23 ديسمبر، 2024 12:07 ص

متى يُنصف الشهيد موفق الياس زوما؟

متى يُنصف الشهيد موفق الياس زوما؟

تفخر الشعوب بشهدائها، وتكبّر فيهم تضحياتهم وصبر أهاليهم، فتجعل منهم نبراساً طيباً للبشرية ورفعتها. يحدث هذا في جزء العالم الذي يقيم وزناً وأحتراماً للأنسان وتضحياته. أما في وطننا الغالي، فقد سارت الأمور غالباً حسب مزاج الحاكم ، ولهذا سخّر المؤسسات القمعية للأنتقام من أيّ شخص يحمل فكراً مخالفاً، ناهيك بأن يكون معارضاً، و لم يكتفوا بهذا بل سـحبوا عقابهم على أهله وعائلته وذويه، وأذاقوهم المر في الملاحقة والمضايقة وحرمانهم من الراحة والمساواة في التعامل مع بقية افراد الشعب. كان لهذا الأمر انعكاساته السلبية على الكثير من العوائل المسالمة التي قدمت ابنائها قرابين من اجل حرية الوطن وأستقلاله وسعادة شعبه، لدرجة دفعت البعض منهم (يكفر) بالعمل السياسي، وبالشهادة من أجل الوطن رغم قدسيتها، فيما عاش اغلبهم على هامش الحياة ، لا لذنب او جرم اقترفوه، سوى ان تلك كانت سياسة العقاب الجماعي التي سلطتها الأنظمة الدكتاتورية، وفي المقدمة منهم، نظام البعث الأجرامي ، ولعل حكاية الشهيد ( موفق الياس زوما) تبقى شـــاهداً حياً على تلك الجرائم والسياسات المدمرة .

ولد الراحل موفق في العاصمة بغداد ، وحينما بلغ العاشرة كانت عائلته قد عادت الى مدينتها الأصلية تلكيف، حيث قام والدهُ بأفتتاح مطحنة للحبوب ومعملاً لصناعة الثلج في البلدة، ومع انتشار الأفكار الوطنية التي تزامنت مع انتصار ثورة ١٤ تموز و ارتفاع وتائر التآمر عليها ، وجد طريقهُ للعمل في الشبيبة الديمقراطية ، والنشاط من اجل العدالة والحرية بحدود العام ١٩٦٢. هذا الأمر الذي لم يرق للسلطات التي قابلت تلك المطالب بالملاحقة والأعتقال لمن يحملها وينشرها، وتفاديا للوقوع بقبضتهم، اختار الشهيد الألتحاق بصفوف المقاتلين الذين صعدوا للجبل (الأنصار ـ البيشمركة) منذ اواسط الستينات، وعمل في فصيل القائد الوطني الراحل توما توماس (ابو جوزيف). بعد انقلاب عام ١٩٦٨، عاد البعثيين الى سياستهم الرعناء في محاربة حملة الأفكار الوطنية وسخروا لذلك عملائهم ووكلائهم في القرى والأرياف، اذ قام مدير الناحية وكان لقبه (الخفاجي) بأستدعاء والد الشهيد (السيد الياس زوما) وهدده بالحرف الواحد: اما ان تجلب ابنك ، أو ان ترحل من هذه المدينة! فما كان من الأب إلا ان يستسلم لتهديد السلطات، فتوسط للوصول الى ابنه الذي التقاه (سرا) في مدينة القوش وطلب منه العودة والتوقف عن العمل في صفوف المقاتلين، مقابل وعود (الخفاجي) بعدم الملاحقة. هذه المواجهة وضعت مصلحة الأسرة بين فكي الرحا، فإما الأستقرار أو الحرمان من العمل والحياة الآمنة. كان الخيار صعبا عليه،

لكنه في النهاية قرر الذهاب مع والده والتسليم للسلطات، التي غضت الطرف عنه آنذاك، وصادف أن نودي على مواليده فالتحق بالخدمة العسكرية الألزامية.

