ذات يوم من أيام التجوال في مدن الله ، حيث عدت من مدينة المحمدية الى الدار البيضاء أستريح من دهشة البحر في حواسي التي تعودت كل عمرها على اخضرار الماء الراكد على ضفاف الاهوار التي فارقتها مستسلما الى خدر شاي النعناع وزرقة البحر وحديث صديقي الشاعر المغربي ( صلاح بوسريف ) الذي يسكن المحمدية القريبة من كازابلانكا وهو يفاجئني بطروحات الحداثة الشعرية وقدرتها على اكتشاف الموهبة من خلال ما نفترضه أننا لقادرين على صناعة الالهة الملهمة التي تحمل طباعنا وامزجتنا ورغبتنا بالكشوفات الجديدة.
عبر تلك الأمكنة المحملة بالميتافيزيقيا الجميلة أسأل صاحب مقهى الحورية الزرقاء صديقي الشاعر مصطفى الغزلاني وهو يدندن بأرتشاف قهوته على عذوبة الحزن الاسطوري لأديث بياف ، فيرد : تجدها في كازا حيث ذلك البار الصغير الذي تعودت ارتياده مع صديقها الملاكم الفرنسي مارسيل سيردان.
أستعين بصديقي انيس الرافعي وسوية نذهب الى هناك ، أستفاد من متعة شروحاته عن هذا المكان حيث الجدران تحمل صورة تلك المرأة التي كانت بالنسبة لمعلم معنا يجيد الفرنسية الملاك بصوته الدامع وكنا نسميه مجنون إديث بياف وكان يترجم لنا نبرة الحزن في صدى صوتها الذي يبدو غريبا في ليل الاهوار لكننا كنا نشعر يوما بعد يوم أن المكان انسجم مع صوتها واصبحت اناشيدها الممتلأة برومانسية الحزن وحكاية عن عشق ابدي يبدأ بالعناق وينتهي بالموت فراقا يمثل بالنسبة لعاشقها المعلم هوسا غريبا من كشوفات الرقة وكأنه مولود في باريس بالرغم من انه من عشائر الحسينات التي تحيط بمدينة الناصرية من جهة الشمال والشرق .
أتذكر مجنون المغنية الفرنسية وأنا اتأمل صورها مع عشيقها الملاكم وعلى صدى كأس من الجعة الكورسيكية ونبرتها التي تشد حتى الذين لايعرفون الفرنسية اشعر أن هذه المرأة كانت عرابة ليلنا البعيد .
هناك حيث أتذكر الآن مجنونها واتساءل : أين حلت به أقدار الحياة بعد ثلاثين عام على سماع نشوة صوتها في تلك الامكنة التي ناطحات سحابها نظرات القصب ونعاس الجواميس والطيور والسمك وبشر خليقتهم أن ارواحهم لا تسمع في صدى الغناء سوى نبرة الحزن فارتاحوا لصوتها بالفطرة والغريزة أن هذه المرأة بالرغم من أنهم لا يفهمون غناءها لكنها كانت تنشد لحزنهم.
عبر ذلك الصوت وتلك الذكريات روحي تفتح بواباتها في النهار المغاربي وانصت لذلك الصدى العذب القادم من هناك والذي يحمل وجه المعلم الذي تفرنس بالرغم من انه من الحسينات. وقد تعلم اللغة التي تطربنا بها بياف عندما اشتغل عاملا في شركة فرنسية وأتى الينا بكنز من العواطف التي يستعيدها كل ليلة مع اغنيها التي سجلها على شريط كاسيت.
والآن نهار في كازابلانكا وليل في أهوار الجبايش وسؤال يأتي الآن : أين انتهى القدر بمجنون إديث بياف ؟
فيأتي الجواب في رسالة من صديق معلم كان معنا في نفس المدرسة في تلك الايام : مجنون إديث خطفته الحرب عندما سيق كجندي احتياط ونال قدر رحيله من شظية مدفع هاون ايراني عندما كان يسير على عذوبة ذكرياته مع صوتها….!