23 ديسمبر، 2024 10:32 ص

متى نوقع اتفاقية ويستفاليا العراقية ؟

متى نوقع اتفاقية ويستفاليا العراقية ؟

خرجت اوربا من الحرب العالمية الثانية وهي محطمة ، فلقد حصدت الحرب ارواح الملايين من الناس عدا الجرحى والمعوقيين ، ومعظم ضحايا الحرب كانوا من المدنيين وليسوا من الجنود المشاركيين فعلياً في القتال ، كما دمرت طائرات المتحاربين وجيوشهما الجرارة العشرات من المدن المزدهرة ، ومسحت قرىً واحياءً بكاملها من على وجه الارض ، ومن يشاهد صور المدن الالمانية والبريطانية والروسية المدمرة سيلاحظ حجم الخراب الهائل الذي اصابها خلال الحرب .
بعد انتهاء الحرب مباشرة ظهرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كأقوى دولتين في العالم ، حيث احتلت الجيوش الامريكية النصف الغربي من اوربا ، في حين احتلت فرق الجيش الاحمر نصفها الشرقي ، وما إن مرت بضعة اشهر على إنتهاء المعارك حتى تبين حجم الكارثة التي واجهتها معظم الدول الاوربية ، فالملايين من سكان اوربا بحاجة الى الطعام والسكن والملابس ، بعد أن دمرت الحرب مصانعهم ومساكنهم واراضيهم الزراعية ، وقد انتشر الفقر والجوع والبطالة بين العامة ، كما انتشرت الافكار الماركسية والشيوعية بين اوساط الطبقات الكادحة والوسطى .
كاد الشيوعيون أن يكتسحوا انتخابات ايطاليا عام 1946 ، فتعاونت المخابرات المركزية الامريكية مع الكنيسة واحزاب اليمين المحافظ وعصابات المافيا ووزعت الملايين من الدولارات على الفقراء ، وكان من الطبيعي تخويف العامة من التصويت للشيوعيين ، وذلك بصفتهم علمانيين وكفار ، وإن المسيح ومريم العذراء سيغضبان عليكم إذا صوتم لهم ، في حين إن الرأسماليين ورجال المافيا كلهم كانوا متدينون ورعون ويذهبون للصلاة في الكنيسة كل أحد ؟! ، وهذا مما ادى الى ظهور الحزب الديمقراطي المسيحي كأقوى حزب سياسي مهيمن على الحياة السياسية الايطالية طوال عدة عقود ، واستعمال اليمين الايطالي لكلمة المسيحي كصفة للحزب في بلد متدين مثل ايطاليا كان لتنفير الناس من اليسار بأعتباره علماني وغير متدين ، في حين إن جميع السياسيون الايطاليون بلا استثناء كانوا علمانيين ويرفضون تدخل رجال الدين في الشؤون السياسية .
سعت الولايات المتحدة لأنعاش الاقتصاد الاوربي عبر مشروع مارشال ، والمنسوب الى وزير خارجية الولايات المتحدة يومها ، وذلك لمنع انتشار الافكار الاشتراكية والشيوعية بين الناس بسبب الفقر والجوع ، في حين ادرك اليسار الاشتراكي في اوربا الغربية إن التعاون المرحلي مع الولايات المتحدة والرأسمالية الامريكية ، انفع لهم ولدولهم المحطمة من التمسك بالقيم والافكار الاشتراكية أو الماركسية .
عبر ارسال المساعدات والبضائع الامريكية الى دول اوربا الغربية ، استطاعت الولايات المتحدة من الهيمنة على الاقتصاد الاوربي لقرابة عقدين من الزمن ، واستطاع الاوربيون خلالهما من رفع حقول الالغام والقنابل غير المنفلقة من الحقول والاراضي الزراعية ، واعادة حرث وزراعة جميع الاراضي القابلة للزراعة بسبب الجوع والفقر المدقع اللذان اجبرا ابناء اوربا على البحث عن مصادر للغذاء ، كما إن الرأسمالية الاوربية لم تجلس وتستكين لما اصابها ، بل نهضت لبناء مصانعها القديمة المحطمة . ادى انتعاش الزراعة والصناعة الاوربيتين الى اكتفاء اوربا الغربية زراعياً ، ومنافسة البضائع الاوربية الارخص نسبياً للبضائع الامريكية ، كما إن الكرامة وعزة النفس لدى الاوربي ادى به للسعي حثيثاً للأستغناء عن المعونات الامريكية بصورة عاجلة ، وهو ما ساعد على ظهور السوق الاوربية المشتركة عام 1957 ، والتي صارت تسمى فيما بعد بالاتحاد الاوربي .
