23 ديسمبر، 2024 5:57 م

ما يُمكنُ القول عن : لمَ يسرقون احلامنا ؟ – رواية / فاطمة الحسّاني

ما يُمكنُ القول عن : لمَ يسرقون احلامنا ؟ – رواية / فاطمة الحسّاني

أغلبُ الظنّ أن زمنَ الرواية الطويلة ولّى ، ففيها تفصيلات وترهلات انشائية لا تُجدي ذات الرواية ولا تكملُ بنائيتها . لكن يُمكنُ أن نبني واحدة تختزلُ الزمن والسرد واللغة وتنأى بنا عن هوامش تُثقل كاهلها . قبل ثلاث سنوات ارسل اليّ صديق / تمتدّ صداقتنا الى منتصف خمسينيات القرن الماضي / روايته من ستمئة صفحة ونيّف .حين قرأتُها عراني المللُ كونها تستغرقُ في الحشو والتكرار . فثمة َمشاهدُ هي المشهدُ نفسه بعد عدة فصول . الحدثُ مكرّر ومغتربٌ عن سياقه ومغترفٌ من نمطية الأسلوب وعشوائيته يفتقر الى الجدّة لغة وسياقاً . حين ابنتُ له عن رأيي زعل . قلتُ : ينبغي ان تُختزلَ الى الربع فيذهبُ ما هوجفاءٌ ويتبقى الجذرُ والخلاصة . فمَنْ يجدُ في زمن الكومبيتر والهواتف النقالة وآلاف القنوات الفضائية وقتاً لقراءة رواية تقتربُ من سبعمئة صفحة . وحين سألتُ صديقاً عن تلك الرواية ، قال : مملة اقرأ صفحتين واترك عشرين صفحة . اذن كنتُ على حق .
قلتُ هذا الكلام وأنا اقرأ بضع روايات لا تتجاوز صفحاتها ال / 150 صفحة / وهي رصينة ذات نسيج متكامل ولن تستطيع تركها الا بعد الإنتهاء منها . ومن ضمنها رواية / لمَ يسرقون احلامنا / للكاتبة العراقية فاطمة الحسّاني . حين تبدأ بقراءة مبتدأ روايتها الجديدة / الصادرة عن دار الغاوون  / نهاية 2012 ، تفتحُ لنا وضع المرأة العربية ، والعراقية بوجه خاص . وعلى الرغم ممّا عرا المجتمع العراقي من تحولات اقتصادية ومعرفية على جميع الأصعدة  الا ان المرأة ظلت مُكبّلة بعادات وتقاليد جاهلية في ادنى سلم التخلف . ولا يغرّنكم ما تلبس وما تعمل ولها صوتٌ داخل البرلمان . كلّ هذه المظاهر فقاعاتٌ وحسبُ . تعالوا معي نلجْ بيتاً عراقياً هو مثل كلّ البيوت نرَ السلطة الذكورية القامعة القائمة فيه ، هي من بقايا ايامنا العابرات ، ايام الرمل والخيمة والعقل الحجري حيث كان الآباء يئدون بناتهم . لكن الزمن العربي بكل تقلباته الحضارية لم يستطع ازالة تلك اللطخة عن سيماء حياتنا . فظلت المرأةُ تلك المقموعة الموءودة في قاع بيتها وسنواتها ومجتمعها ، وعلى الرغم من تلك الفقاعات المظهرية . فثمة آبٌ مثلُ عشرات الآباء المُتخلفين كبلّ اولاده / بنيناً وبنات ٍ / بقيود عشائرية  لا يُغادرون الدارولا يعودون اليها الا بأمره .. هذا الضغط المتوارث لا بدّ ان يتعرض للتمرّد والثورة . فثمة ثوابت اجتماعية حضارية تطفو احياناً ويخضع لها الأبُ المتزمتُ ، حيناً على مضض . وحيناً يفرضه عليه مجرى الحياة . ولكي يثبت الأبُ القامع تفهمه للواقع يسمحُ لإحدى بناته المتفوّقات ان تلتحق ببعثة دراسية في لندن . خلل رفض وموافقة العائلة . الشبابُ مع التحاقها بالجامعة هناك ، والعجائز متشبثات بالرفض . لكنّ / رواء / كانت مصرّة ومندفعة وواثقة أن الدراسة خارج حدود الأسرة والبيت ستفتح امامها آفاقاً جديدة . تقول الكاتبة في مقدمتها القصيرة : / في احلك الأيام يجدُ المرءُ نفسه مدفوعاً لأن يختار مرفأ ًيُرسي فيه امنياته . فوجدتِ نفسكِ تتربّين بشكل جديد وقلتِ :ما الخطا ُ في أن اُعيدَ ولادتي ثانية ً ؟  