23 ديسمبر، 2024 4:13 م

مجلس النواب يقرر سحب ثقته من الشعب

مجلس النواب يقرر سحب ثقته من الشعب

“ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ”
يوم بعد آخر يثبت البرلمان كأنه لم يولد من رحم الشعب، وأنه في واد والشعب في واد آخر، وأنه لا يمثل الا نفسه، ولا يسعى إلا للحفاظ على منافعه ومكاسبه الشخصية، ويجب على الشعب أن يعي هذه الآصرة الغادرة، وعليه أن يترجم أفعاله ويستقرأ توجهاته وأن يحسب خطواته ويعد انفاسه، وأن يسعى جاهدا للوقوف حائلا بوجهه دون تنفيذ مآربه وتمرير بعضا من قراراته المشككة.
وقد ثبت بالدليل القاطع وبالأمر الواقع من خلال هذه الدورة البرلمانية والدورات التي سبقتها من أنهم لا يريدون الخير للعراقيين بالقدر الذي يجترحوه لأنفسهم من رواتب وامتيازات وصلاحيات وخيرات عينية ومادية، وان افعالهم وقراراتهم مبيتة، فإذا استمرت على هذا النحو ستؤدي نتائجها إلى تفكيك البلد وايصاله إلى مرحلة الانهيار الكلي وتقسيمه إلى كانتونات متصارعة، وحمله على الافلاس للحد الذي لا يستطيع معه دفع رواتب الموظفين وتغطية نفقات الحرب ضد داعش، وقد يصبح عاجزا حتى عن إقرار ميزانية تشغيلية، فضلا عن عجزه إقرار ميزانية استثمارية، إذا أخذنا بنظر الاعتبار هبوط أسعار النفط المصدر الرئيسي الوحيد لتمويل العراق.

ومن سيئات سوء أداء البرلمانات هو تعميم ظاهرة قهر الشعب وإلهائهم بعدم القيام بأدوارهم كمواطنين صالحين، من خلال تفشي الحرمان وقتل الروح الوطنية عندهم، وإنهاك قدراتهم الشرائية وتضييق حياتهم اليومية ليصلوا إلى مرحلة اليأس والقنوط.

وعلى العراقيين أن يصروا وبلا تراجع لئن يحسموا أمرهم بالمطالبة بالاصلاح الجذري وابعاد الفاسدين والمقصرين ومحاسبتهم، أو إذا تعذر ذلك فالمطالبة بحل البرلمان هي المطلب الأساسي الذي سيكون على رأس جميع قوائم مطالب المتظاهرين، بصفتها الورقة الأخيرة الضاغطة على النظام السياسي لاجباره على الاصلاح الجذري، كذلك إذا لم يتفق على تعديل الدستور تعديلا واقعيا فوقف العمل به أثناء مرحلة الإصلاحات هو المطلب الموضوعي للسير قدما بتنفيذ الإصلاحات الجذرية والحقيقية، ومما يدل على قصور الدستور في تحقيق تطلعات الشعب وإستقرار البلد هو أن معظم السياسيين في هذه الأيام حصرا يطالبون وبقوة غير معهودة باحترامه لتكبيل الخطوات التي يفترض أن تتخذها الحكومة بالاصلاح لكي يبقى الوضع على ماهو عليه الحال، للمضي في اكتساب المنافع الذاتية للمسؤولين وللتغطية على حالات الفساد، وللوصول إلى مرحلة انهيار البلد وجعله اثرا بعد عين، لتنهار معه جميع ملفات الفساد برمتها وتخليص المفسدين من قبضة القضاء، وعلى العراقيين أن لا يصدقوا بوعودهم ولا بورقات إصلاحهم الملتفة على مطالب المتظاهرين وعلى اداء الحشد الشعبي المقدس في منازلة داعش، ومن ثم تحقيق الهدف الأكبر الذي يرومه أسيادهم الا وهو إخلاء ساحة المقاومة من الحشد لتسليم بغداد والمدن المقدسة لداعش والعودة بالحكم الشمولي والاقتصاص من الشعب فردا فردا ولا يسلم من هذا الوزر حتى شرائكهم الاثنيين الذين كانوا معهم في العمل السياسي، ولا يستقيم امرهم مع الشعب حتى لو اتى الشعب “بالله والملائكة قبيلا، أو تسقط السماء عليهم كسفا”.

