حوار شفاف مع الكاتب والروائي عبد الله مكسور مؤلف رواية (2003)
حاوره / احمد الحاج
*رواية (2003 ) تلخص مجمل الحياة العاصفة في ظل الاحتلال الأجنبي لبلد عربي ما وقد اخترت العراق انموذجا ،فهل أن الصورة التي نقلتها الى قرائك في صفحات وفصول الرواية جاءت عن تجارب شخصية من خلال عيشك في العراق في حقبة أو فترة عمرية ما، ام أنها نتاج وخلاصة معايشتك الاحداث اولا بأول ومتابعتك اياها من خلال شهود العيان، اضافة الى البحث والتقصي وما تتناقله وسائل الإعلام المختلفة ؟
– عندما بدأت في كتابة رواية 2003، كان السؤال الأكثر إلحاحاً في ذهني: ماهي الجغرافية الأنسب للحكاية، بهدف خلق التناظر في التاريخ والحاضر وإعادة تقديمه بقالب جديد لم يتم تدوينه من قبل، كنت أريد مدينةً شهدت عاماً مفصلياً في حاضرها بسبب أخطاء التاريخ المتراكم فيها، الأقرب لي كانت الشام لكن الشام مدينة تئن تحت جراحها، وليس باليسير أن تروي حكاية عنها دون أن تنبش في السجون السرية التي يموت داخلها عشرات الآلاف منذ عقد وحتى الآن، أردت مدينةً أغرق في تفاصيلها المتشابكة لأبني الحاضر العبثي فيها، وبذات الوقت هي امتداد حقيقي لذهنيَّتي، فكانت بغداد التي سبَقَ لي أن زرتها، أمضيت 4 سنوات في عملية التحضير للكتابة، قرأتُ عن تاريخها وأبنيتها وحاراتها ومفاصل الأحداث التي شكَّلَت فيها منعطفاً تغيَّر بعده الأمس في حاضرٍ إشكالي أعادَ رسم نتائج الماضي، ذهبت نحو جيلين في المدينة كلّ منهما يماثل الآخر ويعيد ذات الأخطاء التي فعلها، الأول ممتدٌّ بحكمِ اختلاف مفهوم الهُويّة التي حمَلها والثاني محاصَرٌ بأفكار الحزب الواحد والسلطة القاهرة التي درَّبَت الإنسان على الصمت والتعايش مع القيود، لذلك نجد أنَّ الجد الذي حارب تحت راية الإمبراطورية العثمانية على أرض العراق – بأحد جولاتِه- لا يتقاطع في الأهداف مع الحفيد الذي خاض حربَهُ الخاصة على أرض العراق أيضاً بعد أكثر من ستة عقود.
إعادة نبش الماضي وتقديمه، أو بتعبير أدق خلخلته وبناء رواية المهمَّشين الذين دفعوا من أعمارهم وقُوت يومهم فاتورة أخطاء القيادات المتعاقبة، كانت الهاجس عندي خلال عملية إنتاج النص بكل مراحلها، وبغداد مدينة شهيَّة ” الحياةُ والموتُ ” فيها ليس فقط ثنائية تمرُّ بينهما حياة الإنسان، وإنما تركيبة غريبة فيها الحرب والحصار والفقدُ والأسئلة الأكثر غرابة حول ما وقع على أرضها، بالتأكيد استندتُ إلى ذاكرةٍ شخصية أَغنَيتُها ببرنامج قراءات خاص امتدَّ على مراحل تاريخها بدأ بالمذكرات الشخصية وصولاً إلى تاريخ العمارة فيها.