ازدحمت عليكِ دروسُ الحياة فشكرِتِها. …. وتقول أيضاً : من الألم يولدُ حيٌّ ، ومنه يغدو انساناً / لكنها تركت وراءها ثلاثَ عوانس : عمة واختين . لكنّ الحياة ، على الرغم من بطء خطاها ستشهد تغييرات / هي قفزات تمرّد ووعي وعناد / وفي لندن رأت الحياة بكلّ آلائها واناسها وحلقات حضارتها فانغمست فيها بجد ويقين . اكملت دراستها ، بل احبّت ووجدت حبيباً وتزوجته وانجبت ، ثم عملت على سحب اختيها وانتشالهما من الجحيم . وانخرطتا في العمل ، لكنْ تنقصهما لفحة ُالحب وركيزة الزواج ، فللعمر محطاتٌ للاختيار، وقطار العمر سيمضي بلا محطات وخلل السباسب القاحلة . الا ان الحسّاني تقطع دابر اليأس لدى الأختين ، فتنغمسُ احداهما في حبّ متأخر مع رجل ارمل يتحابّان في صمت ويتزوجان . بينما الثاثة تعود الى الوطن لتجيء برفقة طفلين قُتل ابواهما في انفجار عشوائي غادر ، اخذتهما من دار الرعاية وجاءت بهما الى لندن / طفل ابى ان يترك اخته ، بينما اختيرَهو وحده . وحين رأت انه متشبثٌ باخته حدّ التضحية احترمت هذا الوفاء واختارتهما معاً . لكن الوضع المتفجّر بين الأب والبنات بدأ يسلسُ ويهدأ ولا مناصَ امامه سوى الرضوخ للأمر الواقع . فهل يُحالف الحظ بقية البنات العراقيات المقموعات الموءودات في عقر بيوتهن كما حالف الحظ ُّرواء واختيها . الحسّاني تطوي صفحات روايتها عند هذا الحدّ. تاركة ً ثمة مئات الألوف من البنات العراقيات قابعات في مثاوي العنوسة ينتظرن الأمل والبشارة  . وسنظلّ ُ نتساءلُ : متى يعنّ ُ اوانُهما ليُزلزلا هذا الزمن الجاهلي الذي يُعشش في نسيج حياتنا ويلفّنا بغبار الجهل؟
الحسّاني في روايتها جرت مجرى الواقعية ، لكنْ مُتخطيّة كلاسيكيتها النمطية ، فصوّرت تفاصيل الحياة برؤية حصيفة . وقارنت بين المجتمعين اللندني والبصري . البصرة في ايامها الغائبات تتقاذفها الظروف والسنوات حلوة ومرّة ، ثمّ المجتمع اللندني بكلّ معطياته الحضارية . ولأنّ دواخلهن ممتلئات بالضوء والألق فقد انخرطن في الزمن الأوربي من دون عقد . الحسّاني كانت بارعة في رسمهن وما تنطوي عليه نفوسهن . بل كانت تشكيلية أظهرت الحياة بكل تضاريسها والوانها واوجاعها ، خيرها وشرّها .
حين تنتهي من قراءة الرواية تُحسّ انك عشتَ كل تفصيلاتها ، بل كنتَ احدى شخصياتها الرئيسة . مرّة تعيشها من الخارج ، وأحياناً تعيش في وسطها الساخن .
لمَ يسرقون احلامنا ؟ رواية تقول الكثير في صفحات قليلة مركّزة ، ولغتها شعرية كما لو كانت اغنية طويلة .