لطالما كان التعرض بالانتقاد والانقياد نحو الحدث الصاغر عبثا ولا يجدي نفعا ولابد من الاسراء به الى الاصل او القاعدة التي انطلق منها للوقوع على مكنوناتها؛ وما كان حديث الساعة على الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون الا مثقال ذرة من فقه الاجتهاد الذي تمدد ومنذ اماد مديدة ليكون ظاهرة فوقانية معقدة وصعبة التفكيك اخذت ترتبط بالسلطة الدينية كمفهوم ستراتيجي لاستخدامه كاداة للتحكم في عقول الاتباع والمقلدين والعوام وعبر قرون من الموروث التاريخي الموبوء بالتأويل والتنظير؛ وتمكن العاملون على الاجتهاد بالحاقه بالثوابت الدينية الشرعية وبالنتيجة تأسست منظومات عقائدية غاية في التعقيد والتركيب ليبقى المتلقون تحت ظل الجهل المطبق من التعاليم الشرعية ويسلموا بوضع العاملين على الاجتهاد تاجا على رؤوسهم ويلبسوهم ثياب التقديس بلا وعي ولا ارادة ولا ترجيح للعقل فينقاد التابع ببصيرة عمياء لما يتم تشرعيه في قبول استسلامي بلا خوض في النقد والشك والتجريب التي تكون قواعد العلوم المختلفة, وكل التنظيمات والحركات والتيارات التي ظهرت والتي ستظهر هي نتاج يعتمد فكر الاجتهاد كقاعدة تتلبس بها لتطبيق ممارساتها من اجل اضفاء الشرعية عليها واذا تفحصنا وبتمعن تاريخ الاجتهاد على مدى قرون نرى انه يغط بالنصوص ويتحدد بالاحاديث التي وضعت بعد 200 سنة من الاصل وابتعد العاملون عليه من النظر الى المجتمع والانسان والمعرفة كجوانب يرتكز عليها مفهوم الفكر الديني ولهذا لم يتمكن ولن يتمكن من تقديم اي مشروع انساني او اجتماعي او اقتصادي يرتبط بالتاريخ وبالخصوصية التي تميز المجتمعات بعضها عن بعض ما دام يتعمق فقط بالموروث ولا ينفذ الى العلوم الاخرى التي ترتبط بالتطوير على اساس حضاري .
وخلال قرون خلت لم يفلح القائمون على الاجتهاد من ان يولجوا الدين بالمجتمع الانساني والظواهر التي يحدثها واصبح كل منهم في فلكهم يسبحون وحصروا كل التشريعات والعبادات بطريق واحد ينتهي ببابين “الحلال والحرام” وعندما شعروا ان ذلك الطريق سيسحب السلطة السياسية من تحت ايديهم ابتدعوا وبما اكتسبوا من فقه وتاويل وتفسير “المدارس والتيارات والحركات” باشكالها المختلفة الفلسفية والخارجية والاعتزالية والصوفية وغيرها ثم تحولت بفعل السياسة والسلطة الى عقائد وطوائف ومذاهب وبعد قرون اخرى تحول الاجتهاد ليكون خاصا بعد ان كان عاما ليحتوى التشريعات داخل المذهب والطائفة حصرا فجاءت التسميات لأضفاء التقديس على المجتهدين كآية الله والامام والولي الفقيه والخليفة وحسبنا ما نعرفه وما هو قادم قد يكون أعظم, ومن هنا انطلقت الصراعات الفكرية والتشريعية والتحقيقية بين المذاهب التي خرجت من بطونها مذاهب وطوائف تختلف عن بعضها تبعا لمرجعياتها وصار التنابز على أشده فكل منهم يملك من الكتب ما يستدل به ويفند به الاخر, وكان من الواضح ان باب الحلال والحرام لم يعد كافيا في تخصيص العقائد فابتدعوا ما بينهما ابواب اخرى كالاحتياط وجوبا وطوعا والمستحبات والمكروهات المؤكدة وغير المؤكدة والاستدلالات الخرافية والساذجة وفي هذا قد كتب المفكرون ما يغنينا عن القول فيه وهذا ما حجب الدين كفكر ومفهوم من امتداده الانساني والمجتمعي والتعبدي واصبح من العسير على الفرد من النفوذ اليه الا من خلال طائفته أو مذهبة أو ما يعتقد به من الرسالات وما يتبع من رجال السلطة الدينية, واحتارت النخبة من خلاصة المفكرين في ما يعنيه الدين في يومنا هذا … !