هذا هو البرلمان الذي واضب وتفنن على صناعة تفتيت تطلعات العراقيين وحرمانهم من ابسط حقوقهم الانسانية والوطنية ومن متعة العيش الرغيد في وطن غني وكريم، بعهر سياسي على النحو الذي عرفه الجميع وعرفه القاصي والداني، ولو أن هذا الصنيع لو وضب باتجاه أن يقوم البرلمان بتنفيذ الواجبات والأدوار الوطنية والتشريعية الملقاة على عاتقه على وفق المقاييس والضوابط الوطنية والأخلاقية، وعلى وفق ما يجب أن يقوم به من تكاليف بموجب العقد الشرعي الذي تم ابرامه بينه وبين الشعب أثناء مراحل الانتخابات لكان العراق الآن وبعد مضي اثني عشر سنة من سقوط الصنم في مصاف الدول العظمى.

هذا وقد طالعنا البرلمان كآخر انجاز له من أنه صوت على قانون الأحزاب الذي دس في احدى فقراته أن الدولة هي التي من تمول تلك الأحزاب من خزينة الدولة وعلى حساب قوت المواطن وخدماته.

وانجاز آخر كبادرة منه في سبيل الاصلاح الذي كان ينتظره الشعب والمتظاهرون بفارغ الصبر هو انتظار استجواب معالي وزير الكهرباء السيد قاسم الفهداوي بغية رفع الثقة عنه واقالته بسبب تردي الكهرباء وبسبب الفساد المستشري في الوزارة الذي ساهم بالتهام المبالغ الكبيرة المخصصة لتطوير منظومة الطاقة الكهربائية وتحسين واقع الكهرباء المتردي في البلد، ولكن البرلمان وكعادته التف على الموضوع، من خلال مسرحية الاستجواب السطحي لمعالي الوزير، بأسئلة مقتضبة، وبإجابات جاهزة اعدها له خبراء الفساد والتدليس في وزارته، وبتصويت سابق لأوانه.
وحقيقة الاستجواب كانت تمثل غاية المتظاهرين في التظاهرة التأسيسية الاولى، ألا انها وبطريقة تشم منها رائحة التواطؤ والاحتواء وبمخالفة صريحة للدستور وللنظام الداخلي للبرلمان قاموا باحتواء جلسة الاستجواب لصالح معالي الوزير، وبدلا من أن يتخذ البرلمان الإجرائات الصحيحة بتقويم الحالة وارضاء المتظاهرين بتنفيذ مطالبهم واحترام تطلعاتهم بمحاسبة الوزير وعزله، قام بدلا من ذلك بالتصويت على تجديد وإعادة الثقة به واعادته لممارسة أعماله ليمضي قدما في اذلال العراقيين بحرمانهم من ابسط حقوقهم بالتمتع بنعمة الكهرباء في هذا الصيف اللاهب، ويكأنه-اي مجلس النواب- يقرر سحب ثقته من الشعب، وفي هذه الحالة عليه ان يبحث عن شعب آخر، والشعب بدوره عليه أن يترجم هذه الرسالة التي تحمل من بين سطورها الاستهانة بمطالب المتظاهرين، وتمييع حركة الاصلاح وعرقلتها، وعلى الشعب أيضا أن يبحث عن برلمان آخر يمثله مجددا في جولة أخرى من جولات العرس البنفسجي المبكرة.
وبهذا القرار غرز البرلمان خاصرة المتظاهرين بسكين غدره، وعزز رسالته بأنه مازال ماض بخذلانهم وقابعا بعدم إحترامهم سواء تظاهروا أو اعتصموا بعنوان الإصلاح أو بعنوان آخر، وكل هذا يصب في حوض “الثورة البرلمانية المضادة” الماضية بافشال حركة الاصلاح، وهذا جزء بسيط مما يخططون له باجهاضها، وواحدة من طرق الإلتفاف على مطالب المتظاهرين المشروعة فضلا عن بقية المخططات التي تجري خلف الكواليس.

