23 ديسمبر، 2024 4:58 ص

 متى يستوطن سبينوزا في المنطقه الخضراء !!

 متى يستوطن سبينوزا في المنطقه الخضراء !!

لم يتعرض مفهوم سياسي للتشويه في منطقتنا العربية مثلما تعرض له مفهوم العلمانية، فقد انبرى عتاة المتأسلمين في حقن عقول اجيال متلاحقة بمعاني تتعارض تماما” مع المحتوى المعرفي والتطبيقي للعلمانية. رؤيتهم المتعسفة لها جعلتهم يشعرون بانها تمثل تهديد حقيقي للدين، وانها تمارس سلطة الاقصاء سيكولوجيا” بحق الاديان, وتطبيقيا” بحق الاخلاق السماوية. يرى المـتأسلمون ان الحريات المدنية وتحقيق العدالة الإنسانية هي صياغات وضعيه تتعارض مع المنهج الالهي في الحياة , وان المضمون الثوري للعلمانية هدفه تطهير المجتمع من سيماء و ملائكية التدين في المجتمع العربي وبالتالي خسارة المجتمعات العربية لفرص لا تعوض من العروج لفتوحات الرضى الالهي.
 الاسلاميون يتهمون العلمانيين بأنهم يهدفون الى جعل العلمانية ايدلوجيا ترقى الى ما فوق مرتبة الاديان والمذاهب، ولذلك يعبرون عن خشيتهم من ان تكون منافس حقيقي لقواعدهم الأيديولوجية. ويضربون مثلا” انضمام اجيال الشباب في تركيا الى حزب اردوغان, اي انهم يتهمون العلمانية بغرس جذور عقائدية يتم الترغيب والترويج لها على اساسا ايديولوجي وليست مجرد تطبيق ميكانيكي لسياسه محايده.
كانت اراء كوبرنيكوس, وغاليلو,و اكتشاف نيوتن لقوانين الحركة وقانون الجاذبية اثر كبير في تقويض الركن الاقوى في سلطة الكنيسة الا وهو مبدا ان كل شيء في الكون يتم بأمر الله, وان حركة الاجرام السماوية تسير بقوانين ذاتيه لا علاقة لها بالشر والخير في الانسان. ثم جاءت الطامة الكبرى عندما أعلن دارون ان اصل الانواع هو كائنات بحريه متطورة ولم تنزل من السماء كاملة التطور، فظهرت حينها ما يسمى بمحاكم التفتيش التي قضت على اكثر من تسعين الف انسان بمختلف التهم. فزاد التذمر والاضطراب والشك في طبيعة المعرفة والثقافة المتداولة في اوربا, وذكر وول ديو رانت حجم الاحتقار الذي بلغته الكنسية في ذلك الوقت.
بدأت العلمانية تظهر منسوجة في مؤلفات (غيوم), و(مارسيل), الا انها لم تنضج كمذهب فكري الّا على يد الفيلسوف الهولندي سبينوزا في القرن السابع عشر. لقد كان يرى ان قوانين الدولة تحت ظل الكنيسة لا تعدو ان تكون الا انفعالات تأديبيه وليست قانونيه.
رغم التعريفات الكثيرة للعلمانية الا انها لا تعدو ان تكون سوى فصل السلطة السياسية عن الدين, وان تكون سلطة الدولة بيد رجال لا يفرضون عقائدهم الروحية على دورهم السياسي. بحيث تكفل للشعوب حق اختيار الاديان دون ان يكون لذلك مرجعيه في العمل الحكومي.
 يقول مناصرو العلمانية ان الدولة مفهوم متطور، متغير، ويحتاج الى اليات تناسب هذه المتغيرات، اما الدين فشرائعه ثابته ولذلك لا تصلح ان تكون مرجعيه المتغير ثابته. وان قولبة الدولة الحديثة بقالب الدين وبناء خياراتها على اساس طائفي او تفضيل عرقي سيقوض محصلة الطاقة الكلية للدولة ويدفعها الى مرتبه متأخرة بين الدول. يقول جون لوك ان الدولة يجب ان تنشغل بالادراه المحلية دون ان تستنفذ طاقتها في فرض المعتقدات الدينية، ولذلك يجب ان تكون الدولة منفصله عن اي دين وتحترم كافة الاديان.
تحتوي العديد من دساتير الدول العربية على جوهر العلمانية وان لم تذكره في ابجدياتها ولكنها تتجلى في مفاهيم المساواة بين البشر وكفالة الحريات العامة كما في مصر. وهناك دول عربيه تخفي هذه المبادئ كقوانين الا انها تتبناها في تطبيقاتها لوجود اختلافات مذهبيه ودينيه في تركيبتها السكانية, بالإضافة الى حالة الانقسام الثقافي بين نخب ثقافيه تؤمن من حيث ارتباطها بمنابع الفكر الغربي وبين شعوب تعيش حالة فقر وتصدع كبير في منظومتها الثقافية الباليه, ولذلك وفي سلوك منافق يتم استرضاء العامة ورجال الدين بديباجات القوانين بينما يتم ممارسة العلمانية في القواعد كخيارات واضحه.
المواطن العربي ليس امامه خيارات صعبه ان كان الامر اليه في اختيار طبيعة الدولة, فهو امام نموذجين الاول علماني يكون فيه السياسي مجرد موظف لا تسنده هاله مقدسه تحميه من المسائلة والقانون, يتم اختياره بالديمقراطية والانتخاب , يتمتع بحرية التفكير , يزاول العلوم بكل اصنافها , ويكتب الشعر والادب, ويذهب الى السينما والمسارح, يعيش حياته فيه بلا خزعبلات وخرافات , وان يلبس ما يشاء ضمن اطار الآداب العامة. او النموذج الثاني وهو الدولة الثيوقراطية ( الدينية ) المتسلحة بديكتاتورية الحاكم وازليته في الحكم حتى وفاته, وحدود ثابته للتفكير, ولا شعر, ولا ادب,( حتى لو ادعت مكرا” انها تقبل بذلك ولكنها شرعيا حرام) , ولا مسرح حر او سينما, ولا تمد جسور التعايش مع الاخر لأنه كافر يستحق الموت الّا ان يخضع او يدفع الجزية, والكثير الكثير من مظاهر الدولة الدينية.
العلمانية اطار لعمل سياسي يفتح الافاق امام الاجيال لتجد هويتها بنفسها دون ان يكون لعمليات غسل المخ والاخضاع دور فيها, والامه التي لا تجد هويتها في حرية افرادها وتؤمن بعقلية القطيع لن يكتب التاريخ لها منزلة لا لظلم منه لها, بل لأنها ترفض جمع محصلة القوى الذاتية في مسار خطي وتقبل الدوران في حلقات لانهائية من الفشل الوجودي..