الا ان حادثا وقع في محافظة البصرة قلب كل الأمور رأسا على عقب، إذ القت سلطات الحدود القبض على السيد ( ف ـ ب )، إبن بلدة الراحل وصديقه منذ الصغر، وهو يقوم بعملية تهريب من و الى ايران عن طريق البصرة. فخضع الى التعذيب بغية سحب الأعتراف منه والكشف عن الأشخاص المتعاونين معه، فما كان من (ف ـ ب ) وللتخفيف عن مصيبته إلا ان يذكر لهم اسم الشهيد موفق، لعلمه بأنه ملتحق بالقوات (في الجبل) وسيكون من الصعوبة على الحكومة القبض عليه، حيث انه كان يجهل قصة (نزول) موفق والتحاقه بالخدمة الألزامية. لم يمض وقت طويل حتى أتوا بالراحل، وأخضعوه لشـتى انواع التعذيب من اجل سحب الأعترافات منه، لكنه كان بريئا من كل ما نسب اليه، على ان انكاره لتلك التهم لم يشفعه، خاصة وإن ملفه الشخصي يحمل تهمة حمله لأفكار مخالفة لفكر حزب البعث، فكان صيدا ثمينا وقع بيدهم.

جرت تلك الأحداث في بدايات حكم البعث (ثانية) والذي كان يسعى لتثبيت اركانه بكل الوسائل، بما فيها الأرهاب والقتل، فأبتدع قصة الشبكات الجاسوسية، ومارس سياسة الخداع والتضليل والمحاكم الصورية ، ثم عمد الى اظهار انيابه السوداء عبر الفتك بخصومه وأنزال اقصى العقوبات بهم لابل وتعليق جثثهم في العلن وبأهم المراكز (بغداد والبصرة) في ممارسة تنبئ بمرحلة خطيرة، اتت على الأخضر واليابس في فترة حكمهم الأسود لاحقا.

وهكذا البست تهمة الجاسوسية بالشهيد موفق الياس زوما، وأُعدم شنقا في آب بسجن الرضوانية١٩٦٩. وكانت تلك الحادثة من أسوء ما يمكن ان تكون على عائلته بآثارها المدمرة، حيث توفي والده (الياس) أثر انفجار في الدماغ حدث له بعد فترة قصيرة من اعدام ابنه ، وتقوقعت العائلة على نفسها بعد أن حوربت من القريب والبعيد. ولا أظن ان احدا يستطيع قياس فعلها وتأثيرها على الشهيد، إذ كيف يمكن المقارنة بين حمل الأفكار الوطنية وبين الجاسوسية؟

معادلة لا تستوي الا في سجلات البعثيين!

ولعل الوفاء لذكراه هي التي كانت تدفع زميله السيد جميل سلمو، بالحديث عنه كلما جرى استذكار شهداء الحركة الوطنية فيقول : “انعقدت صداقة طيبة بيني وبين الراحل، وعملنا سوية في الشبيبة، ولقد كان محبا وطيبا وشجاعا ومناضلا جسورا، ومؤمنا بالأفكار الوطنية، وأشعر بالألم العميق للثمن الذي دفعه هو وعائلته على يد البعث الفاشست”.

اما السيد جوزيف توماس، ابن القائد الراحل توما توماس، فيقول عن الراحل موفق: ” نعم اني اتذكره جيدا رغم مرور أكثر من ٤٥ عاما ، حيث تعرفت عليه حينما كنا نذهب لمدينة تلكيف ونشتري الثلج منهم ، وتعمقت العلاقة بعد التحاقه بصفوف المقاتلين. وأتذكر جيدا حينما أتى والده

للقائه عندنا، وكان والدي من المعارضين لنزوله وتسليمه للسلطات لعدم ثقته بهم، وحزنت انا وعائلتي ووالدي على نهايته المأساوية. لقد كان ذكيا جدا وماهرا ، ومن المؤكد اننا فقدنا انسانا بطلا وشجاعا”.

تمضي السنين، لكن ذكرى الذين رحلوا عنّا بغير اوانهم ظلما، تأبى ان تغيب عن البال وتصر على ان تحضر باستمرار، شاهدا على الأنظمة القمعية والدموية التي ثبتت اركان حكمها بالقتل والدمار والكذب وخداع المواطن.

تبقى في القلب غصـّة عالقة بإنتظار ان يتقدم احداً ممن شاركوا بكرنفالات الموت تلك، ان يأتي للأمام ويعلن للملئ عمّا اقترفته تلك العصابات بحق الأبرياء. نحن لن ننسى شهدائنا، فهل ستستفيق الضمائر يوما…..ومتى؟

**المواساة لمن تبقى من عائلة الشهيد

**الراحة لوالديه، الياس وماري الذين قضوا بالحزن والألم

**المواساة لأهله وأقربائه وأحبابه وكل من عرفه انساناً طيباً

**والذكر الطيب للشهيد موفق الياس زوما، الأنسان الذي يبقى اسمهُ انظف من جلاديه، اولئك الذين انتهى مصيرهم الى مزبلة التأريخ.