امام الأنتخابات القادمة خمسة اشهر تقريباً , واطراف العملية السياسية تتنافس وكأن الأمر محسوماً لتقاسم اصوات الناخبين, تتحاصص وتتوافق من داخلها حول مرشح الرئأسة واخرى تضع رئأسة مجلس النواب في جيبها وشهيتها مفتوحة للأستحواذ على رئأسة الجمهورية , وصراع آخرعلى رئأسة الوزراء , هكذا يبدو المشهد بائساً مهيناً للعراقيين مستخفاً بوعي وارادة الرأي العام , وكأن العراق اصبح غير قادر على تخصيب مجتمعه لولادة تيارات وقيادات وطنية نزيهة كفؤة .
هكذا يفسر المجذوبون, على ان العراقيين استسلموا لغيبوبة الأحباط واليأس تماماً مشدودين الى وتـد الأختراقات الخارجية والتبعية للمرتشين وعبودية للمقدسات غير المقدسة , اوهاماً تتكرر نتائجها حفـر لمكبات الحثالات, نموذجها الأخير كان الأغبر صدام حسين , دروساً لا يستوعبها الطارئون على التاريخ الحضاري للمجتمع العراقي .
عندما يكتسب الوهم في عقل الجاهل صورة الحقيقة , يغرق في تفصيلات سذاجته ويصبح عاجزاً عن فهم الرفض الصامت للرأي العام , ومن اجل ان يصدق نفسه على ان انتفاخه عافية وليس ورماً , قائد ضرورة لا بديل له , وانه الفخامة والدولة والسعادة والسماحة وحجة للأسلام والمسلمين , يلجأ لترقيع عوراته عبر تأجير ما هم تحت الطلب من طبالين ومداحين ورداحين , الى جانب تكثيف سخافاته المملة, خطابات واستعراضات وبهلوانيات تعزز مواقع انهياراته النفسية والروحية والمعنوية التي تحاصره في زاوية نهاياته .
لا ننكر , ان العراق الغني بتاريخه وحضاراته , الفريد بجغرافيته وثرواته المميز برواده, متورط ( مع الأسف ) بوفرة سفلته ودلاليه وعملائه , ادوات محلية يعبر على ظهرها الطامعون والمتدخلون والمحتلون , وطن اصبحت قومياته لا تشبه القوميات , واديانه لا تشبه الأديان , وطوائفه ومذاهبه خارج المألوف وحتى مدعي يساريته وعلمانيته وليبراليته , اصبحت معروضات مستهلكة مرخصة للتأجير .
محنة الوطن ومأزق العراقيين , مزدوجة خارجياً وداخلياً , مركبة قومياً وطائفياً متأصلة في جغرافيته واقتصاده, المخرج ليس سهلاً كما انه ليس مستحيلاً , يبدأ من حيث وعي الناس لحقيقتهم التاريخية, وادراكهم لماهيتهم وامساكهم بعروة هويتهم الوطنية المشتركة , ليتخذوا من مشروعهم الوطني دليل عمل واعادة بناء .
ليكن المواطن ما يكن من حيث الميول نحو الفرعي للقومية والطائفة والمذهب والمعتقد , لكن وبالضرورة , يجب ان يبقى منبعه ومصبه العراق وطناً, وشرايين وجوده لا تقبل بديلاً عن دماء الوطنية العراقية , ومهما كانت دوافعه وعواطفه الأنسانية ميالة لممارسة حقه من داخل خصوصياته وهوياته الفرعية , فينبغي دائماً ان يبقى مؤمناً بأن الهوية الوطنية العراقية اطاره العام , يحتمي بها وتزدهر فيها قضاياه , فدون الأستقواء بالهوية الرئيسية المشتركة, وتعزيز مواقع الأنسان العراقي من داخلها , سوف لن يكون لهوياته الفرعية وخصوصياته سنداً تحتمي بها من عوائد المتدخلون , بعدها يتم استئجار ضعفها وهامشيتها اقليمياً ودولياً واستخدامها ادوات لأشعال الفتن الداخلية وحرق علاقات التآخي وروابط المحبة ورغبة التعايش السلمي بين المكونات التاريخية للمجتمع العراقي .
