23 ديسمبر، 2024 5:27 ص

متاهة سبعينية، عن مختار وصنوه أبو حمديه

متاهة سبعينية، عن مختار وصنوه أبو حمديه

( في هذا المقال سنستحضر بعض اﻷسماء ممن كان لها الفضل الكبير في دفعنا نحو حفر كلمات أردناها أن تصاغ من صدق ونور، لتتسق وتتناغم مع أرواحهم الطيبة وما كانوا قدشغلوه من مكانة بين قلوب أحبتهم وأنا أحدهم. وأيضا هو (المقال) توق لزمان راح، يوم رقصنا وصدحت أصواتنا عاليا رغم سلطة الرقيب. كذلك هو سفر لمرحلة لم تعش حلاوتها بعض الفئات العمرية على نحو كافٍ إن لم تكن قد حُرِمَتْ منها. الرحمة الواسعة على مَنْ سيرد ذكره، وباقات من الورد تُعَطِّرُ روحهم الزكية).
هُم كثيرون ولا شك بذلك ويحملون معهم أسمائهم، فمنهم مَنْ اسمه مصطفى واﻵخر محمد وصنوه طارق وصديقه ياسر وإبن عمه خليل وجارهم مهند وآخرين، غير اني سأصطفي إثنين منهم بطريقة تغلب عليها العفوية والنية الحسنة، وسأركب عليها إن صحَّ القول ما يجول بخاطري وأذهب بهما بشيء من التأويل ومن الحدس أيضا، نزولا وإنسجاما مع طبيعة النص وما أبتغيه من غاية، متمنيا أن لا يأخذكم الحساب الى ما يسيء الظن. أمّا لماذا إخترتُ هذين الإسمين تحديدا، فهما وبحسب تقديري وببساطة شديدة، أشهر من نار على علم وأسطع دلالة وحركة وحضورا إذا ما جرت مقارنتهم بأقرانهم، كذلك وبسبب من جاذبيتهما فقد كانا حديث الساعة أينما إجتمع إثنان، ولا ننسى كذلك إنتمائهما الى ذات الجيل الذي عشناه.
أحدهما إسمه مختار ويُعد اﻷوسط في تسلسله بين أخوته وسأحدثكم عنه ببضعة سطور، بعد أن نلقي الضوء على جانب من يومياته، لتكوّنوا فكرة كافية عما سأمضي به، ومن بعد سنسبر شخصيته سوية، حاثا ومحفزا ما استطعتُ ذاكرتكم لتكونوا طرفا آخر في النص، لا يقل دورا وأهمية عمّا نكتبه، بل سيكون مسعاي اﻷكبر وحُلمي أن تأخذوا زمام المبادرة وتمضوا بها الى مديات حلوة من الخيال والمتعة.
إعتاد مختار مغادرة البيت مع طلوع ساعات الصباح اﻷولى ويكاد أن يكون ثابتاً على نهجه هذا، فهو على هذا الحال وبشكل يومي تقريبا ومنذ بضعةسنين، بل قل منذ أنْ إبتدأت وتيرة ضربات قلبه بالتصاعد وأحيانا بالإضطراب، وﻷسباب ظلت مجهولة حتى وقت قريب، حيث نجحت أخيراً أخته الكبرى والتي تُعَدٌ خزين أخباره وحافظة أسراره، في إستدراجه والإعتراف لها بما يُشغل قلبه أيامئذ، خاصة وقد لاحظت عليه إهتمامه الواضح بهندامه وفي تسريحة شعره وفي نوع العطر الذي يستعمله، كذلك في نوع اﻷغاني التي يحب الإستماع والإستمتاع بها، فضلا عن، وهذا أمر على درجة كبيرة من اﻷهمية، هوشراءه لصور الممثلة المصرية الساحرة الجمال والعينين، زبيدة ثروت وقيامه بتعليقها على مختلف جدران البيت، غير مراعٍ في ذلك حقوق وذائقة اﻵخرين من أهل بيته.