* الاحتلال والاستبداد وجهان لعملة واحدة ، وكلاهما يمثلان مقدمات ونتائج يتناسل أحدهما من الآخر،وذلك في عملية (دور وتسلسل) على وصف المناطقة والفلاسفة لا ينتهي أبدا ،وهذا ما تبنيته في روايتك وطفت حوله، وركزت عليه،فهل لك أن تسلط لنا الضوء وبشيء من الايجاز على متلازمة “الاستبداد والاحتلال” ولكن من وجهة نظرك الشخصية التي أعربت،وعبرت عنها،وسطرتها على الورق في روايتك ؟
– مع بوادر بدء العصر الاستعماري في منطقتنا العربية، عقِب ما يُعرَف تاريخياً بـ “الثورة العربية الكبرى”، بدأت الأسئلة تتوالى حول معنى الدولة الوطنية ومفهوم الوطن القُطري، وما زلنا إلى اليوم نعيد ذات الأسئلة، فنحن لانملك تعريفاً واضحاً لأوطاننا، أو على الأقل لايوجد توصيف متَّفَقٌ عليه مثل التعريفات المُسلَّم بها في العلوم، منذ تلك اللحظة التي بدأت بها رايات العصر الاستعماري ترتفع فوق سواري أبنية الحواضر العربية، بدأ خلق البديل الموازي لهذه القوة التي أيقنت أن وجودها طارئ مؤقت وإلى زوال، البديل كان بطبيعة الحال هو (الاستبداد) الذي يقوم بدور وظيفي يخفِّف عن دول الاستعمار فاتورتها تجاه الشعوب التي تحكمها، ربما لم ينضج هذا الدور الوظيفي حتى نهاية الخمسينات من القرن الماضي مع شيوع فكرة الانقلابات العسكرية التي انطلقت من الشام مع نهاية الأربعينيات الماضية بصورة بزة عسكرية تأخذ مقاليد السلطة بالكامل، وقدّمت نفسها بصور مختلفة عبر العقود اللاحقة. لكنها أفرزت بشكل مباشر – وإن كان بعضها نتيجة رغبات جماهيرية بالتغيير حتى وإن كانت نحو لأسوأ- أفرزت أنظمة تقوم على تقزيم الآخر ،وصناعة المركزية الزائفة حتى وإن تحالفت بشكل أو بآخر مع النظام الذي ثارت عليه، وهذا الشكل من الحُكم أسَّسَ لنمط تفكير مدمِّر ونمطاً من التاريخ المضلّل والسردية القائمة على التعالي.
الاستعمار هو صنو الاستبداد، ووالده الذي درّبهُ كي يقوم بوظيفته في غيابه، يمثل مقتل حضارتنا العربية التي تقوم على ساقَين: الحرية والاستقلال، بوجود الاستعمار والاستبداد تكون الحياة منقوصة ، وبتعبير أدق مشوّهة ، تغرق في تفاصيل اللهاث اليومي خلف أبسط الأشياء.
*مسارات متعثرة ،وأزمنة مختلفة ،ومصائر مفجعة لأبطال الرواية المهمة، كذلك الحال مع أمكنتها ،وشخوصها ،ومعظمها تدور بين العراق ومصر وفلسطين وسوريا وألمانيا،فهل هذه الشخصيات فضلا على الأحداث ،حقيقية ، أم أنها من بنات أفكارك ،ومن وحي خيالك،وقد جاءت مخاضا طبيعيا بناء على سعة اطلاعك،وكثرة قراءاتك ؟
– لايوجد قصة تُروى في كتب الأدب إلا وكان لها أساس في الواقع، يُضاف إليها الخيال ليعطيها الغرائبية والسحرية التي تحقق المتعة للقارئ، فجميع الشخصيات الواردة في رواية 2003 على امتداد الأزمنة فيها، حقيقية، وقطعاً لم تعِش كل التفاصيل التي مرَّ بها أبطال الحكاية ، لكنَّ استناداً الى ما يجمعها بها .في رواية 2003 الفضاء مفتوح وكأن المنطقة العربية قرية صغيرة تتقاطع فيها المصائر وتتشابه، الجد عربي ولد في سوريا وطاف بلاد الإمبراطورية العثمانية تحت ظلِّ بيرقها، لينتهي به المطاف في ألمانيا قبيل خسارة العثمانيين للحرب، وانتهت الحرب وهو في برلين، لتأخذه الحياة في جولاتها فينعكس ذلك كلَه تخبُّطاً قبل مقتله في أحد المعتقلات الأميركية بعد دخول الولايات المتحدة إلى العاصمة الألمانية، ونكتشف من خلاله مقولات ذلك الجيل الذي لم يجد أجوبة لأسئلته الوجودية وأضاع ما كان بيده من بلاد.- أما الحفيد الذي ولد في سوريا، فيمرر أيامه في البحث عن حقيقة الجد دون وعي مباشر منه بهذه الوظيفة التي يقوم بها طيلة أحداث العمل، نجد أمه في كل منعطف تبرز أخطاء الجد التي يدفع فاتورتها الحفيد، ويتمثل ذلك في الهرب تحت الروث بجرار زراعي إلى الحدود العراقية، في محاولة منه لإيجاد مساحة جديدة على بوابات الوطن للانطلاق نحو “الحياة” من جديد، مراقبته للحرب وجولاتها، ثم تجربته في المعتقل الأميركي في العراق وانتهاء بمقتله في زنزانة على أرض مدينة تقع على الخليج العربي.