19 ديسمبر، 2024 11:31 م

متى نتعلم من دروس ثورة الرابع عشر من تموز؟2/1

متى نتعلم من دروس ثورة الرابع عشر من تموز؟2/1

مقدمة:

فيما يلي مقال كتبته عام 2010 قررت إعادة نشره ثانية لأهميته من وجهة نظري؛ حيث لمست إفتقاد التحليل العلمي الصحيح للطائفية لدى معظم المثقفين والمستثقفين والإعلاميين العلمانيين نتيجة تمسكهم بموقف مؤدلج متحجر وحكم مسبق ما مكّن الجهاز الإعلامي الأمريكي من النفاذ إليهم والإستحواذ عليهم وتسخيرهم ضد الديمقراطية العراقية الناشئة وخدمة مصالح إمبريالية، من حيث أدركوا أو لم يدركوا.

هل كان محكوماً على ثورة الرابع عشر من تموز بالفشل ولماذا؟

جوابي المباشر على هذا السؤال: نعم، كان محكوماً على ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 العظيمة بالفشل، وتحديداً بالإغتيال وبشكل وحشي. وأزيد وأقول: ما كان على الثورة أن تنشب أساساً. فبرغم الحاجة الموضوعية إليها، إلا أنها، برأيي، كانت رمية حجر في الظلام كلفت الشعب العراقي الكثير الكثير بما لا يُقاس مع ما أحرزته من نتائج نهائية، وكان بالإمكان حصدُ نفس تلك النتائج النهائية بوسيلة أقل تكلفة بكثير جداً.

لو كانت لدى قادتنا الديمقراطيين والتقدميين الحكمة التي إكتسبها اليوم “حكماء ما بعد الأحداث” لوضعوا المقدمات اللازمة لثورة 14 تموز قبل عشرات السنين من قيامها؛ وإن كان قد فاتهم الإعداد اللازم فما كانوا ليُقْدموا على الثورة. الحقيقة المرة هي أن الأحداث الطاحنة لخمسة عقود وأكثر مضت، لم تجعل إلا القليلين من القادة العراقيين حكماء فما أصعب أن نتوقع الحكمة من القادة الأوائل وهم في بداية الطريق؟

أعتقد أن نقص الحكمة تجلى في غياب التحليل الموضوعي لواقع العراق، ماضياً وحاضراً. وهذا هو الذي دفع الفنان الكبير يوسف العاني لأن يطرح سؤالا هاماً في فضائية “الحرة” خلال شهر أيار المنصرم  (عام 2010) وهو: “لماذا حلَّ بنا ما حلَّ؟” ثم أردف قائلا: “إن بعض مثقفينا لم يجيبوا على هذا السؤال.” (أعتقد أنه قصد “الجميع” ولم يقصد “البعض” أو ربما قصد “البعض” ممن كان يؤمن بهم هو وهم معروفون أي اليساريون).     

كانت الحاجة الموضوعية للثورة ملحة لحل التناقض الصارخ الناجم عن نمو قوى إجتماعية وإرتفاع مستوى الوعي الجماهيري العام، الأمرين اللذين جعلا الشعب والنظام السياسي القائم آنذاك وهو النظام الملكي الطغموي(1) على طرفي نقيض. لذا سرت الثورة، بعد إندلاعها، بين أبناء الشعب العراقي كسريان النار في الهشيم.

غير أن الثورة لم تحسب حساب مقدرتها على مواجهة أعدائها سواءً المطاح بهم، أي الملكيين الذين فقدوا السلطة، أو الجددَ المشاركين فيها وفق برنامج وأهداف مختلفة عن تلك التي تمسك بها قائدها، الزعيم عبد الكريم قاسم، ومؤيدوه الذين شكلوا الغالبية بين صفوف الشعب وقواه الديمقراطية والتقدمية، وداخل القوات المسلحة (بالمستويات المتوسطة والدنيا). لذا إفتقدت الثورة عنصر الديمومة لإفتقادها الشرط اللازم للثبات بوجه الأعداء والمضي قدماً نحو تحقيق أهدافها.