كما ويعد البرلمان العدة لمواصلة الجلسات تلو الجلسات لمناقشة وتمرير قرار تشكيل الحرس الوطني الذي يبلغ قوامه 120 ألف شخص في هذا الظرف العصيب الذي يمر به العراق، ونخشى ما نخشاه أن يمرر القرار ليضع العراق امام حقبة تداعيات اقتصادية حاضرة وحراكات سياسية واجتماعية وأمنية مستقبلية قد لا يتكهن خطرها وحجمها حتى أمهر وأحنك السياسيين.
وحالة تشكيل الحرس الوطني قد تفقد العراق وحدته وسيادته واستقراره واقتصاده، أو قد تكون هذه القطعات سببا رئيسيا في اذكاء الطائفية واضعاف المركز وتهميش دور الجيش العراقي والقوات المسلحة ومصادرة جهود الحشد الشعبي وابعاده من الساحة، كنتيجة لوصفهم اياه: “على انه مليشيات مسلحة فاقدة الأهلية أو كظاهرة يجب إختزالها” طبقا لتصريحات بعض آلسياسيين المتفذلكين والأعضاء المتأزمين من خلال طلاتهم المكوكية الخجولة على الفضائيات التي تتبنى هذه الأفكار وتطبل لها ليلا ونهارا، وسرا وجهارا.
ولكن ربما إذا كانت هذه القطعات أقر لها ان ترتبط بالقيادة العامة للقوات المسلحة من ناحية الحركات والنواحي الادارية والفنية، سيكون هذا ذي مقبولية ولكن بسلاح ذي حدين، أحدهما ان تكون تلك القطعات وكرا لمن يجند فيها من كل من هب ودب ممن لا يريدون الخير للعراق من التنظيمات الإرهابية والعصابات الداعشية لتتخذ من الحرس الوطني حاضنة جديدة لها تلبس من خلاله القميص الرسمي لتغطية فعالياتها بممارسة العمل الارهابي على طول قامتها، اما الحد الآخر، فهو الخيار الذي ربما يساهم بتخفيف وطأة حالة الترقب ولو بشكل ضئيل لمن عارضوا الفكرة حملة وتفصيلا، وارجاء المباشرة في تشكيل هذه القطعات في هذا الوقت الحرج ولحين تحسن الموقف العسكري والاقتصادي للبلد أمر مطلوب لتفادي الأزمة المالية.

إن العراق فقد الكثير عندما تخطى نظام الأغلبية في البرلمان واتخذ من نظام التوافقات والشراكات بديلا، فقد أدى هذا الخيار لتفعيل المحاصصة التي أنجبت الفساد في جميع مؤسسات الدولة حتى صارت هذه الظاهرة عبارة عن أسلوب عمل ونهج وثقافة، كبلت دور الحكومة والقضاء بتنفيذ الواجبات الملقاة على عاتقيهما.
فعطل الفساد والمحاصصة وساندهما في ذلك الارهاب الزراعة والصناعة، والاعمار والبناء والتنمية، والخدمات كافة، وزاد في عدد الثكالى واليتامى والأرامل والعاطلين عن العمل، وفقد العراق لثلث من مساحته على يد عصابات دا عش الإرهابية، اضافة للاعداد الكبيرة من النازحين والمهجرين، وتفاقم ظاهرة الهجرة لثلة من شبابه لدول المهجر، والكثير الكثير الذي لا يسع المقال لذكره، وكل ذلك يعود لسوء اداء البرلمان وفي جميع دوراته، وسوء ادارة بعض الوزراء والمسؤولين من ذوي الدرجات الدرجات الرفيعة من جميع الحكومات.

والشيء المحير كيف يتحمل بعض المسؤولين والنواب من المفسدين والمقصرين كل هذه الطعون والقذف والكلام اللاذع والخشن والساخر، وحالات التوبيخ العلنية التي تطل على اسماعهم على مدار الساعة من جميع وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة من داخل العراق وخارجه، ومن الشارع وساحات التظاهر، ولم يحركوا ساكنا ويعيدوا النظر في أدائهم وسلوكهم، هل بلغ مبلغهم أن ضحوا بكرامتهم وسمعتهم من أجل المال السحت ومن أجل منصب لو دام لغيرهم ما وصل اليهم واللذان سيغادرونهما غدا اما للقبر أو للسجن أو للتشرد ويبقى لغيرهم، إذا كان فيه باقية؟.
والأغرب من ذلك أنهم لا ينتفضون لأنفسهم أو يقيموا لها وزنا، بأن ينتحروا للتخلص من هذا الواقع المذل والكابوس المخيف، على الطريقة التي قام بها الرئيس الكوري الجنوبي السابق “رو مو هيون” لإنهاء حياته للتخلص من ربقة العار والإذلال والخجل، فانتحر يوم 23 ايار على خلفية توجيه اتهامات له في قضايا فساد لقاء تلقيه مبلغ 6 ملايين دولار من رجل أعمال عندما كان رئيسا للبلاد،فتوفي متأثرا بجروح أصيب بها بعدما قفز في واد عميق، وترك رسالة وداع لعائلته قال فيها: “إنه يشعر بالحزن لأنه سبب الآلام للكثير من الناس”.