ومن منطلق التحقيق يحق لنا كسائلين باحثين عن حقيقة ما يجري في معترك الصراع الديني وغيره من تلك المفردات التدبيرية والمنهجية ولنتبصر في ان نفكك الجوانب الاساسية المكونة للدين كمنهج للاجتهاد وليس كمعتقد حتى لا نحصر الحديث عنه في أطر وجوانب ضيقة فنتسائل- هل المقصود بالدين هي ارتباط المعتقدات الشخصية القلبية لدى الانسان ان كان مواطن او فرد بالمفاهيم الحديثة التي ترتبط بالفكر السياسي والاجتماعي الخاص بكيان الدولة او مؤسساتها وما يرتبط بها من نظام ودستور وقوانين وأطر اجتماعية عرفية قائمة أم المراد بذلك هو منهج الحكم أي الاحكام الشرعية التي يكون غطاءها المدونات الدينية التي تناقلها التاريخ عبر اجيال من الاجتهاد والمجتهدين, أو قد يكون المفهوم والقصد هي تلك التعابير من التعبدات الشرعية والممارسات والظواهر السلوكية للدين في أوساط رجال الدين وولاتهم واتباعهم كاللحية والمسبحة واللباس, الشعائر, الرموز, الطقوس, الخطاب, المنابر..ألخ أم المقصود بالدين هي الحدود والعقوبات والقصاص التي خلفتها الموروثات الدينية سواء كانت من النصوص الاصلية او مما تعاقب عبر الحديث والتاويل والاجتهاد أو قد يكون المقصود جامعا مانعا وشاملا لتاريخ الدين وحضارته وسلوكياته ومنهجه كما حفظت وكما رويت وكما وصلت عبر مدوناتة من الكتابات التاريخية والاسطورية عبر بوابات متناقضة متشابهة علينا وهي بالتالي نتاج زاخر لا يمكن احتواءه من بدايه معروفة الى نهاية غير معروفة .
ولاسباب عديدة اهمها توسيع النفوذ داخل مكنونات السلطة الدينية وتوسيع قواعد ادواتها اصبح الاجتهاد يتعاكس مع الاتجاه الذي من المفروض ان يسلكه فبدلا من ان يكون عاملا مساعدا فاعلا في التوسع في العلوم الدينية وتناسقها وارتباطاتها بالمفاهيم الحداثوية التي تؤثر على العلوم السوسولوجية والانثروبولوجية لتدعيم القيم الاخلاقية والصفات الانسانية لما يمكن ان يحدثه التغاير الزمني والتواصل التقني بين المجتمعات نجد ان الاجتهاد اصبح اداة مهادنة بيد العامة والحركات الاصولية واصبح العاملون عليه بمازق فقهي وفكري وعلمي خطير وباتت الازدواجية قائمة بين ما هو ثابت من الحقائق النصية وبين ما تلحقة العامة من جهل او ما تحدثه الحركات الاسلامية من خراب في البنى العقائدية التي ترتكز عليها الثوابت الدينية, وفي كل مرة تكون الغلبة للعامة من الجهلاء والمتعصبين بعد ان يتنامى الحدث لياخذ فعلا او ظاهرة جمعية يصعب نقضها او القاء الحجة عليها, يبدا الحدث اساسا من احد العامة يفعله بقصد او بغير قصد ثم ينتشر لجهل المتلقيين واستحسانهم للفعل اظهارا للولاء او للطاعة ثم تصبح شائعة ومتراكبة بعد ان تاخذ تعقيدات اكثر من حجمها وتصبح من الطقوس المسلم بها عبر حقبة من الزمن يكون الاجتهاد قد اغفل عنها ثم يظهر من يضفي عليها الشرعية أو من يأولها بان ليس هناك نص ثابت بحرمتها وهم لا يستطيعون ربطها على الاقل في الرياء او الغلو في الدين فيظهر الخلاف الفقهي في الحدث وهنا مكمن الخطر في التشريع الذي يجعل الاجتهاد يتبع الحدث ويهادنه ويضفي الشرعية عليه ولا يدرس تاثيراته على المجتمع ومدى الاثر الذي يتركه على الاجيال القادمه والتي سترى ان هذه الاحداث هي من الشعائر والطقوس التي من خلالها فقط يمكن ان يقترن الانسان بالدين كفكر وروحية وتطبيق لكثرة تداوله ولصعوبة الخوض في الموروثات وتعقيداتها وتناقضها وتكرارها وعدم مواكبتها للتحضر وتفاعلاته الانسانية .