إذن من حيث يدري أو لا يدري فبحركات مختار هذه قد أعطى مؤشرات بل أدلة قاطعة، لا تخطئها العين ولا البصيرة، بأنه على أبواب مرحلة جديدة من حياته، إن لم يكن قد دشَّنها واجتازها من قبل أن تصل مسامعنا والبوح بما يمكن البوح به. انها ساعات الهوى والهيام والتي عادة ما تترافق وسهر الليالي والنواح على البعيد القريب، واﻷخطر من ذلك التسارع الملحوظ في عدد ضربات القلب، بل قُل بلوغه أعلى مراحل العشق وحرقها، وبفترة قياسية ليصل الى أبعدها مدى ولوعة. سَيتّبعُ صاحب الذكر برنامجا ثابتا،سيحرص على تطبيقه بدقة متناهية كل يوم، مداره الخروج المبكر لملاقاة من يهوى أو سيكتفي وعلى مضض وتحسر برؤيتها وإن على بُعدٍ، مستثنيا منها وعلى مضض عطلة نهاية اﻷسبوع والمناسبات التي ستتوقف فيها دوائر الدولة الرسمية عن العمل، إضافة الى بعض العطل الخاصة بالطلبة والطالبات بشكل خاص وَمَنْ هو أو هي بحكمهما.
سيأخذ مختار من الطريق المؤدية الى مدرسة ثانوية البنات الوحيدة آنذاك مسلكاً له، مبتدأ رحلته من محلة (العنافصة) حيث مكان سكنه، عابراً شارعين رأيسيين وبضعة أزقة متشابكة، متداخلة ببعضها البعض، ماراً ورغم أنفه بأحد محلات البقالة الذي هو على خلاف دائم مع صاحبها، بسبب معاكسته ذات يوم كما يزعم اﻷخير لإحدى بناته، علما إنَّ شهود عيان عدول قد أدلوا في حينها برواية مختلفة تماما، ستنصف مختار وتتهم صاحب البقالة بالكذب والإفتراء الصريحين، فَإبنته هي عادة ما تبدأ بالتحرش به وبغيره، وبأساليب وأشكال متنوعة بما في ذلك الرخيصة منها والمعيبة، آملة أن تتلقى إستجابة منه بل قُلْ راضية بنصف إستجابة، لتبني عليها ما يحلو لها من أحلام. وﻷنها فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أمنيتها تلك، فقد قررت وبعد إستشارتها لإحدى صديقاتها ممن تجاوزها العمر وتعنست، قلب الطاولة على رأس مختار. وعلى أثر ذلك وكي لا يُصدِّعُ رأسه ويفتر حماسه نحو مَنْ يهوى، فقد قرر مختار تغيير مساره والبحث عن بديل آخر أكثر طمأنينة وراحة بال، لذا سيعمد مجازفا الى قطع طريق البستان المهجور المقابل لسكنهم، وصولا الى ثانوية البنات. ليكون بذلك قد وفَّرَ نصف الوقت ونصف الجهد واﻷهم من ذلك كله أن لا يلتقي بذلك الوجه النحس صاحب محل البقالة وإبنته.
إستعدادات مختار ومغامراته والتي باتت معروفة ومكشوفة وحديث اﻷبعدين قبل اﻷقربين، الغاية منها الوصول الى ما يبتغيه وفي الوقت المناسب، وعلى وفق ما رسمه في مخيلته من مخطط، قد يجد نفسه مضطرا وفي بعض اﻷحيان الى تغيير تكتيكه بحسب تَغيُّر (الغنيمة المراد إصطيادها)، فإن كانت من النوع الدسم فسيسهر الليل بطوله في وضع الخطط المناسبة للنيل منها وترويضها حتى الإتيان بها الى بيت الطاعة، كما يحلو له من تسمية.
في كل اﻷحوال سيبقى هدفه النهائي هو قطع الطريق على أحد أشد غرمائه ومنافسيه والملقب بأبي حمديه، فكلاهما معروفان من قبل أهل المدينة وبكل أحياءها ومدارس بناتها، بتسابقهما في هذا المجال، حيث لا يعرفان الوهن أو التراجع ومهما إشتدت قساوة الظروف، إذ تجدهما على حركة دائمة، دؤوبة، ومع بدء الدوام المدرسي والعودة ثانية ومع مغادرة آخر صف وآخر طالبة، حتى لو تطلب اﻷمر الإنتظار الى ما بعد مغيب الشمس، بل هذا ما يرتجيانه فتلك الساعة من الوقت تُعَدٌ اﻷكثر ملائمة للـ(التحرش)، فَتَحتَ جنح الظلام النسبي الذي يبدأ بالزحف، ستتصاعد وتيرة شجاعتهما ويزدادان كذلك إقداماً نحو ما يريدان تحقيقه ومن دون ملل أو كلل، ساعيان لكسب ود وقلوب طالبات المدرسة.