أو على الطريقة التي فعلها السياسي العراقي “عبد المحسن السعدون” رئيس وزراء العراق الأسبق من القرن المنصرم، حيث انتحر بوضع رصاصة من مسدسه الشخصي في صدره، اثر مشادة كلامية وقعت بينه وبين المندوب السامي البريطاني”الميجر بانك” بسبب ما قاله السعدون من كلام في مجلس النواب: “من أن الاستقلال يؤخذ بالقوة، ومطالبته الشعب بالتهيؤ له والتضحية في سبيله” الذي سارع الأخير إلى معاتبته وتقريعه بكلمات خشنة وعنيفة أثارت في نفسه الحزن العميق لدرجة لم يعد يتحملها، فدفعته إلى الانتحار في 13 تشرين الثاني 1929، حيث أطلق على نفسه الرصاص تاركا رفاقه، والملك فيصل، ووكيل المندوب السامي في حالة من الذهول الشديد، والقلق العميق مما يمكن أن يحدثه انتحاره من رد فعل لدى الشعب، وقد ترك وصيته لأبنه “علي السعدون” : شرح فيها أسباب أقدامه على الانتحار، وأوصاه بوالدته و أخوته الصغار، وهذا نص الوصية: “ولدي وعيني، ومستندي علي، اعف عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذةً، وذوقاً، وشرفا. فالأمة تنتظر مني خدمة، والإنكليز لا يوافقون، وليس لي ظهير. العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء وعاجزون، وبعيدون كثيراً عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير أرباب الناموس أمثالي. يظنون أني خائن للوطن، وعبد للإنكليز؟ ما أعظم هذه المصيبة!!، أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني، قد كابدت أنواع الإحتقارات، وتحملت المذلات مضضا في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش بها آبائي وأجدادي مرفهين .ولدي نصيحتي الأخيرة لك هي: أن ترحم أخوتك الصغار، الذين سيبقون يتامى، وتحترم والدتك، وتخلص لوطنك. أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصاً مطلقا.أعفِ عني يا ولدي علي”.

وبهذه الطريقة استطاع السعدون انهاء حياته السياسية والاجتماعية، فاستأثر لنفسه من حياته التي لم يجد فيها شرفا، من حيث أنه كابد أنواع الإحتقارات، وتحمل المذلات مضضاً في سبيل وطنه الذي أسماه بوصيته بالبقعة المباركة التي عاش بها آبائه وأجداده مرفهين.
وحافظ على ناموسه وابى ان لا يكون إلا من اربابه، وأثبت لمن كان معه وللتاريخ أنه الفدائي الأشد اخلاصا لوطنه، كيف لا؟ وهو القائل:”سأضع لأمتي تذكارا يبقى إلى الأبد” فخلد نفسه على أنه ليس عبدا للإنكليز.
يذكر أنه وضع له تمثالا قد صمم خصيصا في ايطاليا من مادة النحاس في شارع السعدون، الشارع الذي سمي باسمه عرفانا لخدماته التي قدمها لوطنه العراق، وقد سرق هذا التمثال وأختفى عقيب احتلال بغداد من قبل الأمريكان في نيسان 2003 وفد عوض بتمثال آخر مثله ولكنه ليس سنخته.

فنحن معاذ الله لا نتمنى لهم الموت بطريقة الخرم ابدا ولاغيرها من طرق العنف والتنكيل، إنما يترتب الآن على كل من ساهم في خراب العراق، ومن أفسد وسرق ونهب أموال العراق والعراقيين من دون وجه حق أن يعيدها لمصدرها، وأن يستقيل أبتداء ويعتذر من الشعب ويعرض نفسه على القضاء، ويفسح المجال للآخرين لادارة شؤون البلاد والعباد للمضي في عملية الإصلاحات، والسلام على من اتبع الهدى.

“من أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين، فليس بمسلم”.

صدق رسول الله الاكرم(ص)