وهذا الشرط المُفتَقَد كان على القوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية تشخيصه قبل تشجيع قادة الثورة على المضي بها ومنحهم الموافقة على تأييدها. وفي الحقيقة كان على تلك القوى إدراك ذلك الشرط منذ زمن بعيد أي منذ تأسيس الدولة العراقية الجديدة لإعداد البيئة الضاغطة الملائمة للتغيير السلمي أو الإصلاح على يد السلطة الملكية ذاتها أو فتح الباب، في حالة عناد السلطة، إلى عمل إنقلابي ثوري مضمون النتائج النهائية.

كانت ثورة الرابع عشر من تموز، بحق، جبارة هزت العالم وأدت إلى دخول قوات أمريكية في لبنان وقوات بريطانية في الأردن لقطع الطريق على أية تداعيات محتملة في المنطقة، وبأمل خنق الثورة إذا ما توفر الظرف الملائم للغرب. كان على القوى الديمقراطية والتقدمية أن تدرك حصول ردود الأفعال تلك منذ وقت طويل وتتخذ الحيطة له لأن الوضع العراقي ومخزون النفط فيه وفي المنطقة والموقع الجغرافي هام جداً في حساب الستراتيجيات العالمية وخاصةً أثناء الحرب الباردة، فهذه ثورة حقيقية وليست مظاهرات أو إحتجاجات أو إنتفاضة أو وثبة. وكان على تلك القوى الوطنية  أن تفطن إلى  أنه حتى إذا  أخفقت القوى الغربية في إجهاض الثورة عسكرياً فهي كانت قد أعدت العدة لإجهاضها لاحقاً بتدابير مختلطة عسكرية داخلية وغير عسكرية هيئت لها سابقاً إضافة إلى تدابير جديدة تلائم أوضاع ما بعد إنتصار الثورة. ولكن لم تكن تلك التدابير هي الحاسمة، بل إنها ساهمت في بناء الحصانة الذاتية للنظام الطغموي.

كحصيلة، حصّن النظام الطغموي الملكي نفسه، كنظام وليس بالضرورة كأشخاص ، تحصيناً جيداً منذ نشأته . 

أما القوى الديمقراطية والتقدمية المعارضة فقد طرحت الاستراتيجيات الصحيحة الواضحة المتمثلة بإستكمال الإستقلال الوطني وتحقيق الديمقراطية الحقيقية والإصلاحات في شتى مناحي الحياة وما إلى ذلك. غير أنها أخفقت في التصدي للوسائل التكتيكية للنظام الطغموي، ومَن وراءه، الذي حصن نفسه بها آخذاً بالإعتبار الحسابات البعيدة.

لقد أفلح النظام وحماته البريطانيون في أمرين تكتيكيين:

الأول: إختيار موضوع التحشيد،

الثاني : إختيار آلة حماية الذات.

الأول: موضوع التحشيد:

عمد النظام الملكي والنظم الطغموية الأخرى التي أعقبته (القومي العارفي والبعثي البكري- الصدامي)  إلى إلتزام الطائفية (2)(غير المعلنة رسمياً) والإيحاء بكون النظام ينتصر للطائفة السنية على حساب الطوائف الأخرى. كما عمد بأكثر صراحة إلى إلتزام العنصرية في نهجه.

مهما كان إيمان وإلتزام المسئولين آنذاك  بالدين والمذهب والقومية إلا أنهم لم يستطيعوا أن يُخفوا حقيقة أن نهجهم هذا كان يُقصد منه شق صفوف الشعب وخلق تعصّبٍ يَصلح لشحن وتحشيد أعوان النظام  حوله. ورغم أن هذا المسعى لم ينطلِ على أغلبية العرب السنة والعرب عموماً إلا أن النظام إستطاع، بخطابات متعددة من هذا النوع، شدَّ طغمٍ من المنتفعين والمؤمنين بالنظام من جميع قوميات وأديان ومذاهب العراق، ينسب متفاوتة، حوله. لقد ضَمَنَ النظام الملكي تشبّعَ معظم القيادات العليا في الدولة، وخاصة قي ألأجهزة العسكرية والأمنية، بهذه العقلية الطغموية الطائفية العنصرية.