نتسائل لماذا نجحت اوربا في اعادة بناء نفسها وفشل سياسيونا في اعادة اعمار العراق ؟؟ ، طبعاً الاسباب كثيرة ومتنوعة ولكن اهمها الهوى والهوية ، فالعراق مكون من اعراق وقوميات متباية ولم تنصهر تحت مسمىً واحد ، ومازال احدنا يصف نفسه بالجبوري والشمري والمحمداوي ولايعتز بكونه عراقي ، ولحد الآن اهوائنا متباينة ومختلفة ولم نتفق على قاسم مشترك واحد يجمع بيننا ، ولم يتفق سياسيونا على ترك ولاءاتهم وانتماءاتهم السابقة وتغليب مصلحة العراق على مصالح دول الجوار ، وطالما السياسي يفكر بتغليب مصلحة عشيرته فلن يحصل في العراق اي استقرار ، فكلمن ده يحود النار لكرصته ، وبقية العشائر لن تسكت لفلان أو علان استئثاره هو واقاربه بالمغانم والاسلاب ، فالديمقراطية برأي العشائريين هي اشتراك جميع العشائر بسرقة خزينة الدولة ، وابعاد ابناء المدن وحملة الشهادات (والمثقفون منهم خاصة) عنها .
نجحت اوربا في بناء نفسها لأنها تركت العشائرية منذ زمن بعيد ، واصبح الانتماء للوطن والمهنة اهم من الانتماء للمدينة أو المحافظة ، فالاوربي يصف نفسه امام الغرباء بصفة طبيب فرنسي ، مهندس ايطالي ، صيدلي الماني ، ودائماً عندما تتكلم بأي لغة اوربية تتقدم جنسية المتحدث على مهنته .
****
في عام 1998 احتفلت دول الاتحاد الاوربي بمرور 350 عام على اتفاقية ويستفاليا ، والتي وقعها جميع امراء المقاطعات الالمانية عام 1648 وانهوا بها الحروب الاهلية بينهم والتي استمرت قرابة ثلاثون عام ، ورغم كون المتقاتلون بأغلبيتهم كانوا من الالمان ، وإن المعارك كلها دارت على الاراضي الالمانية ، فلقد اشترك ملك بولندا وادخل جيشه دفاعاً عن الكاثوليك ، ودخل الجيش السويدي بقيادة الملك دفاعاً عن البروتستانت ، وارسلت ايطاليا والمجر مرتزقتها للقتال لصالح هذا الامير أو ذاك ، كما قامت فرنسا بأرسال المال والسلاح لصالح بعض الامراء الالمان ، لكنها انتزعت مقاطعتي الالزاس واللورين من المانيا وضمتهما للدولة الفرنسية .
لقد كانت اهم بنود هذه الاتفاقية تقضي بمنع الحاكم بفرض مذهبه على الشعب ، وتعهد الشعب بعدم التمرد على الحاكم إذا كان من مذهب مخالف لمذهب اغلبية ابناء الشعب ، وعدم تحريض حاكم أي مقاطعة على خلع اي من غرمائه ، وتعهده بعدم تقديم المال والسلاح لمن يثورون ضد امير مقاطعة آخرى ، وتعهد الدول الاوربية المشاركة في الحرب بعدم تقديم المال والسلاح لمن يحاول التنصل من الاتفاقية ، وبهذه المعاهدة توقفت الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت بشكل نهائي ونالت اوربا الغربية استقراراً طال انتظاره .
نحن بحاجة اليوم الى اتفاقية ويستفاليا عراقية ، يوقعها قادة الكتل النيابية مع كل من ايران والسعودية وقطر وسوريا وتركيا و بقية الدول الشقيقة والصديقة المساهمة بدعم الارهاب والارهابيين في العراق ، يتعهدون بموجبها بالامتناع عن دعم حملة السلاح ، وبجعل العراق دولة مسالمة ومحايدة وإن لايتم تصفية نزاعاتهم وحروبهم فوق اراضيها . ولكي يحصل العراق على الأمن والاستقرار وبشكل نهائي ، علينا الغاء المشاحنات والنزاعات الطائفية ، والتي لايمكن انهائها بدون وضع بند في الدستور ينص على إن العراق دولة علمانية بلا دين أوطائفة أو مذهب ، وأن أي شخص يتحدث عن الطائفة أو المذهب تسحب منه الهوية الانتخابية ويحرم لثلاث سنوات على الاقل من التصويت ، وأن تضع الدولة العراقية في جميع مؤسساتها ودوائرها لافتة كبيرة في مدخل كل بناية يكتب عليها شعار {الدين لله والوطن للجميع} ، وإن رفض الساسة ذلك فأعلموا إنهم يقودون العراق ليصبح صومالاً آخر ، فهم غير مؤمنين أصلاً بوجود وطن اسمه العراق ، فما يهمهم هو نهب خزينة الدولة قبل العودة الى مواطنهم الاصلية التي جاءوا منها .