نحن أمام مسارين اثنين لا يلتقيان بالمنطق الزمني والمكاني، لكنهما يتطابقان تماماً ويعكسان صراعا في الطبقات داخل مجتمع متخلخل حاملُهُ الأساس نحو التقدم الإنساني هو التاريخ نفسه والذي لا يترك الأبطال فرصةً إلا وينتفضوا عليه سواءً لرفعه أو لتدميره.ضمن هذه الفضاءات كان لابد من إدخال نكبة مأساوية درامية في تركيزها، لتكون الغلاف الشامل لكل الأزمات التي تعبر في النص، فجئتُ بالعائلة الفلسطينية التي انتقلت قبل عام 1948 م إلى بغداد واستقرت فيها لتكون جزءاً أساسياً من تركيبتها وصورةً من صور نهوضها الشامل لتحاكي بشكل دائم فكرة الوطن المسروق، الفردوس الغائب، الأمان المسلوب، بتعبير يغيب عنه كل ما سبق بلفظ ” البلاد”.أمام كل هذا برز سؤال خلال عملية الكتابة عن الموثوقية التاريخية، هل أصنع تاريخاً جديداً، أم أعيد تشكيل المكعَّبات الموجودة أساساً بشكل متناثر في زوايا ذاكرة المدينة، وفي تقديري ان إخلاص الكاتب تاريخياً يكمن في التصوير الفني للصدامات الكبيرة التي تعبر بمجتمعه المحلي “والمجتمع العربي بالنسبة لي – على اتّساعه هو مجتمع محلي في ذهني”، لهذا ذهبت تجاه المعالجات الفردية للحالات والحقائق الفردية التي شهدت تحولاً صادقاً وكبيراً.
* استشف بأنك ومن خلال روايتك القيمة تلك واضافة الى الرؤية والرسالة والهدف التي تريد ايصالها الى القراء، بأنك تحوم حول نقطة جوهرية مهمة للغاية، ألا وهي “ان التاريخ يعيد نفسه” وانه بالامكان استشراف المستقبل من خلال قراءة الماضي، واستقراء الحاضر ..فهل تتفق مع ما استشفه ، أم لك رأي آخر ووجهة نظر مختلفة ؟
– بطبيعة الحال فإن الحاضر هو نتاج الأمس، وما نعيشه اليوم – فردياً وجماعياً- هو خلاصة ما أسسنا له في الماضي، ولا شك أن قراءة الأحداث بعين باردة تدفع بشكل أكيد نحو الذهاب إلى خيارات أقل قسوة في نتائجها عن السيناريوهات التي حدثت، نكاد أن نكون الأمة الوحيدة في الأرض بعصرنا الحاضر التي تعيد أخطاء الماضي وفي ظنها أنها ستصل إلى نتائج مختلفة، لو نظرنا إلى الخرائط الآن لوجدنا مناطق تشهد صراعاً واشتباكاً وتوتراً في جغرافيا لا تتصل بحوض البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي، لكنها جغرافيات تحاول ألا تقع في أخطاء الماضي فعندما تصل الأصابع إلى الزناد يعمل العقل مرةً ويفكر مرّتين قبل أن يُشعِل فتيل النار التي ستحرق كل شيء، لا تريد الأمم أن تدفع الفاتورة مرّات كثيرة، هذا يمكن لمسه بشكل مباشر في المجتمعات الأوروبية التي دفعت ثمناً باهظاً في الحرب العالمية الثانية، وشعوبها الآن تدفع بالأيام دفعاً كي لا تعيد تجربة الفقد السابقة لأجيال كاملة.
أمتنا العربية تكتفي بأن تلعب دور المراقب لماضيها، تتغنى به وترفعه بل يذهب بها الحال أنها ما تزال تعيش فيه حتى الغد ، وتبرز في هذه الرحلة الذاتية المضاعفة والمتناقضة في وقت واحد، فنحن نكره الاستعمار لكننا نشيد بما فعل حين تتم مقارنته بالأنظمة الاستبدادية، وفي ذات الوقت ترتكز الأمة بانتقائية غير مفهومة عند رواية التاريخ، فتنسى المهمّشين أو تمر بهم مروراً سريعاً لحساب مركزية مُضفاةٍ وغير دائمة بهدف التجاوز نحو تاريخ أكثر وحشية ودموية. طبعاً هذا لا يقتصر على الأحداث السياسية وإنما يتصل برواية التراث والذاكرة الشعبية ايضا . هناك محاولات لتغيير هذه السردية قد تنجح وقد لا، مردّها الرئيس هو إمكانية قول الحقيقة التي لم يذكرها التاريخ الذي تم تسجيله من قِبَل المُنتَصِر.