من جهتها، ركزت المعارضة الوطنية الديمقراطية والتقدمية على جانب واحد في مواجهتها لطائفية النظام؛ ركزت على أن نشر الطائفية في المجتمع العراقي هو مشروع إمبريالي يقصد منه تفتيت لحمة المجتمع العراقي وإجهاض حركته الديمقراطية والتقدمية المعارضة، وهو خطاب صحيح بطبيعة الحال. إلا أنه لم يُستكمل بطرح شعار يدعو ويضغط بشكل منهجي بإتجاه نبذ الطائفية مع توفير المعلومات والإحصاءات الدامغة حول الموضوع وربطه بموضوع هيمنة الشرائح الإستغلالية على مقدرات البلد، على غرار شعار معارضة الإضطهاد العنصري وإن كانت تعوزه، هو الآخر، مستلزمات المنهجة كالمعلومات والإحصاءات التفصيلية أيضاً.

يمكن أن تُطرح ثلاث تبريرات كانت سائدة لعدم التركيز على القضية الطائفية وهي:

أولاً: إن العراق كان حديث التكوين ما يستلزم إبعاد المسائل المثيرة للفرقة عن مسرحه السياسي.

 

أعتقد أن بريطانيا، راعية النظام الملكي العراقي، كانت تشجع مثل هذه الطروحات لأنها تُبعد الشعب عن ذكريات ثورة العشرين الوطنية الكبرى التي قادتها المرجعيات في كربلاء والنجف.

كما إن هذا التبرير مردود عليه، لأن بناء الدولة وبلورتها على أسس خاطئة كان سيجعل من الدولة كياناً مشوَّهاً غير قابل للإصلاح والتطور ما يؤول إلى تحجر المجتمع وإرتفاع تكاليف النهوض به؛ وقد شهدنا ذلك بوضوح في وأد ثورة الرابع عشر من تموز  حيث لعب العامل الطائفي دوراً تحشيدياً هاماً ضد مسيرتها الديمقراطية وإن كانت المصالح الطبقية تكمن في أساس الصراع. وفي الحقيقة كانت الفرقة موجودة في أعماق المجتمع العراقي إلا أن البوح بها كان محظوراً قسراً بحجة كاذبة وديماغوجية مفادها الحفاظ على الوحدة الوطنية التي كانت صورية. لقد أحلوا الجزء محل الكل وإعتبروه هو الكل سواءً كان الأمر طائفياً أو عنصرياً. 

ثانيا: إن رفع شعار محاربة الطائفية هو تكريس وتعميم للطائفية ذاتها، الأمر الذي يصب في مصلحة النظام وراعيته بريطانيا.

وهذا مردود عليه أيضاً. إذ بهذا المنطق ستُضطر المعارضة إلى دسّ مسائل إجتماعية وإقتصادية وحقوقية كثيرة، كحقوق المرأة مثلاً، تحت البساط مخافة ان تصب في مصلحة النظام لأن هناك كثيرون ممن كانوا يعارضون هذه الحقوق في مجتمع محافظ جداً كالمجتمع العراقي(3).

كان سيصبح هذا الإحتمال وارداً إذا لم تكن المعالجة قائمة على أسس ديمقراطية حضارية تلتزم بحقوق الإنسان؛ أي إذا جرت معالجة الخطأ بالخطأ. فالطائفية لا تُجاب بالطائفية ولا العنصرية بالعنصرية بل بالدعوة إلى مجتمع ديمقراطي قائم على الشفافية وإحترام حقوق الإنسان ومبدأ تكافؤ الفرص ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وهذا ما كانت تؤمن به القوى الديمقراطية والتقدمية المعارضة نظرياً إلا أنها لم تجسده عملياً في مجال معارضة النهج الطائفي للسلطة.