وأما عن الشخص الثاني والذي سيكون مدار حديثنا في هذا المقال هو ما أطلِق عليه من لقب وراح الناس يتداولونه بشكل طبيعي كبديل لإسمه، انه أبو حمديه. وبهذه المناسبة، نقول عنه: ليس هناك من رواية يُعتدٌ بها وتقطع بأصل ومصدر وخلفيات لقبه هذا. ولعله، وهذا إجتهادا مني، وقد أصيب أو أخطئ، بأنه آت من كثرة علاقاته بالجنس اللطيف. أو ربما رأى في حمله لقبٍ كهذا بأنه يأتي بمثابة التكريم والإعتزاز بشخصية المرأة المكافحة التي ما إنفكت تجاهد في سبيل تنشئة أبنائها بعد أن تيتموا مبكراً، وهذا ما أرجحه. لكن ورغم هذا وذاك، فقد حاولت جادا ومن خلال بعض اﻷصدقاء الوقوف على لقبه هذا ومن أين جاء به وَمَنْ أول من أطلقه عليه وسُجِّل له قصب السبق فيه، الاّ اني لم أوفق في الحصول على الإجابة الكافية والشافية. المهم أمر كهذا ليس على أهمية قصوى، فالرجل أو الشاب لطالما نتحدث عن فترة بداية السبعينات، هو شخصية معروفة للبعيد قبل القريب، وعائلته هي إحدى العوائل العريقة التي تسكن حي العنافصة.
وأبو حمدية هذا وكما سبق القول فهو غريم دائم ومنافس شديد لمختار في (كار) العشق والبحث عن متاعب القلب قبل متاعب الحياة. وكي لا يحدث أي إحتكاك مباشر بينهما فسيختار طريقاً آخر للوصول الى ثانوية البنات، واضعا دوار المحلة أو كما نسميها الفلكة في ظهره ليقطع الطريق المباشر الذي سيوصله الى فلكة أخرى مرورا ببقالية جبارة. وأذا ما تتبعنا خارطة السير بدقة وجغرافية تلك المنطقة تحديدا، ستكون المكتبة المركزية على يساره. بعدها سينعطف يمينا، مرورا بروضة اﻷطفال ومن ثمَّ نادي ديالى العريق، ومن هناك سيواصل سيره حتى بلوغ غايته الا وهي ثانوية البنات، أسوة بغريمه مختار وفي التوقيت المناسب إن لم يسبقه في ذلك.
أحياناً وبسبب ميله الشديد للنوم ساعات طويلة وتأخره عن اللحاق بما اعتاد عليه، سيجد نفسه مضطرا لتغيير وجهته، تاركا لغريمه مختار وعلى مضض، أمر التفرد والتمتع بأجمل ما خلق الله طرّا، على حدٍ وصفه. وتعويضا عن ذلك سيتجه مباشرة الى سوق المدينة الذي بات على مرمى حجر أو أدنى، وهناك سيجد من المتعة ما يعوض له ما فاته، فبنات القرى واﻷرياف اللائي قدمن لتصريف بضاعتهن، لا يقلن فتنة وجمالا عن طالبات المدرسة، بل لعلهن والقول له، بِِهُنَّ من العذوبة والعفوية لسحرا.
ابو حمديه وكأي شاب في المرحلة إياها كثيرا ما كان يشغله المظهر والشكل ولنضف عليهما الأتكيت، لذا وتحت تأثير بعض من أصدقاءه فقد غُرِسَ في باله فكرة وجود تشابه كبير بينه وبين أحمد رمزي الممثل المصري المشهور، والذي حاز على العديد من اﻷلقاب كفتى الشاشة وشقيّها وغيرها. وبناءا على ما فات وﻷن إقتراح أصدقائه قد أخذ يفعل فعله وصادف أن كان هناك عرضا سينمائيا من بطولة عبدالحليم حافظ وأحمد رمزي وأظن إسمه أيام وليالي، فستجد أبو حمديه وقد حجز له مقعدا في الصف اﻷمامي من صالة العرض، لمراقبة ورصد حركات الممثل المذكور وعن كثب والتركيز على أبرز المشتركات التي يلتقيان عليها وبالتالي محاولة تقليده والمشي على خطاه.
