27 ديسمبر، 2024 5:54 م

مبــــــروك- قصة قصيرة
جلسة التحليل السياسي التي يشارك فيها جميع المعتقلين في خيمة الشهيد عمر القاسم تقارب على الانتهاء، أبو خالد يلخص النقاش الذي جرى حول الوضع السياسي الراهن، ويشير بأسلوب تعليمي إلى صحة تحليل بعض الشباب وإلى جوانب الخطأ في تحليل البعض الآخر، أجال موسى النظر في الحضور، كثيرون قد بدأوا يسرحون في تفكيرهم بعيداً عن اللحظة التي يعيشون، ضحك في سره، إنه ليس الوحيد الذي شتّ عن الموضوع، ولكنه تساءل عن المسافة التي قطعها كلٌّ منهم، هل قطع أي منهم المسافة التي قطعها، وهل استعاد أي منهم صوراً كالتي استعادها. حاول أن يسحب نفسه من تلك اللحظة التي وصلها ومن بين مجموعة الأصدقاء الذين كان معهم في سرحانه، ولكنه فشل وشعر بالذنب لأنه لا يساعد أبا خالد في بعث الحياة في النقاش.

حسناً فعلت يا أبا خالد، أسرع في إجمال النقاش وإلاّ لن تجد من يستمع إليك سوى عبد الكريم. ما أروعك يا رفيق عبد الكريم، رفيق نقابي لم يكمل دراسته الثانوية لأنه اضطر للعمل بعد وفاة والده، يريد أن يغترف المعرفة وكأنه في سباق مع الزمن، لا يوفر كتاباً يقع تحت يده، يقول دائماً إن الكتب في سجن أنصار 3 شحيحة أصلاً، فهل سنزيد شحتها بـ “هذا ينفع وهذا لا ينفع”، وحين لا يجد الكتاب يستأذن للاشتراك في أية جلسة غير جلسات مجموعته، يناقش بحيوية فتحيا الجلسة بعد أن يكون التثاؤب قد سيطر على المشاركين، وحين لا يجد جلسة يذهب إلى الأستاذ صالح، أستاذ جامعي مناضل، يسأله عن كل ما يخطر بباله، يعلق الأستاذ صالح “عبد الكريم يعتقد أنني موسوعة، يسألني في كل شيء من علم الاجتماع حتى الفيزياء الذرية ومن مبادئ الدين حتى المادية الجدلية”، فيضحك عبد الكريم ويعلق “يا أستاذ صالح، لن نخسر شيئاً لا أنا ولا أنت، إن كان لديك الجواب استفدت أنا وإن لم يكن لديك استفدت أنت حيث ستفكر في السؤال وتبحث له عن جواب، أليس كذلك يا أستاذ؟”

عاد موسى إلى جو الجلسة، “كل ما فيك جيد يا رفيقي عبد الكريم إلاّ هذه الخصلة، تزيدها في النقاش فتمدد الجلسة عندما نكون ننتظر نهايتها على أحرّ من الجمر، لاحظ يا أخي، شِمْ”. مهما طالت الجلسة فإن المتبقي لا يزيد عن عشر دقائق، وبعدها سيفلت إلى لعب الدومينو هو وشريكة سيف ضد أبي فراس وكامل ليثأرا من هزيمة الأمس. نظر إلى عدنان، التقت نظراتهما، رفع موسى علبة الدومينو من تحت البرش ليراها عدنان دون الآخرين ثم هدّده بإشارة من يده بأنه سيسحق جماعته، لقد فضحه عدنان “فضيحة بجلاجل” كما يقولون، مسك الجميع في الساحة “عرفت؟ فريق أبو فراس وكامل سحق فريق موسى وسيف”، حاول موسى يومها أن يكون هادئاً لا مبالياً لكنه استفز، شكا الأمر إلى أبي خالد وطلب منه إسكات عدنان وإلاّ، ضحك أبو خالد “ألهذا الحد مستفز من الغلب يا موسى؟!”، ثم نادى عدنان وطلب منه الكف عن استفزاز موسى، أجاب عدنان بدعابته المعروفة وصوته الرفيع: “الآن سأسكت تماماً لأنني حققت مرادي، موسى مستفز من الغلب”. ثم تأبط يد موسى وبدأ السير في الساحة وختم عدنان الأمر بعد أن هدأ موسى بتأليف بيت من الزجل حول الغلب ووعد ألّا يذيعه على الملأ. ضحك موسى، ولكنه لم يصدق الوعد، فعدنان سيردد الزجل ويزيد عليه هذه الليلة أثناء السهر.