كنتُ، كمواطن ذي إهتمام بالشـأن السياسي، أحد المؤمنين بهذا الطرح، أي بعدم إثارة الموضوع تجنباً للإستغلال السيء له من قبل السلطة القائمة، حتى قبيل سقوط النظام البعثي الطغموي بثلاث سنين تقريباً عندما أيقنتُ، بعد دراسة وتأملٍ مستفيضين، أن رأس ذلك النظام، صدام، كان ينفذ سياسة واعية ومخططة ومبرمجة للتطهير الطائفي والعرقي، دونما معارضة ملموسة من حزبه الطغموي، مستخدماً أساليب في غاية التطرف والإجرام كالتطهير العرقي والطائفي والإبادة الجماعية وإقتراف جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وكلها شهدت عليها المقابر الجماعية التي فاقت الأربعمائة ومازالت الإكتشافات العفوية لمزيد منها قائمة لحد هذا اليوم، كما شهدت عليها أثار حملة الآنفال والسلاح الكيمياوي الذي إستخدمه النظام الطغموي ضد شيوخ ونساء وأطفال مدينة حلبجة الكردستانية وضد الثوار في الأهوار، وشهد عليه القمع العنيف  لإنتفاضة ربيع عام 1991 الشعبانية في وسط وجنوب وكردستان العراق(4).

إن ما حصل بعد سقوط النظام البعثي الطغموي في 9/4/2003 لدليل ساطع على مدى تعويل النظم الطغموية على الشحن والتحشيد الطائفيين. فلما سقط النظام ولم تكن غالبية كوادره القيادية العليا بتلك النزاهة والأمانة والإخلاص للشعب كي تعترف بأخطاء وجرائم حزبهم ونظامهم وتعتذر للجماهير كي يُصار إلى إنهاء الإحتلال خلال فترة قصيرة جداً،  بل أصرت على إسترجاع سلطتها بأي ثمن. ولما كانت تلك الكوادر القيادية على علم بأنها لم تكن قادرة على إقناع أي مواطن عراقي متزن للتعاطف مع نظامها الطغموي ومع طموحها  لإستعادة السلطة ثانية، بدعوى مقاومة المحتل، أثارت تلك القيادات الموضوع الطائفي بأعلى وتيرة مكشوفة ووقاحة متناهية ووضعوا يدهم بيد التكفيريين ولحد هذا اليوم لتنفيذ سياسة التكفيريين المعلنة التي لا ينافقون فيها والمتمثلة بإبادة الشيعة. كل ذلك من أجل تقويض النظام الجديد المتجه نحو الديمقراطية ومحاولة إستعادة السلطة المفقودة.

يشير هذا إلى أن السكوت على طائفية النظام الملكي السعيدي ومن ثم طائفية النظام القومي العارفي قد شجع الطغمويين على الإمعان أكثر وأكثر في سياستهم الطائفية حتى بلغت حد التطهير الطائفي على يد النظام البعثي وخاصة على يد صدام شخصياً، وبلغت بعد سقوطه حدَ التحالف مع قوى تكفيرية داخلية وخارجية مدعومة من دول أجنبية لم تتردد في إعلان سياسة الإبادة التامة والمضي بتنفيذها بكل خسة وسفالة. حتى خلال هذا اليوم 8/7/2010 والذي سبقه سقط 68 شهيداً وما يزيد على 400 جريحاً من زوار الكاظمية بمناسبة دينية شيعية كفل شرعية الإحتفال بها الدستور العراقي والبيان العالمي لحقوق الإنسان واللوائح الأخرى الصادرة عن الأمم المتحدة.

إن ما شهدناه خلال السنين السبع المنصرمة من جرائم لا يمكن تخيل وحشيتها، لم تكن وليدة اليوم أو البارحة. إنها تعكس شحناً وتحشيداً متراكماً دفيناً يمتد إلى الأيام الأولى لتشكيل الدولة العراقية الحديثة. ولم يجرِ فضحه بالقدر الكافي فإزداد حدة ووحشية وإستهتاراً خاصة عند المنعطفات كإقتراب الجماهير الديمقراطية من تحقيق نوع من التوازن والعدالة الإجتماعية والسياسية كما حصل أيام ثورة 14 تموز عام 1958 المجيدة.

ثالثاً: إن طرح شعار المطالبة بديمقراطية حقيقية من قبل أطراف المعارضة العراقية كان شعاراً شاملاً يغطي ضمناً القضية الطائفية.

