِقتْ من جديد. ظل ساعت الليل والنهار يحلم بتلك – الحبه…حبة القمح- يفكر فيها هل يلتهمها أم يبذرها في روحه كي تُخرج له أجيالا من حبات ذهبيه أخرى….وبينما هو يحلق في الفضاء مهووسا بحبته الجميلة ظهرت عاصفة هوجاء دون ترقب أو توقع وأطاحت به وسط الحقل يتخبط بدمه القاني. كان كفرخةٍ مذبوحه على قارعة الطريق بلا رحمة…تهشمت جناحيه ولم يعد يقوى على الطيران وظل حبيس العش يذرف دموعا في جنح الليل وحيدا بلا صديقٍ أو قريب. كانت الحبة قد نبتت على ألأرض القريبة من عشه وراحت ترسل له ألحانا جميلة كأمٍ تداعب وليدها ” ديليلول يا الولد يبني ديليلول” ..كان عاجزا عن الحركه تماما ..تمزقت روحه وأحس انه لن يقوى على الطيران مرة أخرى..وراحت دموعه تغسل كل خطاياه وأحلامه الملقاة خلف ظهر الزمن المرعب….العدو مجهول بالنسبةِ له ..
لايستطيع أن يثأر لحاله المزري وغصة في حنايا روحه تطلب ألأنتقام من كل الرياح الموسمية التي رسمت المها في روحه على  مدار ألأيام….ووالده المسن يزفر لوعات ولوعات يحلم بتفريغها في مخلوقٍ ينتمي الى مجاهل التاريخ المظلم ولكن ….لايوجد هناك أي عدو أماهه سوى الريح التي تعزف لحن الدمار على مدى ساعات النهار. وبينما هو يلعق جراحه في عزلةٍ أبديه ظهر من بعيد طائرا عملاقاً تخصص في معالجة آلام المخلوقات المنتشرة في كل الحقول…جاء مبتسما وحط بجناحيه العملاقتين عند عش الطائر الصغير ونفح في روحه عبارات الود وحكايات عن مصائب ألآخرين في كل زمانٍ ومكان…إبتسم الطائر الصغير ونظر في أعماق عينيَّ الطائر العملاق وكأن لسان حالهِ يقول ” هل أستطيع الطيران مرة آخرى؟ هل أستطيع سقي حبتي الجميلة بماء الحياة من جديد أم أبقَ هنا بين أحزاني وتنهداتي بلا فائده؟” . فهم الطائر العملاق ما كان يدور في ذهن الطائر الصغير وقال بود وحنان ” لن تتوقف الحياة..ستسير عجلة التاريخ ..ستزول المحن وسيبزغ عصراً جديدا…وستسقي حبة القمح التي تسكن حنايا روحك…ستلد لك حبة القمح صغارا كثيرة وستمتلك حقولا من حبات القمح وستتمايل الزهور مع نسيم الصباح …وستنحسر العاصفة ” ….ذهب الدكتور محمد الربيعي من غرفة الشاب كنسيم جميل لازال عطره مقيم في القلب رغم آلام الجسد الملقى على السرير بلا حراك وبصيص أملٍ يُداعب كل زاوية من زوايا الروح لكافة أفراد العائلة التي ينتمي اليها الطائر الصغير”.