هذا الشعار ليس بالضد من أهل السنة والجماعة في العراق -كما قد يتوهم- ولذا وضعته بين علامتي أقتباس. هو لا يصف العراق مذهبيا “شيعيا” بقدر ما هو يصف التوجه الساسي العام والغالب للعراق (الأسلامي) خلال العديد من مراحله التاريخية منذ عهد الخلافة الراشدة الى ستينيات القرن العشرين. هذا العنوان مناظر للقول بأن سوريا أو الشام كانت “أموية” و أيران “صفوية” و مصر “فاطمية” (أو كانت فاطمية) و اليمن دولة “زيدية” والحجاز أمارة “هاشمية”. فكل هذه “يافطات” عريضة ولا تحدد مذاهب الدول بل تحدد توجها أيدلوجيا كان سائدا أو حاز أغلبية واضحة أو بسيطة في فترة ما من حياة تلك الشعوب. بعض هذه التسميات محيت أوتبدلت منذ مئات السنين وبعضها ظل قائما الى فترة الثورات القومية العربية في خمسينيات وستينات القرن الماضي. الأوصاف أعلاه مثلها كمثل وصف الولايات المتحدة بكونها ديمقراطية التوجه (بضد الجمهوريين)
في فترة ما أو وصف بريطانيا بأنها عمالية (بضد المحافظين) خلال فترة معينة. فهو لا يعني أن جميع الاميركين منتمين للحزب الديمقراطي أو أنهم مؤيدين له تأييدا مطلقا بقدر ما أن هواهم -في مرحلة محددة- كان ديمقراطي التوجه بأغلبية مريحة مع وجود فئات محايدة وفئات بالضد من هذا التوجه, بشرط أن يكون لدى المحايدين رضا عام من تولي الديمقراطيين للسلطة وألا فلن يكون ممكنا وضع اليافطة أعلاه. والشرط الاخر, هو أن تكون هذه الأغلبية مختلطة الأعراق, أي أنها تحوي الأميركيين البيض واللاتينين وذوي الأصول الافريقية ولكن بنسب متفاوتة طبعا. كذلك أمكن وصف العراق بالعلوي لان جميع فئاته المذهبية في أغلب فتراته كانت مع خط أهل البيت من العلويين أو من الهاشميين عموما في مواجهة التيارات الأخرى مع وجود حياد أيجابي لدى باقي الفئات. و طبعا أهل “السنة” في العراق كانوا ومازالوا جزء من هذا التوجه العام ولكن نسبتهم تنقص أو تزيد حسب نوع الصراع القائم علما أن الجزء المفتقد كان يفضل الحياد على أن يضع نفسه عدوا لخط أهل البيت ( بأستثناء أختيار بعض الاشخاص أو المجموعات السعي نحو مصالحهم وأطماعهم السلطوية). لذا فالمقال ليس أتهام ولا مدح أو ذم للبعض لأنني لست بصدد تحديد أي التوجهات هي حق و أيها باطل بل الهدف تقديم نظرة تحليلية مجردة (قدر الأمكان). وفي هذا المقام, تأتي سامراء أو “سر من رأى” التي كانت لمئات السنين, ولفترة قريبة رمزا للعراق “العلوي” كتوجه سياسي في مقابل النجف التي مثلت الخط العلوي دينيا (أو مذهبيا لو أردنا التخصيص) و الكوفة التي مثلت في مرحلة من المراحل العراق العلوي أداريا حين كانت حاضرة الخليفة علي بن أبي طالب. لذا فالخط العلوي في العراق ذاتي أصيل وليس وافد بتأثير سلطة الحاكم كالتشيع في أيران أو في مصر الفاطمية. فلنتعرف على سامراء كما أراها أنا والكثير من العراقيين ومن ثم نعود للمحور الأساسي للمقال.