اليوم اصبح فقه الاجتهاد ومؤسساته والعاملين عليه عبئا ثقيلا على المنظومة الاقتصادية والفكرية والمجتمعية وقد سوّر نفسه بجدار صد لا يمكن تجاوزه او النفوذ من خلاله فقد لبس كساء التقديس باوصافه المختلفة ليكون قاب قوسين او ادنى واصبحت لديه مدارس وجامعات تخرج المبلغين والمبلغات والارساليين والارساليات وفي المقابل علينا ان نغادر عقولنا وننسى العلوم التي درسناها والسلوكيات المتمدنه لكي نسلم للسادة والشيوخ تسليما وهم باقون ويتحصنون بجدار فقه الاجتهاد والعلوم الشرعية التي تستهلك منا الكثير من الفكر والوقت والاموال وتصدنا عن سبيل علوم الحياة والنجاة من طرق التجهيل والتخريف فليس من المعقول ان يمتد بنا فقه الطهارة والنجاسة منذ اربعة عشر قرنا ليملي علينا كيف نغتسل وندخل الخلاء وماهي الكلمات التامات التي نقولها قبل الدخول وبعد الخروج بينما نرى علوم الحمامات وصناعها قد وصلوا الى ان يجعلوا الحمام الحديث زاهيا براقا واطهر حتى من بعض اماكن الطهارة عندنا؛ وليس من المعقول ان يختلف فقه الاجتهاد في اية الوضوء بين اصحاب الولاية والخلافة وكل منهم يبطل الاخر فان بطل الوضوء بطلت الصلاة وان بطلت الصلاة بطلت الاعمال وان بطلت الاعمال فاعلم انك ذاهب الى جهنم وبأس المصير بامر المجتهد الفقيه بدون الرجوع الى من أنزل الاية؛ وليس من المعقول ولا المقبول ان فقه الاجتهاد يظل يعالج الفقر ويكافحه بالصدقة وهي اذل وأمر على الناس واشد ذلة وان نبقى ندوال امنية “لو كان الفقر رجلا لقتلته” ونعتبرها فكرا ومنهجا بلا تطبيق على ارض الواقع وعلينا النظر الى العالم الذي نريد ان نفرض عليه الجزية كيف اسس مشاريع التنمية المستدامة وجعل الفقير منتجا بدل التسول وهو يدعو فلا يستجاب له الدعاء؛ ومع قدرة قرية الاتصالات العالمية الفائقة الانتشار اصبح فقه الاجتهاد مثارا للجدل حتى من الذين لا يملكون منهجا او علم او دراية وبات سدا مانعا ليصد الفكر الانساني من التقدم ومع ذلك لا زلنا في ازمة فكرية عميقة كيف يمكن التصدي لهذا الفقه وكيف يمكن مغادرته كما فعل الذين من قبلنا قبل قرون عديدة باصحاب الكهنوت والقديسين من رجال الكنيسة فجردوها من سلطة الاجتهاد والحكم وكان مردُّ ذلك عليهم عظيما .
قحطان اليابس