* لقد أولت الرواية اهتماما ملحوظا بأوضاع المعتقلين والسجناء في السجون والمعتقلات السرية والعلنية ، ولعل قضية الاختفاء القسري والتعذيب ، والاحتجاز التعسفي ودورها في الاعتلالات السيكولوجية والفسيولوجية والايدولوجية للسجناء سواء داخل السجن او خارجه بعد اطلاق سراحهم شكلت هاجسا عندك ،من دون أن تذهل عن مثيلاتها من الاعتلالات المناظرة التي يعانيها الجلادون والسجانون والمخبرون السريون ..فهل هذه التصورات عن تجارب شخصية عشتها ومررت بها ، ام عن قراءات و دراسات ومتابعات سبقت كتابة الرواية ، وربما عاصرتها ايضا ؟
-نحن نعيش في سجن مفتوح اسمه الوطن العربي، تفصل بين زنازينه حدود مرسومة على الخرائط تعمِّقُ الهوَّةَ بين الإخوة، فإذا كان العربي يقضي سنواته الأولى بتعلم الكلام فإنَّ أحداً ما في مكانٍ ما يعلِّمهُ فنَّ الصمت ما تبقى له من عمر، يمكن الإشارة هنا إلى أن رسم كلمة ” لا” في العربية تشبه حبل المشنقة، هذه السجون الممتدة على شكل متحف مفتوح تسكن في داخلها سجونٌ يدفع فيها جزء كبير منا ثمناً باهظاً من صحتهم وأيامهم، الآن وأنا أكتب هذه الكلمات هناك من يتم تعذيبه في زنازين رطبة لا تدخلها الشمس، تُنتَهَك فيها الكرامات ويُسحَل فيها الإنسان.
في طفولتي المبكرة رأيت معنى أن يخرج الإنسان من السجن بعد سنوات من الغياب، يفقد معرفة الطريق إلى بيت أهله، يبذل جهداً في التعرف على محيطِه السابق، ويحاول مراراً التأقلم مع عادات جديدة، فليس عليه الوقوف مثلاً وإدارة وجهه إلى الحائط ورفع يديه في حال دخل أحد ما فجأة إلى غرفة يجلس فيها. لمست فيما بعد بشكل مباشر معنى أن تكون مستلباً بشكل كليٍّ أمام قوةٍ تملك رقبتك، تفرض عليك أسلوباً في قضاء الوقت وإثبات الحضور.
لقد ورد في الرواية ” الزنزانة قاتلة للعمر، مساحة للحزن، الرفقة فيها تعني أن هناك متسعاً لحديث لم يكتمل مع النفس وتقيضها، تصاحب ظلَّك المختبئ في الظلام بكلام عن بغداد وضواحيها، عن الحلم الذي لم يكتمل، عن طيف بلاد تطارد السجين ولا ترحل”.
لكن هل هذه رواية واحدة للحقيقة، إنها طرف منها فقط، هناك على الضفة الأخرى المقابلة، حكاية سجَّان يقارب في عذاباتِه – التي ستأتي لاحقاً- عذابات المعتقل، هذه ليست محاولة لتبرأة الجلّاد وإنما رؤية الأحداث بعين باردة بعد سنوات من التجربة، لقد جلست بين سجّان وسجين سابق، كان الأخير قد تخلَّصَ من كل ما علِق بجسده من ندوب بينما ظل الأوَّل محاصراً بالصرخات، معادلة الخوف انقلبت حينها لأن السجّان يملك قوة زائفة غير حقيقية.
من الجدير ذكره أن مؤلف رواية (2003) ،عبدالله مكسور، هو روائي وصحفي عربي، ولد في سوريا، درس الآداب والعلوم الإنسانية، وعمل بالصحافة المكتوبة والتلفزيونية منذ عام 2007، صدر له ست روايات أدبية آخرها رواية 2003 عن دار هاشيت أنطوان في بيروت، وهو عضو في نادي القلم ، ونقابة الصحفيين البريطانيين، ومدرب دولي للسلامة المهنية الصحفية وتغطية أماكن التوتر والنزاعات، معتمد من الاتحاد الدولي للصحفيين ، وشبكة أريج ” إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية”.