سامراء, كمدينة, تأسست بقرار من المعتصم بالله , الخليفة العباسي, كعاصمة بديلة أو أضافية لبغداد. وهي شيدت تحت مسمى “سر من رأى” ومن أسمائها الاخرى معسكر أو عسكر ومنها جاء لقب الأمام الحسن العسكري وما زال كثير من أهلها يفتخرون بنسبهم العلوي أو الهاشمي عموما. لكن “سر من رأى” تبوأت لاحقا مكانة لا تليق بها كعاصمة سابقة لدولة مترامية الأطراف , أذ تحولت لتصير “ساء من رأى” بسبب هجرة الكثير من أهلها بعد تحول الخلافة الى بغداد مرة أخرى ولصعوبة الوصول لماء دجلة كونها على مرتفع و عوامل أخرى ناقشها المؤرخون – فأسم سامراء الحالي هو ليس تحويرا لأسم “سر من رأى” بل هو أتى من “ساء من رأى” أو “ساء من راء”, ولأن العرب وخصوصا في الشام والحجاز تميل لعدم لفظ الهمزة المتأخرة كما في “صحرا”. لذا, سقطت همزة “ساء” ومن ثم أدغام نون “من” و الراء التي بعدها عند النطق بها متصلة وتعوض بتشديد الراء لتصبح “سا مرّاء”. ولا أدري كيف لم يعمل العراقيون وأهل سامراء خصوصا على أرجاع الأسم القديم(ساذكر لاحقا متى يمكن أرجاعه).
عموما ,ما ساهم بالحفاظ على سامراء من الأندثار نهائيا كحال العديد من المدن القديمة التي بقيت مجرد أطلال هو وجود مرقد الأمامين الحسن العسكري وعلي الهادي ومقام الأمام المهدي ومراقد علوية أخرى. هذه الحضرة الواسعة والتي ظلت عامرة البنيان لمئات السنين قد جذبت الزوار لسامراء وترتب عليها حركة تجارية و الأهم أن الحضرة العسكرية كانت العلة لوجود مدرسة دينية شيعية “حوزة مصغرة” جذبت لها طلبة علوم دينية الى وقت ثورة العشرين وكان من أبرز المراجع الشيعة فيها انذاك الميرزا محمد الشيرازي صاحب فتوى التنباك الشهيرة والذي عاصر أحداث الثورة العراقية الكبرى و تشكيل نواة الدولة العراقية لاحقا. هذا الرأي ليس تجنيا من عندي على سامراء وليس منة على أهلها الكرام بل العكس فهو فضل لهم على العراق ومثال للتسامح الديني جعلهم يحتضنون هذه النواة في داخل سور مدينتهم بينما لفظوا جامع المتوكل الكبير ومأذنته الملوية الشهيرة التي مثلت أطلال السلطة مهجورا خارج السور.من ناحية الجغرافية السياسية, فأن فضل أحتضان سامراء -وهي في شمالي بغداد- للحضرة العسكرية
ولمدرسة دينية له تميز جيوبوليتيكي على وضع النجف و كربلاء أو حتى الكاظمية. قد يكون الكلام ليس دقيقا تاريخيا لوجود عوامل أخرى مؤثرة ولكن هو تحليل واقعي لابد أن يصل اليه من يتأمل الصورة في الرابط أدناه لسامراء في عشرينيات القرن المنصرم – أنتبه أنها ليست لصورة تعود لمئات السنين بل قبل لأقل من قرن.
https://goo.gl/kdSMf1
أرجو التامل في هذه البلدة الدائرية أو البيضاوية التي لايتجاوز نصف قطرها 400 مترا وتشغل الحضرة العسكرية قطب الرحى منها. هل يستطيع منصف أن يصرح بأن العتبة العسكرية هامشية الدور في وجود هذه المدينة – علما كيف لنا أن نتخيل حجم البلدة في القرن التاسع عشر أو ما قبله- داخل سور هذه البلدة كان يوجد مراقد الأئمة ومسجد المدينة وبيوت أهالي سامراء فقط ولم يكن هناك مقرات جيش للحماية ولا وقف شيعي لأدارة العتبة وطبعا لم تكن هناك مجاميع مسلحة “مليشيا” شيعية ولا حكومة أحزاب أسلامية شيعية لفرض الأمر الواقع. لذلك قلت أن الولاء العلوي في العراق هو ذاتي أصليا ينبع عن أختيار ورغبة وليس دخيلا فرض بقوة ما كباقي الدول. عندما حارب علي بن أبي طالب بجيش عراقي أهل الشام بقيادة معاوية لم يكن أهل