العراقيون يملكون الآن هامشاً متواضعاً من الحريات الديمقراطية , ورغم محاولات التشويه والتسويف وحيل التزوير للأطراف المصرة على ان تبقى المستأثر الأكبر لمراكز السلطة ومصادر الثروة , يبقى الهامش قائم , وعلى الحركة الجماهيرية والرأي العام والوطنيين المخلصين ان يتحملوا مسؤوليتهم ويمارسوا ادوارهم عبر صناديق الأقتراع للعملية الأنتخابية حصراً ـــ وبعيداً عن تخريفات الأسقاط ـــ يغيروا مسيرة العراق بأتجاه مستقبل اهله , ويسدوا ما استطاعوا من الثغرات والمنافذ التي قد يتسلل منها ثانية لصوص المرحلة وحثالاتها , حراك مجتمعي وطني , لا مكان فيه لقوى الردة والمزايدون من تحت جلدها .
المصالحة بين المصالح العليا للشعب والوطن , ومصالح حثالات الفساد والتبعية والتواطيء مع الأرهاب على حساب الدم العراقي, انتهت الى طريق مسدود , وان المشاريع الطائفية العرقية , قد اصبحت مستنقعات لا تنتهي مجاريها الى الى حفر العار والخراب الروحي والأخلاق والأجتماعي , ولم يعد اجترارها بأنشائيات خطابية ووعضية مخرجاً , انه هروب الى الأمام سينتهي الى الهاوية حتماً , هنا لم يعد الوقت كافياً للذين لا زال يوجعهم عتب الوطنية العراقية , عليهم ان يبتعدوا عن جرف المأزق ويحرروا ضمائرهم من معاناة التردد والترقب السلبي , فخيمة العملية السياسية قد انهكت عافية القضية العراقية , انها الآن تجتر فضلاتها وتتنفس روائح روث التبعية والعمالة ـــ والخيانة ـــ تلك النهاية لا تليق بمن لا زال في رئتـه نفس المشروع الوطني .
مقارنة وقحة : اسلامي , سمعته في احدى غرف البالتاك جازماً , ” ان ابناء الجنوب والوسط , مسلحون الآن بالتجربة الغنية , واكتسبوا ما يكفي من الوعي الوطني , للتمييز بين ما ينفعهم وما يضرهم , وسوف لن ينتخبوا غير قياداتهم المجربة وطنياً , من الصدريين والمجلس الأعلى وحزب الدعوة … ومن يعتقد غير ذلك فهو مضلل ومخادع ودخيل وعميل ولا مكان له في العراق الجديد !!! ” .
هل حقاً ان العراقيين في جنوب ووسط العراق , وكذلك في غربه وشماله , اصبحوا الآن لا يتذوقون الا علف التجزءة والتقسيم والتطرف الطائفي القومي الذي تركته الأختراقات والتدخلات الدولية والأقليمية في معالفها داخل الوطن ؟؟؟ واصبحوا مدمنين على مخدرات الأحقاد والكراهية وسؤ الفهم لبعضهم , متفاضلون على سبق اشعال حرائق الفتن وشهية الموت المجاني , يجعلون من جهلهم وفقرهم واوبئتهم المدمرة , حدود جغرافية واجتماعية ومناطقية , وحواجز نفسية اخلاقية ثقافية وسياسية , يتمترسون على اطرافها نزاعات غبية, يكون فيها حاضرهم ومستقبل اجيالهم , شهيدهم المشترك , يشيعون جثمانه بأناشيد التطرف الطائفي القومي , مشحونة بهيستريا الثأئرات وشهوة الغاء الشقيق الآخر وتدميره ؟؟؟ .
ان كان هذا سيحصل حقاً, والعراقيون ــ مع سبق اصرارهم ــ سينتحرون بأصواتهم ويبايعوا مأساتهم وموتهم اليومي , فليس امامنا الا ان نصرخ قول السيد المسيح ” ابتاه … اغفر لهم … لأنهم لا يعلمون ما يفعلون “