عبد الكريم يقاطع إجمال النقاش بملاحظة توضيحية، فكر موسى “ليتني أجلس إلى جانبك يا سيد عبد الكريم لأقرصك قرصة تطير دماغك وتعلمك كيف تتفلسف في آخر الجلسة. ألا تدري يا محترم أن العشاء سيأتي بعد أقل من ساعة، واليوم دوري في جلي الصحون، وما أن ينتهي الجلي حتى يأتي العدد، وبعد العدد لن نستطيع أن نجلس تحت الضوء القوي قرب السياج، لأن الجنود سينغّصون علينا بطلبهم منا الابتعاد عن “الشيك”، منهم كلمة ومنا كلمة وسيجرونني إلى الزنزانة، وكله بسببك يا سيد عبد الكريم يا محترم”. فكر أن يطرح أفكاره بصوت عالٍ ويطلب إنهاء الجلسة، كاد يرفع يده ليطلب الحديث، أنقذه شاويش[1] القسم الذي مد رأسه داخل الخيمة.

– عفواً شباب، شاويش الخيمة لو تسمحوا، هناك بريد نريد فرزه، ورجاء ما حدا يلحق، كل واحد بتوصله رسالته لعنده.

أراد أبو خالد أن يستمر في حديثه بعد خروج الشاويش، لكن عبد الكريم فاجأ الجميع باعتراض.

– رجاءً يا رفيق، لن أفهم أي حرف بعد الآن، من ثلاثة أسابيع موعد ولادة زوجتي وحتى الآن لم يصلني أي خبر، سأنتظر فرز الرسائل على أحر من الجمر.

لم يتمالك موسى نفسه.

– ينصر دينك يا عبد الكريم، معقول أنت تطلب إنهاء الجلسة؟!

أقبل شاويش الخيمة راكضاً، كل العيون على يده التي تحمل الرسائل، نهض عبد الكريم متثاقلاً بين الأمل بأن تكون الرسالة الموعودة ضمن الرسائل التي يحملها الشاويش وبين الخوف من انتظار حائرٍ وقلق جديد. قطع الشاويش حيرته

– حلواني سيجارتين يا عبد الكريم.

سحب عبد الكريم علبة السجائر من جيبه وركض باتجاهه، أعطاه السجائر وأخذ الرسالة، أخرج الرسالة من مغلفها دون جهد، فالرقيب يوفر على الجميع جهد فتح الرسائل، ركضت عيناه على السطور، تابعتهما عيون الأصدقاء الذين أحاطوا به، عَلَت البسمة وجهه، انتقلت البسمة إلى كل الوجوه، صاح بهم

– باركوا لي بأحمد يا شباب.

كان أبو خالد أول المهنئين، صافحوه جميعاً بحرارة، ثم دخلوا إلى الخيمة، استؤنفت الجلسة، ولكن بمضمون آخر، أخرج أبو اسماعيل أمين صندوق الخيمة علبتيْ سجائر من الرصيد الموفر، أضاف إليهما شاويش الخيمة السجائر التي أخذها من عبد الكريم، دار عدنان على الحضور بالسجائر، عندما وصل عبد الكريم بارك له على مسمع الحضور.

– مبروك الرفيق الجديد أحمد يا أبو أحمد.

علق الشيخ حسن: وما يدريك أنه سيكون الشيخ أحمد بإذن الله.

حسم عبد الكريم الأمر: ليكن ما يريد، المهم أن يكون مناضلاً وطنياً.

جلس عبد الكريم بين السياج والخيمة واختلى بالرسالة، كان وجه زوجته يقرأ الرسالة من بين السطور، الرسالة مكتوبة بعد يومين من الولادة، كم تمنى أن يكون إلى جانبها في ذلك اليوم، أشعل سيجارة، لم يعد النقب صحراء يكوي حرها جلده، حاول أن يضع صورة لأحمد لكن الصورة استعصت على التشكّل، مجرد لفة ملابس ورأس صغير، سينتظر الصورة في الرسالة القادمة بناء على وعد زوجته. فكر “قد أخرج قبل أن تصل الرسالة القادمة”.

أراد أن يقرأ الرسالة مرة أخرى، لكن الإعلان عن بدء العدد في القسم المجاور قطع عليه ذلك فطواها ووضعها في جيبه ليعيد قراءتها مرات أخرى.

[1] السجين المختار من قبل للسجناء للاتصال مع إدارة السجن