ليس من شك في أن شلة من السياسيين العراقيين السُنة ومخابرات بعض دول الجوار حاولت وتحاول ركوب الموجة، والتسلل إلى داخل التظاهرات والاعتصامات في المنطقة الغربية من الوطن وتوجيه مساراتها وتغيير خطابها وتأجيج نعرتها الطائفية واستثمارها.
لكن الذي لا شك فيه أيضا أن كل هذه المحاولات لا تتم إلا من وراء الستار وفي الغرف المغلقة المعدة للتآمر ورسم الخطط والمؤامرات والدسائس المصالحية المقيتة. ولكن المؤكد والثابت والظاهر للعيان أن الغالبية العظمى من ملايين المتظاهرين والمعتصمين لا يد لها فيما يُدبر خلف الكواليس، وأنها أكثر وعيا ووطنية مما يريد لها المتآمرون، وأنها تتحرك بدافع ذاتي أساسه الشعور بالغبن والتهميش والتحيز وقلة العدالة في المنطقة الخضراء.
على الجانب الآخر، ليس من شك أيضا في أن شلة من السياسيين العراقيين الشيعة ومخابرات دولة مجاورة تحاول تأزيم الأمور وتصعيد حرارة المواجهة مع الطرف الآخر، لأن لها مصلحة ملحة في عدم الحل، وفي بقاء الكراهية المشتعلة بين الطائفتين، خصوصا مع تصاعد الدلائل على قرب سقوط الصنم السوري البغيض.
ومهما كانت الحجج والشكوك والتوجسات التي ساقتها دولة القانون لتسطيح أهداف التظاهرات وتشويه سمعتها، ولحرفها عن مسيرتها الوطنية الخالصة، فقد كان الأرحم والأكثر حكمة وحنكة وبُعد َ نظر، والأسهل والأقل كلفة، والأقدر على لملمة الأمر بسرعة، ومنعه من الانفلات ليصبح حربا طائفية مكشوفة بين طائفة بالكامل وطائفة أخرى بالكامل، أن يتكرم السيد الرئيس فينزل من عليائه، قليلا، ويجلس مع مواطنيه المتظاهرين، ويتفاهم معهم على ما يمكن وما لا يمكن، فيعطي ما لله لله، وما لقيصر لقيصر وعيساوي وعلاوي ونجيفي ومطلق، وكان الله يحب المحسنين.
فليس أسهل من إعادة الجموع الغاضبة المتشنجة إلى مساكنها بسلام إذا ثبت لها أن ولي أمرها عادل ومحايد وراغب رغبة صادقة في شمول جميع العراقيين، بالتساوي، برعايته وحبه وعطفه الأبوي الرحيم.
لم يحدث هذا مع تظاهرات هذه الأيام فقط، بل كان يحدث دائما مع أية تظاهرات لا تعجب الباب العلي. ومن ينسى ما فعلته السلطة مع تظاهرات ساحة التحرير وغيرها التي حدثت في البصرة وكربلاء والنجف والناصرية والديوانية؟ . طبعا لم تكن تلك التظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات سنية. كما لم تأمر بها القائمة العراقية وتنفق عليها تركيا وقطر، كما يقولون اليوم، بل كان أغلبها عفويا وتلقائيا، غضبا واحتجاجا على انعدام الأمن والخدمات وانتهاك الحريات والحرمات. قليل منا فقط كان بقيادة الحزب الشيوعي أو التيار الصدري أو غيرهما.
إن الأعوج يبقى أعوج، مهما قيل ومهما يقال. فمجرد تفكير أي حاكم، تفكيرا فقط، بتسسير تظاهرات من مناصريه ومحازبيه بأوامر الحكومة وأموالها ووظائفها لمشاكسة فئة من مواطنيه، دليلٌ على أنه لا يريد الحل، بل يريد القتل، وبرهانٌ على قصور ٍفي إدراكه وخلل في تكوينه النفسي والثقافي والخلقي. وبهذا وحده تسقط شرعيته، ويصبح واجبُ العراقيين غير المسيسين وغير الطائفيين، وخصوصا منهم المتضررين من حكم قره قوش في جميع أنحاء الوطن، من زاخو لحد الكويت، هو الخروج عن الصمت، والانضمام إلى المُطالبين بعزله وإحالته إلى العدالة، هو ومن لف لفه ومن شد من أزره وأعانه على الإثم والعدوان.
