تُمثل السُنة المُطهرة المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وهي تعني من وجهة مدرسة أهل بيت النبوة- عليهم السلام-: (قول المعصوم أو فعله أو تقريره)، وبهذا التعريف تأخذ السنّة الشريفة نطاقاً واسعاً لتشمل قول أو فعل أو تقرير الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم- والأئمة من أهل بيته-عليهم السلام- ومن الثابت شرعا أن التشريع الإسلامي ايًا كان مصدره يجري على كل أحد في كل زمان ومكان…
الخطاب الحسيني يُشكل أحد أفراد السنة المطهرة بوصفه قول المعصوم، ومن هنا ليس من الصحيح أن يُختزل الخطاب في مرحلة زمنية معينة ينتهي بنهايتها، وإنما هو تشريع ومنهج ساري لكل الأجيال، يرسم لها خارطة التفكير الصحيح والسلوك المستقيم والمواقف المبدئية، وعلى ضوء هذه الرؤية القرآنية ينبغي التعاطي مع خطابات المعصومين ومنهم الحسين –عليهم السلام-.
لعلَّ أول خطاب صدر من الحسين- عليه السلام- في نهضته الإصلاحية وسيره نحو المجد والخلود هو أنَّه حينما دعاه الوليد بن عتبة والي المدينة لتقديم البيعة والولاء ليزيد، فكان ردُّ الحسين- عليه السلام-: « إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة، (راجع الكامل في التأريخ 3 / 246).
عندما نقرأ هذا الخطاب بصورة واعية حتى نصل الى التشريع والمنهج الذي وضعه الحسين، نجد أنَّه بَيَّنَ عدة قضايا مهمة نذكر منها ما ياتي:
القضية الأولى: إنَّه- عليه السلام- مَيَّزَ بين محورين، احدهما هو محور الخير والطهر يتمثل في أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة- عليهم السلام- والمحور الثاني هو محو الشر والرجس يتمثل بيزيد.
القضية الثانية: الحسين- عليه السلام- حدَّدَ وبَيَّنَ الضوابط الشرعية العلمية الأخلاقية والإنسانية لتشخيص واختيار وانتخاب وتنصيب الخليفة.
القضية الثالثة: وبحسب الضوابط الشرعية والعلمية والأخلاقية والإنسانية فأن المحور الأول المتمثل بالحسين هو أحق وأولى بالخلافة والبيعة من المحور الثاني المتمثل بيزيد.
القضية الرابعة: الملاحظ أَنَّ الحسين-عليه السلام- لم يكتفِ بذكر العموميات فقط، أو العناوين الكلية الغامضة، أو المطاطية للمعاني في سياق بيانه لمحور الخير وتمييزه عن محور الشر، وإنَّما ذكر المصاديق وشخَّصَها بمسمياتها، لكي تكون الناس على علم ودراية، حتى لا تلتبس عليهم الأمور وتختلط الأوراق هذا من من جهة، ومن جهة أخرى ليؤصد الابواب بوجه من يريد أّنْ يُوظِّف خطابه لمصالحه الشخصية، أو يحرفه عن المعاني الحقيقية والأهداف الواقعية التي ارادها الحسين، فلذلك شخَّص الخليفة والمصلح بالإسم، وميزه عن منتحل الخلافة الظالم الجاهل الفاسد بالإسم فقال- عليه السلام-: إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة… ويزيد رجل فاسق شارب، لاحظ إِنَّه ذّكَرَ المصاديق والأسماء وشخصها.
القضية الخامسة: قوله (مثلي لا يبايع مثله) عبارة في منتهى البلاغة والشمولية والحيوية والديمومة كيف لا وهو ابن سيد البلغاء والمتكلمين وابن سيد المخلوقات أجمعين، وهنا كانت لنا عدة وقفات نذكر منها ما يأتي:
الوقفة الأولى فهو- عليه السلام- لَمْ يَقُل (أنا لا أبايع يزيد)، حتى يُخرج القضية من دائرة الشخصنة، ويُغلق الابواب بوجه مَنْ يريد أنْ يختزل الموقف بين الحسين ويزيد، ويَحصر التكليف به دون غيره من سائر الناس، سواء أ كان في ذلك الزمان، أو في كل زمان، فلذلك قال (مثلي لا يبايع مثله).
الوقفة الثانية: قوله (مثلي لا يبايع مثله) دليل قاطع يُفَنِّد قول كل مَنْ يعتقد- لكي يبرر منهجه- أَنَّ أئمة أهل البيت-عليهم السلام- التزموا منطق الصمت والسكوت والتقية السلبية تجاه الأنظمة الجائرة التي يمثل كلٌ منها (يزيد) عصره، لأنَّه الائمة هم مثل الحسين، ومثل الحسين لا يبايع مثل يزيد.
الوقفة الثالثة: قوله (مثلي لا يبايع مثله) رسالة الى مَنْ يريد السير على سنة ومنهاج الحسين، ويتأسى بالحسين ويواسيه، أو ينتسب الى الحسين أو يدعي ذلك، تلك الرسالة مفادها عدم تقديم البيعة والولاء والطاعة لكل يزيد في كل زمان ومكان لأنَّ: مثل الحسين لا يبايع مثل يزيد.
الوقفة الرابعة: وبذلك فإنَّ الحسين- عليه السلام- حدد الموقف الشرعي لكل إنسان- في كل عصر و مكان- تجاه الأنظمة الجائرة، ينصُّ على حرمة مبايعتهم والركون اليهم والسكوت عنهم، وقول الحسين وفعله وتقريره حجة وسنة شريفة، يجب العمل بها ومخالفتها هي مخالفة الله ورسوله.
لكي يكون الإنسان مع الحسين وعلى نهج الحسين ومتأسيا ومقتديا بالحسين ومواسيا للحسين ومحيي شعائر الحسين احياءً محمديًا رساليًا توعويًا حركيًا مثمرًا، عليه بالاتباع والعمل وفق وطبق الغاية والهدف الذي خرج لتحقيقه الحسين-عليه السلام- وهذا ما أكد عليه الاستاذ المعلم في خطاباته وبياناته، ومنها ما صدر منه في بيان بيان رقم -69- (محطات في مسير كربلاء) حيث كان مما جاء فيه: « اذن لنكن صادقين في نيل رضا الإله رب العالمين وجنة النعيم ،
ولنكن صادقين في حب الحسين وجدّه الأمين ((عليهما وآلهما الصلاة والسلام والتكريم)) بالاتباع والعمل وفق وطبق الغاية والهدف الذي خرج لتحقيقه الحسين
((عليه السلام )) وضحّى من أجله بصحبه وعياله ونفسه ، انه الاصلاح ، الاصلاح في امة جدِّ الحسين الرسول الكريم ((عليه وآله الصلاة والسلام)) »، انتهي المقتبس.
وفقا للمنهج الحسيني فأنَّ مثل الحسين لا يبايع الظلم والظلام والجهل والفساد والتطرف والتكفير والقمع…. لا يبايع كل ما ينافي الشرع والأخلاق والقيم الإنسانية…
فالحسين وضع وصمة عار على جبين كل يزيد في كل زمان ومكان.