لكن ليس كل من يقرأ شعاراً يدرك كاملَ أبعاده السياسية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها، خاصة بالنسبة للجماهير العريضة محدودة الثقافة، إضافة إلى إفتقاد الشفافية في المجتمع العراقي منذ نشأته حتى 9/4/2003 وهيمنة الحكومات على وسائل الإعلام بنهجها المعروف بتشويه الحقائق لصالح السلطة.

والأهم هي القدرة التنويرية والتحريضية والتأجيجية والتحشيدية للشعار. فكلما كان الشعار أكثر تخصصاً أصبح أقرب إلى إدراك الجماهير وأكثر ملامسة لمعاناتها المادية أو الفكرية أو النفسية وبالتالي يكون أكثر فاعلية في نفس المتلقي ونشاطه السياسي.

أسوق مثلاً  على قصور التثقيف الديمقراطي التقدمي المعارض في فضح طائفية النظم الطغموية منذ أيامها الآولى ما أدى إلى تمكّن ثقافة تلك النظم من النفاذ إلى أعداد غير قليلة حتى من الشرائح المثقفة التقدمية الواعية وإلى يومنا هذا. فما بالك بدورها في أوساط الطغمويين أنفسهم؟

 قبل أشهر قليلة أطلقت، عبر فضائية “الحرة”، الناشطة في مجال حقوق المرأة السيدة (هـناء أدور)، أطلقت تصريحاً خطيراً قالت فيه إنها لم تعرف الطائفية في حياتها إلا الآن، وهي قد تركت الموصل وعمرها (16) عاماً. لا أريد أن أخوض بالتفصيل لإثبات طائفية النظم الطغموية سواءً الملكي أو القومي  أو البعثي إذ سبق لي أن نشرت مساهمة بهذا الصدد في صحيفة “صوت العراق” الإلكترونية في الشهر العاشر من عام 2006. إلا أنني أذكّر السيدة المذكورة بحدثين فقط لبيان مدى بعدها عن الواقع. نشرت صحيفة “القوش” الإلكترونية قبل أيام أن السلطات المختصة وافقت على إقامة نصب تذكاري للمناضل الشيوعي توما توماس. هذا أيام “الطائفية”. أما أيام “اللاطائفية” فقد أوشك النظام البعثي الطغموي على تدريس القرآن الكريم في مدارس القوش التي لا تضم طالباً مسلماً واحداً في صفوفها لأنها مناطق مسيحية خالصة، لولا التدخلات الخارجية (وليست الداخلية لأنها ليست ذات قيمة في حساب البعث) . أليست دليلاً كافياً على الطائفية حملةُ التطهير الطائفي ومنها دخول دبابات حسين كامل إلى النجف لقمع الإنتفاضة الشعبانية وهي ترفع اللافتات والملصقات على الدبابات وتبث النداءات أن “لا شيعة بعد اليوم”؟

الثاني: إختيار آلة حماية الذات:

حرص النظام الملكي الطغموي كل الحرص على أن يحتكر أجهزة الدولة لنفسه ولسلطته بهدف حمايتها من الضغوط الشعبية التي  كانت تتأجج بين آونة وأخرى بسبب السياسات اللاديمقراطية للحكومات المتعاقبة ذاتها؛ بينما كان يُفترض في تلك الأجهزة أن تكون محايدة وموجهة لخدمة المجتمع بأكمله. كان الإحتكار أشد وضوحاً ووطأة في  القوات المسلحة من شرطة وجيش وفي القوى الأمنية. ولم يكن ذلك من دون سبب.

هذه مسألة أخرى لم تولِها قوى المعارضة أهميتها المنهجية التفصيلية اللازمة خارج المطالبة العامة المُتَضَمَّنة في شعار المطالبة بديمقراطية حقيقية وخارج الشعارات الآنية في بعض التظاهرات حيث إنطلق هتاف في ساحة السباع ببغداد أو شارع الرشيد ربما في وثبة عام 1948 يقول “عاش الجيش عدا ضباطه الكبار”. إذ كان عليها أن تطالب وتلح بصورة منهجية على وجوب تحقيق حيادية الأجهزة العسكرية والأمنية ووجوب التوقف عن ضخ الثقافة والنَفَسِ الطائفيين فيها وفسح المجال أمام المواطنين من كافة الطوائف للمشاركة في تسنم المناصب القيادية العليا المسئولة عن وضع الخطط  بكافة تفرعاتها ومستوياتها.