والمؤسف شديدَ الأسف أن الذين يقبلون بأن يخرجوا للهتاف لنوري المالكي بـ(الدفعة) أو بـ(القطعة) لا يقلون شذوذا وفسادا وعقوقا وتشبيحا عنه وعن مساعديه ومستشاريه، لأنهم يشوهون صورة الوطن، ويوحون بغياب العدالة وفقدان الوعي والنزاهة في الشارع العراقي، ويجعلون العراق غابة تتناهش وحوشـُها لحومَ بعضها، ويُحيلون الحياة فيها سباحة في دم. وهم بذلك يتحملون نفس القدر من المسؤولية مع شلة الحاكمين الذين يعمقون الفساد ويضاعفون الفاسدين.
وعموما، يمكن القول مجددا إن بين القائد الكبير والصغير خيطا رفيعا، ولكن تَسهُـل رؤيته بالعين المجردة لتقرير قيمة هذا وصلاحية ذاك ممن وضعهم الزمن على رأس القيادة ذات يوم.
فاكبير يترفع عن الصغائر، ويكره العنف ويجنح إلى السلم أولا، قبل أن يلجأ إلى المكاسرة والمقاتلة والمشاكسة. ولأنه، بطبعه، يمقت الكذب والكذابين والنفاق والمنافقين فهو لا يختار معاونيه ومستشاريه إلا من الأخيار المشهود لهم بالخبرة والكفاءة والنزاهة والاستقامة والسمعة الحسنة والخلق الكريم.
وغالبا ما يكون شديدا على المخطئين من أولاده وأصحابه ومحازبيه المقربين، قبل غيرهم من الأبعدين، لا نفاقا ورياء، خوفا على الكرسي من غضب الجماهير، بل لأن معدنه أصيل لا مكان فيه لخداع وسرقة وظلم ونفاق.
أما الآخر فصغير وفاسد من البيضة، لا تستر منبته عمليات ُ تلميع وترقيع، مهما حاول التظاهر بالفضيلة والشرف والقوة والعظمة والجبروت.
إنه، من أيام طفولته، مراوغ وكذاب ودساس ومختلس وجبان، ويَخالُ الناسَ أجمعين من طينته، مراوغين كذابين دساسين مختلسين وجبناء. ولأنه كذلك فللا يرتاح ولا يطمئن إلا لمن كان من خامته، متمرسا في الغش والتآمر وتزوير الشهادات.
ومن السهل أن نعرف طينة الحاكم من نظرة عاجلة إلى بطانته من المرافقين والمساعدين والمستشارين. ويقال في الأمثال، قل لي من صديقك أقل لك من أنت.
ولو دققنا النظر في نظام صدام حسين لأدركنا بسهولة أن الأكثر من صدام حسين، نفسه، تخريبا للوطن وإذلالا لأهله هم المرافقون والمعاونون والمستشارون. تأملوا هذه القائمة. علي كيمياوي، حسين كامل، سعودن شاكر، صحاف، عبد الغني عبد الغفور، عبد حمود، برزان، وطبان، سبعاوي، وباقي الشلة الأمية الهمجية الجاهلة.
إن الزمن اليوم يعود إلى وراء. فما كان يستخدمه أبو عدي لمواجهة معارضيه يستخدمه اليوم أبو إسراء بنفس الخبث، وبنفس النفاق، وبنفس الغرور.
ملاحظة: لا أنشر مقالا إلا ويأتي فيه ذكر المالكي، إلا ما ندر. ويشتمني بعض محازبيه دائما ويتساءلون عن سر هذا العداء المزمن لهذا الرئيس؟ والرد بسيط. فليس للوطن، هذه الأيام، مشكلة سوى مشكلة وجود رئيس بهذه الأخلاق وبهذه المواصفات. ولو كان بغير هذه الصفات لعشقناه مثلهم، ولتظاهرنا وصفقنا وهتفنا له بالمجان، وبدون مقابل. ولكن ما في اليد حيلة، مع الأسف الشديد.
وليسمحوا لي أن أتساءل، ألا يحق لنا أن نحزن على وطن كان عزيزا وجميلا وآمنا وواعدا ومزدهرا، ذات يوم؟ وأليس من حقنا أن نغضب على من خربه وجعله خرقة ممزقة تتناهشها القطط والكلاب والذئاب والذباب؟