عالم الجنون يحتاج إلى فيلسوف كي يغور في أعماقه، لان بعض عوالمه تقترن بتجليات روحانية يصعب على البشر العاديين أن يحلل ماهيتها. كل حركة وإيماءة لها تفسيرها الخاص تمدد إلى طقوس ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقية ). الوصول إلى هذا العالم الخاص تكون عن طريقين، أما الانتماء إليه أو دراسته بصورة معمقة قادرة على القيام بتأويل روحانيات المجانين التي تأخذ أشكالاً عديدة بعض منها يكون مصحوباً بأفعال وأصوات تكون مدعاة لنفور بعضهم من عالم تسوده طلاسم لا يمكن للإنسان العادي أن يفك رموزها. لكل مجنون طريقته الخاصة به التي تستطيع بها تعبير عن ذاته، مع وجود بعض المشتركات الجامعة للمجانين توحدهم في حدود معينة. بعض هؤلاء يحاول أن يخرج عن سرب الجماعة من خلال إيجاد طريقة خاصة به تميزه عن أقرانه. لعل وراء هذا الهدف هو المنافسة حول أيهم يحظى لقب (مجنون المنطقة)، لان هذا الموضوع له أهمية كبيرة للمجانين والحصول عليه ليس من السهولة بل يحتاج إلى جهدٍ وسنوات طويلة من المثابرة حتى ينال هذه الحظوة التي وراءها مكاسب مادية ومعنوية. لذا اغلب المجانين يشعرون أن وجود منافس ما قد يسلب هذا اللقب منهم الذي يترتب عليه عواقب وخيمة، لعل الغيرة تدخل في العالم، لان المجنون يريد أن تكون له منطقته الخاصة به لا يشاركه فيها احد، وان حاول احدهم تخطي الحدود المتعرف بها ،هنا لابد من التدخل للوضع حدا لهذا التجاوز على الأملاك الخاصة. البداية تكون عبر التهديد والوعيد فان لم ينفع هذا الأمر، هنا لامناص من استخدام التدخل العسكري، وعادة لا يخرج المجنون ألا معه سلاحه الشخصي الذي يتنوع حسب المهمة وخطورتها.
ذات مرة حاول (كنيفذ)، وهو من انق المجانين في وقته ، والذي يمتاز بسرعة المراوغة وقدرة المناورة كأنه نابليون عصره ، حلول أن يتجاوز حدود منطقته المعترف بها إلى أخرى تابعة لـ(سوادي ) الذي يخشاه اغلب المجانين، ولايجرؤ احدهم من دخولها خوفاً من بشطه، فالعصا الغليظة لا يكاد تفارق يده فضلاً عن البنية الجسمانية غير متكافئة بين الخصمين،الأول من وزن الخفيف والثاني من الثقيل. (سوادي ) برغم كونه من المنتصر في اغلب معارك المنطقة وضواحيها،فانه ترك هذا المرة لباب الدبلوماسية كي تأخذ مجراها في حل هذا النزاع من خلال نصح بطريقته الخاصة خصمه أن ينسحب وأن يعود أدراجه من حيث أتى ، ولكن العناد ركب المسكين (كيفيذ) الذي يعرف مسبقاً أن المعركة ليس في صالحه، ولكن مجرد تدخل منطقة خصم كـ(سوادي)، هو بحد نفسه انتصار، لان من يدخل عرين الأسد لابد أن يتحمل ما صيبه من الأضرار. جرت المعركة بين تطورٍ كلامي للتحول إلى ضرب بالأسلحة البيضاء مما جعل أهالي المنطقة يتدخلون لفك هذا النزاع والعودة إلى الأمور سابق عهدها، والنتيجة لكمات وجراحات يشعر (سوادي) بلذتها وهو يحتفظ بسادته على المنطقة، وانه مجنون المنطقة الوحيد دون منازع ، بعد أن اخذ موثقاً من أهالي المنقطة على هذا، عندها انسحب (كيفيذ) متوعداً غريمه بمعارك أخرى وان معارك جولات.
المتعارف عن المجانين أنهم من رثي الثياب نتيجة اللوثة العقلية التي أصيبوا بها، ولكن (كينفيذ) لم يكن سوى مجنون أستهواه عالم الجنون انتمى إليه لسبب غير معروف. شعرٌ مسرح على أفضل ما يكون، بطلنون وقميص نظيفان،حذاء يلمع ،لحية يعمد إلى حلقها بموس الحلاقة . هذا المجنون لديه هواية يمارسها ويشعر معها بالسعادة هي الكر والفر مع أطفال الحي مع استخدام الحجارة. وفي يوم من أيام تموز القائظ يشدهُ الحنون إلى ممارسة لعبته مع الأطفال في وقت كان فيه هؤلاء يهربون إلى حيث برودة المنازل. تلفت الرجل يساراً ويميناً لم يجد احد، فما كان منه ألا أن نادى أعلى صوته ( أمخبل الزموه) وكان يعني نفسه، استجابة الأطفال إلى هذا نداء المعركة، ليرشقوه بالحجارة وهو يرد عليهم بجولة أخرى بعد نفذت ذخيرته.
قد يسلك المجانين أسلوبا نقدياً لا يُعرف تفسيره سواهم كما الحال في (أبو كرك ) الذي طالما يمسك بهذا السلاح حيثما حل وارتحل، والغريب في الأمر انه يحاول مسايرت الرصيف باصقاً على أصحاب السيارات الذين يقابلون هذا التصرف بنوع من الأريحية وإطلاق العنان لصوت المنبهات، ويختم (أبو كرك) جولته اليومية التي تبدأ من الصباح الباكر حتى المساء ،هازجاً متفتلاً كأنه أعتى مهوال.
اغلب المجانين من ذوي النفوس الأبدية، فهم يأخذون على قدرة حاجتهم، أحياناً يقومون بتوزيع الهبات التي يحصلون عليها على الأطفال عن طيب خاطر.
لقب مجنون المنطقة غاية يسعى إليها كل المجانين الطلقاء، لأنه لا يأتي ألا عن جهد وتاريخ طويل وثقة الأهالي. المحافظة على هذا اللقب بغاية صعوبة في ظل وجود منافسة من قبل الآخرين، لان سلب هذه الصفة يفقد كل الامتيازات التي يحصلون عليها وأهمها رعاية واحترام وتقدير أهالي المنقطة.