أعود وأقول مرة أخرى إن تخصيص موضوع الشعار يجعله أقرب إلى فهم الجماهير وأكثر قبولاً لديها وأشد دفعاً لها للعمل لأنها تتلمس  مصداقيته عند مقابلته مع ما يجري على أرض الواقع.

في الحقيقة ، من أهم الشعارات التي طرحها الحزب الشيوعي العراقي بعد نجاح ثورة الرابع عشر من تموز كان شعار المطالبة ب ” تطهير أجهزة الدولة” مع تركيز خاص على تطهير الأجهزة الأمنية.  غير أن هذا المطلب جاء متأخراً بعشرات السنين، لذا كان ذا مردود عملي محدود جداً لآن الفاسدين المطلوب إقصاؤهم تمكنوا من التحرك ضد الثورة قبل أن تتمكن هي من التحرك عليهم وهو أمر مفهوم لأن تحشيدهم جاهز بينما تحشيد الثورة ضدهم يحتاج إلى وقت طويل أضاعه الديمقراطيون والتقدميون سلفاً.

لبيان أهمية الجيش السابق للطغمويين، قديماً وحديثاً، وتعويلهم عليه، نجدهم اليوم يولولون عليه ليل نهار وما زالوا، ويطالبون بإعادته. وهناك منهم، من يريد تحويل الجيش الجديد إلى نسخة من القديم عبر ذريعة “المصالحة” المفصلة على قياسهم وعلى قياس المصالح الأمريكية وليس على  قياس المصلحة العامة . لا تقف وراء ذلك عاطفة أو حرص منهم على ضبط الأمن لأنهم هم أصل البلاء الإرهابي. بإعتقادي، تتضح النوايا أكثر وأكثر إذا ما سألنا أنفسنا: لماذا يعارض الطغمويون النظام الفيدرالي وقانون الأقاليم؟ هل السبب حقاً يكمن في الخوف من تقسيم العراق؟ لا أعتقد ذلك. بل أعتقد أنهم لا يريدون توزيع السلطة والمسئوليات ولا يريدون تعدد مراكز القرار في العراق؛ بل يريدون عراقاً مركزياً تتركز السلطة السياسية فيه بيد حفنة من السياسيين الذين يشكلون الحكومة ، وتتركز القوة الضاربة والحاسمة في البلد بيد جيش مركزي يتبع لمركز قرار واحد يمكن أن يسيطر عليه متآمرون، بإنقلاب عسكري، يحبسون الحكومة ويحلون مجلس النواب، مهما كان لونهما، ويعلنون الأحكام العرفية ويحذرون ” كل من تسوِّل له نفسه بالعبث بالأمن العام بالسحق الماحق بالدبابات والطائرات” كما يعيدون قراءة البيان رقم 13 الذي أصدروه صبيحة 8 شباط  1963 الآسود الذي خؤّلوا فيه “الرفاق” “حق تصفية كل من يهدد الأمن العام”. وهكذا تعود حليمة إلى عادتها القديمة.

                              ـ ـ ـ ـ     ـ ـ ـ ـ     ـ ـ ـ ـ    

إن النظام الملكي بنهجه هذا قد بذر البذرة الأولى للنظام الطغموي، الذي بيَّنتُ سماته وتطوراته في الهامش (1) أدناه، وقد أثبت فاعليته السامة المدمرة على العراق في المراحل اللاحقة من حياته السياسية التي  رغم تبدل الأشخاص والحكومات وشكل النظام فيها لكنها شهدت إحتفاظ النظم، التي نشأت، بالجوهر المعادي للشعب حتى أوصلوا العراق إلى هذا الوضع المزري الذي بلغه بسبب سلسلة الإنقلابات الطغموية البينية والحروب التي زجه بها النظام البعثي الطغموي وبسبب الحصار الظالم على الشعب الذي أوقعه بالعراقيين ومن ثم تَسَبُّبِهِ بالإحتلال عام 2003 الذي حرر العراق من عبوديته الطغموية البعثية ولكن بثمن باهض إضافي.