العراق شيعة بالمعنى الفقهي التعبدي كما لم يكونوا سنة أيضا. وكذلك في حرب خلافة الحسن بن علي القصيرة. وفي كل المحن والفتن التي مرت على العراق حين كانت السلطة الأموية ترسل أقسى الولاة و أغلظهم لأهل العراق (أتكلم عن العراق العربي حينها وهو من جبال حمرين الى الخليج). ومن ثم أختار أهل العراق الوقوف مع الدعوة العباسية التي كان شعارها الرضا من أل محمد وكان ظاهرا أنها تخطط لعودة الخلافة لأبناء علي أو أحد أبناء عمومتهم. وأحتضن العراق عاصمة العباسيين (الكوفة و الهاشمية أولا ومن ثم بغداد) دونا عن باقي ولايات الدولة الاسلامية. أخي العراقي لم يكن هنالك سنة وشيعة في العراق الا بقدر حاجة الفرد المتعبد للفقه والشريعة ولكن أيدلوجيا تياره وهواه علوي. هذا الهوى بدأ مع تاسيس الكوفة التي أستوطنتها قبائل يمانية علوية الهوى أضافة للقبائل المحيطة من ربيعة ومضر. ومن المظاهر أيضا أنتشار التصوف كنهج لدى جزء كبير من السنة في العراق ولا يخفى أرتباط الطرق الصوفية بأئمة اهل البيت وأيمانهم بجواز التوسل وزيارة مراقد الأولياء الصالحين. و ليس من باب الصدفة أيضا أندثار المذهب الحنبلي (المتشدد نسبيا) في العراق رغم أن مؤسسه ولد ونشأ وتوفي في بغداد لكنه وجد بيئة خصبة في منطقة نجد و حدود العراق الجنوبية. والمراقب يلاحظ أنه الى حد سبعينيات القرن العشرين كانت أسماء علي و حسن و حسين لأبناء السنة في العراق تفوق بكثير أسماء عمر وعثمان ولهذا أكثر من يحمل مسمى عمر اليوم هم من الشباب وليسوا من كبار السن (لا اقصد أبدا التقليل من شان الخليفتين بقدر ما أهدف لتشخيص الواقع).
الصورة في الرابط أعلاه أبكتني سابقا وأنا أتامل بها قبل عقد من الزمن في أيام التفجير المشؤوم الذي أذن بتحول العراق الى ساحة صراع بين خط علوي أصيل وأخر أموي وافد بعد أن سبقته عدة تحولات مفصلية في التواريخ التالية: 1968 , 1980, و 2003. التحول الأول في التاريخ المعاصركان بعد مجيء حزب البعث للسلطة في 1968 و من ثم الثورة الاسلامية “الشيعية” في أيران والحرب العراقية-الأيرانية جعلت نظام صدام يتخبط فيتصرف حينا كسلطان عثماني مقابل دولة صفوية و حينا كأمير عربي ضد دولة فارسية وحينا اخر كخليفة أسلامي ضد دولة مجوسية مشركة. أدى ذلك لخلط الأيدلوجيات لدى النخبة الحاكمة والتي أنعكست بعد عقود على تفكير الفرد العراقي (بمختلف مذاهبه) وخلطت المفاهيم لديه وأخرجته من فطرته وخطه العام الأول الذي مثل الأاعتدال في الاسلام السياسي. وطبعا تغلغل التيار السلفي المناقض للتشيع وللتصوف السني والذي مثل ذراعا سياسيا لعدد من الدول والأنظمة في المنطقة. مضافا لذلك تخبط حكومات مابعد الأحتلال الأميركي التي فشلت في تحقيق مشاركة شعبية وقاعدة جماهيرية واسعة لها وفشلت في طمأنة “السنة” وكسب تأييدهم الفعلي لبرامجها المقبلة. هذا كله جعل كثير من أهل السنة في العراق -وليس كلهم- يشعرون أن نزعة التوجه العلوي لم تعد عادلة لهم ولم تعد تمثل تسامحا من جهتهم بقدر ما هي تنازل وخنوع قد يؤدي لمسخ هويتهم و أحتلالهم سياسيا و دينيا. وهذا غيض من فيض لأن الحديث في هذا الشأن هو ذي شجون ولكن أعود لأقول أن سامراء ممكن أن تعود قبلة العراق لو أستطاعت أحتواء العتبة العسكرية والزوار الشيعة أختيارا لا فرضا كما كانت من قبل.
ملاحظة: أذا لم يعمل الرابط الخاص بالصورة فيكفي كتابة “سامراء قديما” في محرك البحث للحصول عليها.