من عادتي إذا أردت أخذ الأولاد في نزهة، أن أجلس مع الأولاد وأفتح خرائط جوجل وأكتب كلمة (متحف) بالعربية أو الإنكليزية او غير ذلك، ونختار أحد الخيارات الكثيرة المتاحة في إسطنبول.
اليوم فعلنا الشيء نفسه، فلفت انتباهنا شيء اسمه (متحف البراءة)!
استهوانا الفضول لمعرفة ما في هذا المتحف، ولماذا هذا الاسم الغريب، والذي حاولنا أن نجد له تفسيرات متعددة ونحن في الطريق إليه معظمها لم تكن منطقية.
المبنى كان مبنى سكني صغير في إحدى الأزقة، ولم يكن على الشوارع الرئيسية كما هو معروف في المتاحف، كما لم تكن تذكرة الدخول إليه رخيصة، بل كانت توازي تذاكر المتاحف الرئيسية في إسطنبول.
في بهو المنزل (المتحف) ومباشرة بعد الدخول من البوابة سيلفت نظرك جدار عالي ممتلئ بأعقاب السجائر، تجدها معلقة ومرتبة بتنسيق معين وهناك تعليقات مكتوبة على بعض منها، ومؤرخة بخط زمني في الأعلى يبدأ من أواخر السبعينات ويستمر لعدة سنوات، ومرتبة باعتناء ملحوظ كمن يجمع تذكاراته الشخصية أو دفتر يومياته!
ثم تصحبك صناديق العرض الواحد تلو الآخر لمقتنيات شخصية عادية مرتبة بأسلوب عرض محترف يضيف الكثير من الواقعية والإنسانية إلى المعروضات، كأنها تروي قصة شخصيات عاشت تلك الحقبة من السبعينات والثمانينات، ويجعلك تتعاطف مع ساكن هذا البيت وصاحب هذه المقتنيات وتتابع حياتهم (العادية) باهتمام بالغ.
أدوات زينة، أدوات مطبخ، كتب، ودفاتر، مستحضرات تجميل، ملابس، بقايا طعام، علب مشروبات فارغة … أشياء عادية لا يخلوا منها أي منزل من منازلنا، كلما في الأمر أنها عرضت على شكل صناديق أنيقة ووراء كل صندوق قصة وحكاية تستمع إليها عبر الحاكي الصوتي الذي تأخذه من إدارة المتحف عند الدخول.
أين البراءة؟ من هؤلاء؟ ما الموضوع…؟
..؟!
القضية يا سادة …
ان المتحف يتحدث عن شخصية خيالية في رواية للكاتب التركي (أورهان باموك) بعنوان “متحف البراءة”، يتحدث فيها عن بطل الرواية كمال الذي عاش قصة حب مع عشيقته (المتزوجة) في هذا البيت، وعن هوسه بمعشوقته لدرجة أنه كان يجمع كل شيء عنها او له صلة بها من أعقاب السجائر وبقيا الطعام وكأس الشاي الذي ارتشفت منه بضع رشفات ولم تنهه، وصولا إلى ملابسها وأدوات الزينة التي كانت تستعملها، ثم حول بيته إلى متحف لها ولقصته معها التي دامت 9 سنوات حتى وفاتها، ليقيم هذا المتحف وفاءً وتخليداً لها,
الرواية (متحف البراءة) يبدوا أنها قد ترجمت إلى عدة لغات، وقد عمد الروائي إلى تصميم المتحف بالتزامن مع أحداث الرواية، حتى إن صناديق العرض تتسلسل بتسلسل الفصول في الرواية.
قضينا في هذا المتحف ما لا يقل عن ساعة ونصف أو ساعتين ونحن نحاول فكفكة الرموز والاطلاع على المقتنيات (ربما محاولة يائسة لاستنفاذ المبلغ الذي دفعناه للدخول).
وعند خروجنا منه سألت الأولاد السؤال المعهود.. ما الذي تعلمناه اليوم؟
لم يشعر الأولاد كثيرا بأي فائدة، سوى الاطلاع على مقتنيات منزلية لمرحلة سبقت ولادتهم بعقود، غير أنني خلصت بدرسين إثنين من هذه التجربة..
#الدرس_الأول: إذا صح منك العزم هديت إلى الحيل
لم يكن المتحف سوى وسيلة تسويق ذكية وفريدة للرواية ولأفكار الكاتب، (مع اختلافي الشديد معها، إذ صنعت حالة من التبرير والتعاطف مع الخيانة الزوجية بإسم الحب) ولكنه جعل من روايته حقيقة لا يمكن إنكارها، تكاد تجزم أن كل شخوصها حقيقية فعلاً، عاشت هنا وسارت من هذا الطريق وشربت من قدح الشاي هذا ودخنت عقب السيجارة ذاك … حتى إنني عدت لأسأل أمينة المتحف عند خروجي: هل شخصية “كمال” خيالية أم انها عاشت هنا فعلاً؟
فلم أصدق ان كل هذا الجهد والتنظيم من أجل شخصية روائية غير حقيقية
فلو كان لنا ربع هذا العزم في إيصال رسائل وأفكار بناءة في المجتمع، لأحدث ذلك فرقا ملحوظا في مجتمعاتنا بلا شك.
#الدرس_الثاني: حاجتنا إلى نوع آخر من المتاحف
لا أتكلم عن متاحف كبيرة تكون أيقونات للمدن ومعالم سياحية لا يمكن تجاوزها، كالمتاحف الوطنية، والتي غالباً ما ترمز إلى الشخصيات الرئيسية والعهود والأنظمة والسياسة وتاريخ الأمم… (وهي مهمة بطبيعة الحال).
وإنما متاحف لحياة أفراد عاديين، أناس عاشوا وماتوا بهدوء ولكنهم تركوا تأثيرا ولو بسيطا فيمن حولهم، متاحف صغيرة ورخيصة بين البنايات، ترسم أبطالنا الحقيقيين، سائق الباص وبائع الخضرة وصاحب الدكان وخادم المسجد والموظف البسيط … وغيرهم
والداي ووالداك وأجدادي وأجدادك.. أبطال ربما غابت عنهم أضواء الشهرة ولكنهم كانوا شموعاً لنا ولغيرنا في هذه الحياة … ومن حقهم علينا أن نحفظ إرثهم وتاريخهم و (حياتهم).