الخلاصة:

لقد كانت قيادات الجيش والأمن بيد السلطة الطغموية بمختلف شرائحها وإصطفافاتها التي تتناحر فيما بينها ولكنها موحدة أمام الشعب والقضية الديمقراطية. كانت معبأة ومحشدة، وهذه هي القوى الحاسمة في المجتمع العراقي تحت الظروف الداخلية والخارجية السائدة آنئذ. وقد تحرك الضباط الأحرار بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه وفق منظور معين لآفاق الثورة، وتحركَ معهم أيضا شركاؤهم من ضباط  قوميين وبعثيين، وهم من طغمويي الخط الثاني من الحكم الملكي، تحركوا وفق منظور آخر أساسه تأثير المد القومي الناصري وبإندفاع عاطفي وشعارات غامضة وفجة حول الوحدة العربية وتحرير فلسطين، ولم يكن لدى هذا الفريق أدنى إهتمام بالإصلاح الديمقراطي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي وغير ذلك؛ خاصةً وأن المحتوى الإجتماعي  للثورة المصرية ، بعد أن حُسمت قيادتها لصالح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لم تكن قد وَضُحَتْ بعد. وأغلب الظن أنهم ما كانوا ليهتموا بها ، إذ أن همهم الأول كما أظهرت التجربة العملية إنصبت على المغامرة وإستلام الحكم وإطلاق شعارات رنانة دعائية غير جادة أساءوا لمحتواها النبيل وجعلوها موضع سخرية الجماهير؛ كما ورطوا وأساءوا لسمعة الرجل الوطني والقومي الكبير جمال عبد الناصر (5). 

ولما إقتحم الزعيم عبد الكريم قاسم ومؤيدوه الميادين الإجتماعية والإقتصادية وغيرها، وخاصة الميدان الديمقراطي وبالأخص التقليل من وطأة الإقصاء الطائفي في كليتي الشرطة والعسكرية، إستفز ذلك الحِسَّيْن الطائفي والعنصري المشحونِ بهما الطغمويون ودق نواقيس الخطر على مصالحهم الطبقية الأمر الذي جعل الطغمويين يرتعبون من إحتمال فقدان السلطة الطغموية برمتها وإجتثاثها من الجذور (كما حصل على يد الأمريكيين في 9/4/2003 ولكن لدوافع أخرى)، لذا سرعان ما تفجرت براكين الشحن الطائفي والإستنفار والتحشد وأصبح الإصطدام التآمري حتمياً؛ وقد حصل، فعلاً، بأعنف صيغة إجرامية في 8 شباط الأسود عام 1963 بدعم من وكالة الإستخبارات المركزية كما فضحتها صحف أوربية عديدة وإعترف بها في حينه أمين سر القطر لحزب البعث العربي الإشتراكي علي صالج السعدي.

 لو درسنا، بتمعن وموضوعية، موازين القوى داخل العراق وخارجه في المحيط أو العالم، لما أخفقنا في الوصول إلى نتيجة مفادها حتمية إغتيال ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة على أيدي أصحاب مصالح ومنافع طبقية مغلفة تكتيكياً بشحن وتحشيد طائفي عنصري تشبعت بهما الأجهزة الضاربة الحاسمة في المجتمع العراقي آنذاك مدعومة بقوى خارجية إقليمية وعالمية. ولو تحرك اليسار، وكان يمتلك قوة جماهيرية واسعة ولكنها غير مؤهلة لمثل هذه الخطوة، وإستلم السلطة لكانت النتيجة، بإعتقادي، أكثر كارثية من الكارثة الحقيقية التي حصلت بدءاً من صبيحة 8 شباط 1963 الأسود حتى 9/4/2003، كما أثبتت التجارب اللاحقة في أفغانستان والعراق نفسه.