بعد عودته الى البيت وفي ذات الليلة والكل نيام، راح أبو حمديه متطلعاً في أكبر مرآة في بيته، باحثا عن أوجه التشابه بينه وبين أحمد رمزي لكنه لم يعثر على نسبة حتى عشرة بالمائة، غير انه لم يستسلم للأمر، فتراه مرة يغير تسريحة شعره ومرة يغيّر مشيته وأخرى إبتسامته وآخرها إبراز عضلاته، تقليدا لإحدى الحركات التي كان يقوم بها أحمد رمزي أثناء أدائه لبعض اﻷدوار. كل ذلك لم يقربه شبها من الممثل كما زعم البعض. قال في سره الصباح رباح. وفعلا ففي اليوم التالي وبعد أن وجد نفسه قد تأخر كثيرا عن النهوض من النوم وتعذر الوصول الى هدفه اليومي وفي التوقيت المعتاد، راح متجها ومن جديد نحو المرآة معيدا النظر في هيئته، متقمصا ما استطاع شخصية أحمد رمزي، مستعيدا ومرددا بعض من حواراته السينمائية التي حفظها عن ظهر قلب، لعله يوفرُ بعض قناعة تشير الى تقاربه من الممثل المذكور، ولكن أيضا دون جدوى.
حتى اللحظة لم ييأس أبو حمديه ولم يكل عن بذل المزيد من المحاولات، قائلا في سره ﻷحاول مرة أخرى. في هذه اﻷثناء وبينما كان يتلفت يمينا ويسارا ﻷداء بعض الحركات والتي تأتي بمثابة آخر إختبار له على طريق تقمصه لشخصية الممثل، إنتبه الى أن شقيقه اﻷكبر كان يراقبه عن بُعدٍ ومن غير أن يشعر به. وبعد فصل من الضحك المتبادل إقترح عليه الإلتحاق به ليمارس لعبة كرة القدم كبديل عن إهتماماته (الصبيانية) التي لا تجدي نفعا، غير انَّ الإقتراح جوبه من قبل أبو حمديه بالرفض القاطع والمطلق، وليضيف عليه معلقاً: ما أقصر العمر حتى نضيعه بكرة القدم، متذكرا في ذلك أغنية محمد عبد الوهاب.
بقي الصنوان، مختار وأبو حمديه على هذا المنوال، يبكرون الحضور ومن قبلُ أن يدق جرس المدرسة بنصف ساعة تقريبا ولسنة دراسية كاملة إيذانا ببدأ الدوام المدرسي لثانوية البنات . وفي كثير من اﻷحيان يعيدان الكرة ومع إنتهاء الدوام، غير مبالين للحر ولا للبرد ولا للفتات الإحتجاجية وخزر العيون التي تصدر من بعض المارة وخاصة من قبل سكان المنطقة، حتى انه وفي إحدى المرات وبينما كان أحد اﻷشخاص، يُسمع أبو حمدية بعض الكلمات التي تدخل في باب التجريح أو سمّه التوبيخ، إنبرى له مختار، ليعلن عن تضامنه الصريح مع غريمه، غير ان تلك الحادثة لم تخفف من وطئة (الصراع) الخفي وأحيانا العلني الدائر بينهما. واﻷنكى من ذلك هو إنتقال هذا الصراع مساءا الى مقهى الحي حيث يسكنان، ولتتحول قصتهم هذه الى حديث ساخن لرواده، لينقسموا بعدها الى فريقين، أحدهما يؤازر مختار واﻵخر ينحاز الى أبو حمديه.
نجحا الإثنان في نسج علاقات متعددة ومتشعبة مع الجنس اﻵخر من بنات المدرسة، غير انهما، ولربما هنا يدخل عامل الصدفة أو المنافسة، ظلَّت عيناهما ترنو نحو إحدى الطالبات بعينها، وهي بحق بالغة الجمال، فكلاهما يسعى الى نيل رضاها والإقتناع حتى بإبتسامة عابرة للأثير، أو بكلمة تهمس بها يضنانها خيط وصلٍ وفاتحة خير. الاّ أن المفاجئة كانت أكبر منهما، ففي يوم التخرج وبينما كن البنات يخرجن زرافات وبوقت مبكر من المدرسة، كانا الإثنان، مختار وأبو حمديه يراقبان المشهد عن كثب وغبطة، وإذا بالطالبة البالغة الجمال تتجه مسرعة نحو إحدى السيارات الفارهة، والتي يقودها رجل ثلاثيني العمر على ما بدا عليه، تتﻷﻷ ومن على كتفيه وفي كل جانب ثلاثة نجوم، تشير الى طبيعة رتبته العسكرية، هل هو خطيبها أم قريبها أم شقيقها؟ لا أحد يعرف، غير أنَّ الذي نعرفه أن مختار وغريمه أبو حمديه عادا سوية الى محلتهم ومن غير أن ينبسا ببنت شفة.