ولما  لم يكن الإعداد لقيام الثورة بالقدر الكافي، كان من الملائم النضال لدفع النظام الملكي نحو الإصلاح الديمقراطي وكان تشديد هكذا نضال ممكناً لطبيعة النظام الأقل شراسة بما لا يقاس مع شراسة النظام البعثي المتوحش والمنفلت من أي إلتزام حقوقي أو حضاري أو إنساني بينما كان النظام الملكي واقعاً في إطار الرعاية البريطانية التي كانت حكوماتها تهوِّن، بين الفينة والأخرى، من تطرف الحكومات العراقية بدفع من نواب في الجناح اليساري في حزب العمال المعارض الذين كانوا، بدورهم، يستمعون ويتعاطفون، بهذا القدر أو ذاك، مع وجهات نظر المعارضة العراقية الديمقراطية واليسارية (6).

كان من المحتمل أن يقود ذلك إلى نتائج إيجابية مقاربة لما حصدنا على أرض الواقع لحد اليوم ولكن مع تفادي أبشع وأقسى وأعنف التجارب وأكثرها دموية في المنطقة ومن بين القلائل على الصعيد العالمي في هذه المعايير المأساوية.

وحتى لو لم تستجب السلطة الملكية الطغموية للمطالب الشعبية الديمقراطية وعلى رأسها القضاء على النهج الطائفي العنصري، وهو الإحتمال الأغلب، لقاد ذلك إلى تغيير ثوري شعبي أو عسكري أكثر نضوجاً وإقناعاً  للجماهير والعالم على أرضيةٍ يكون فيها الفكر الطائفي والعنصري أكثر إفتضاحاً وعزلة بين الجماهير والقوات المسلحة والأمنية.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2): للإطلاع على “مفاتيح فهم وترقية الوضع العراقي”  بمفرداته:  “النظم الطغموية حكمتْ العراق منذ تأسيسه” و “الطائفية” و “الوطنية” راجع أحد الروابط التالية رجاءً:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=298995

http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=14181

 

(3): يُلاحظ وجود مفارقة في طبيعة الشعب العراقي حيث إنه محافظ جداً من الناحية الإجتماعية، بينما هو تقدمي لحد التطرف أحياناً في تقبل الأفكار اليسارية، علماً أن المحن الطاحنة التي تعرض لها خاصة منذ إنقلاب 8 شباط الأسود ولحد الآن قد ليَّنت من عريكته وجعلت الفجوة تضيق ويميل المؤشر لهذه الناحية في بعض القضايا ولتلك الناحية في قضايا أخرى. 

(4): قدّرت المصادر الكردية بأن عدد ضحايا حملة الأنفال بلغ (182) ألف شهيد، وقدرته المصادر الأمريكية ب (72) ألف شهيد. أما ضحايا القصف الكيمياوي لحلبجة فقد أجمعت المصادر العراقية المعارضة والأجنبية على أن الضربة الآولى أودت بحياة (5000) شهيداً. أما عدد ضحايا قمع الإنتفاضة الشعبانية في الوسط والجنوب فقد قدرته مصادر المعارضة العراقية بما يزيد على الربع مليون شهيداً. أما المصادر الأمريكية فقد قدرته ب (22) ألف  شهيد. أعتقد أن المصادر العراقية أقرب إلى الدقة.

(5): بالطبع هذا لا يعني نسيان العيوب الجادة في النظام الناصري وأهمها غياب الديمقراطية وعدم الإعتماد على الجماهير في النشاط العام، ودعمه للنشاطات التآمرية كإسلوب لتحقيق الوحدة العربية.

(6): لابد من التنويه إلى الدور البارز والمشرِّف الذي لعبته “جمعية الطلبة العراقيين في المملكة المتحدة” بهذا الخصوص. فرغم صبغتها اليسارية وحقيقة كون الطلبة الشيوعيين في مقدمة من قدموا التضحيات لبقاء الجمعية على قيد الحياة في وجه الضغوط الشديدة للحكومة العراقية وسفارتها في لندن، إلا أن الجمعية، بحق، كانت تنطق بإسم جميع القوى الديمقراطية واليسارية المعارضة وتوصل وجهات نظرهم إلى الأحزاب والنواب والسياسيين والصحف البريطانية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات