19 ديسمبر، 2024 12:18 ص

ما وراء السحب.. إدانة  للحروب وخساراتها

ما وراء السحب.. إدانة  للحروب وخساراتها

صدر للقاص عبد الجبار الحلفي ، دار رند للطباعة والنشر – دمشق- مجموعته القصصية “ما وراء السحب”، الغلاف للفنان” صفاء مرزة “. القاص عبد الجبار الحلفي أهدى مجموعته حباً واشتياقاً إلى : ” ولده الشاب ثائر وابنته الشابة  لونا .. الذين غادرا في وقت مبكر “. ضمت”ما وراء السحب” عشر قصص قصيرة هي “ما وراء السحب وغدٌ آخر وتلول المنفى وسيدة السلم الحجري والمقبرة والكهل وريح يوسف وإذلال والطبل والطفل وحلم الفراش، وقد وقعت المجموعة على (90 ) صفحة من القطع المتوسط. في قصة (ما وراء السحب)، التي تحمل مجموعة الحلفي اسمها ، الراوي يصادف أثناء القصف الأمريكي على العراق في الشهر الأول عام 1991امرأة تحمل طفلاً وهي متكئة على سياج ومتهالكة. ويعمد الراوي إلى حمل الطفل بعد ما طلبت منه المرأة ذلك بصعوبة .. لكنه لا يعرف أين سيتجه به خاصة، بعد مقتل الأم، بفعل الطائرات التي تلقي حممها على المدينة وسكانها، ويقرر ،الراوي، أن يحتفظ بالطفل المجهول بالنسبة له:”تناولتُ الطفل الذي لم يتجاوز السنة من عمره. وكان ينشب أصابعه بعباءتها صارخاً. فأفلتت هي أصابعه الصغيرة المتصلبة من عباءتها. وكانت تحشرج بكلمات.. هنا نفترق..أنا ..أنت.. لو كنت.. نذرتُ.. صعب عليّ.. لو تأخذ ثديي.. من تحت عباءتها، انساب سائل احمر فاقع ببطء فوق الرصيف الأسمنتي”(ص 8 ).” المرأة، المحها كتلة سوداء تنكمش لصق الجدار. والطفل يضج عويلاً. ويسعل من فرط صراخه. وعيناه الحمراوان ترصدان تلك الكتلة التي راحت تصغر.ويدفع صدري بكفيه إلى الخلف..كانت عينا الطفل تتطلعان نحو ذلك الأفق المضطرب.. حتى خلتُ أنها تستشفان ما وراء السحب”(ص 9 -10 ). قصة” ما وراء السحب” شارك فيها الحلفي بمسابقة اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين- بغداد سنة 1994، والخاصة بالقصة القصيرة ، وفازت بجائزة تقديرية ، وقد نشرت جريدة (الجمهورية) جميع القصص الفائزة، باستثناء هذه القصة التي مُنعت من النشر مع فوزها كونها كانت تدين حرب النظام المنهار. لكن القاص الحلفي علم أنها نشرت خارج العراق في صحيفة عربية تصدر في لندن بتاريخ 1999، ولم يعرف حتى اللحظة مَنْ أرسلها إلى تلك الصحيفة؟! . يعمد الحلفي في قصص أخرى لموقف الإدانة للحرب ، فقصة” غد آخر”(ص14) تتجه،كذلك، لوصف الحروب بالرعونة  والهمجية من خلال (جندي) يستغرب سكوت المدافع والنيران التي اعتاد عليهما دائما.أما قصة”سيدة السلم الحجري”(ص19) فنلاحظ اهتمامها بالمكان الذي كلما ننأى عنه ،نستعيده، ونسقط على بعض مظاهره ، الإحساس بالألفة والأمن اللذين يوفرهما لنا. وكذلك بوصفه دلالة في الرمز.وبما أطلق عليه “بارت” اثر الواقعي الذي لا تفك شفراته في العمل التخيلي إلا بعلاقته ببقية الخطاب. بحدود إطلاعنا البسيط،ربما لم يكتب احد عن مقبرة (الغري أو دار السلام)،وهي أكبر مقبرة في العالم، كما روى الحلفي عنها في قصة “المقبرة”(ص27 -44 ) والتي يرد فيها:” ليس ثمة باب لهذه المدينة كي ما تدخلها.. تضيع كأن طائراً ضخماً تلقفك وهوى بك في منخفض سحيق” فثمة رجل يدخل مدينة الموتى هذه باحثاً عن امرأة عشقها في يوم ما، وبقيت حية في روحه مع غيابها المادي، وبعد عناء البحث المتواصل من قبل الرجل في اكبر(مقبرة) في العالم، تنتهي جولته في قبر مجوف مجهول لا شاخصة عليه. أما قصة( الكهل) المهداة إلى الروائي إسماعيل فهد إسماعيل فهي تتناول ثيمة رجل عجوز، مشرد، يبتاعه صاحب عربة يجمع ويبيع العتيق ،زمن الحصار: ” طوق الرجل رقبتي بسلسة فرس أرهقتني ما دام الليل والنهار وربطني إلى عمود من حديد ينتصب جنب سياج الدار. عندما رأتني زوجته ذات الملابس السود المتسخة، عبست وأمسكت بيديها قبضتين من شعر رأسها وأسدلتهما على وجهها المتضرس حاجبة عينيها. وقد استدارت برأسها إلي يغمرها الضجيج.. أما هو، فقد امسك بحزمة من شعرها ومررها بين السبابة والوسطى، ثم أزاحها عن طريقه، نافضاً ذراعيه العاريتين”(ص47 ). وفي قصة “ريح يوسف”(ص 51 ) ثمة امرأة تأتي لزيارة قبر ولدها، الشاب، الذي قتل في الحرب العراقية- الإيرانية وهي بمثابة استرجاع يصور الأمهات العراقيات اللواتي فقدن أولادهن في تلك الحرب العبثية. أما في قصة ” إذلال” فيتحول فيها مخيال القاص، بشكل غريب ولا تبرير له ، إلى الانتقام من شخصيات قصصه. وتتناول قصة” الطبل والطفل”(ص61) طفل أصم وأبكم يدخل بصحبة والده مخزناً كبيراً للتبضع، لكن الطفل يطلب شيئاً ما يجهله البائع فيعمد، الطفل بواسطة الإشارات لطلب سيارة صغيرة تعمل بالبطارية ، لكن البائع يجهل تلك الإشارات الخاصة بـ(الصم والبكم) فيعرض عليه طبلاً، عندها يردد الأب لنفسه: ماذا يسمع الأصم من الطبل؟!. أما قصة “حلم الفراش” فهي تراجيديا مفعمة بالخيال والبناء السردي الذي يتيح للمتلقي للحدث المركزي في القصة وتقبلها بتعاطف كونها كتبت بتيار الوعي مرة ومساهمة الراوي الواعي للحدث مرة وبالواقعية الرمزية مرة أخرى. مجموعة القاص عبد الجبار الحلفي وغيره من القصاصين العراقيين الذين يعيشون ويصدرون كتبهم في الهوامش تواجه بالتجاهل،غالباً، من قبل النقاد ومحرري الصحف الثقافية مع إنها تكشف، عن مبادرات متميزة في الحداثة القصصية العراقية من خلال تقديمها للمتلقي متعة التخيل والواقعية المرتبطة بالفانتزيا والغرائبية. القاص عبد الجبار الحلفي نشر الكثير من القصص في الصحف والمجلات العراقية والعربية، ويحمل شهادة الدكتوراه في اقتصاديات النفط ومن الخبراء المعروفين في هذا الجانب، وتأهل لنيل جائزة الدراسات الأكاديمية المعاصرة في لندن بصفته رئيساً لقسم الدراسات الاقتصادية بمركز دراسات الخليج العربي- جامعة البصرة ، وله بحوث عدة منشورة في مجلات محكمة عراقية وعربية وأجنبية تخص النفط والطاقة. كما صدر له كتاب عن مركز العراق للدراسات- بغداد 208 وبعنوان ” الاقتصاد العراقي- النفط- والاختلال الهيكلي والبطالة”، وكذلك صدر له في دمشق عام 2012 كتابه المعنون” دراسات في القصة العراقية”. وصدر له كذلك كتاب ” دراسات في الفكر الاقتصادي للسيد محمد باقر الصدر”- دمشق-2012 ،كما وأصدر كتاباً مشتركاً مع الدكتور نبيل جعفر عبد الرضا، عن المركز العلمي العراقي- بغداد- دار ومكتبة البصائر- بيروت ط1 -2013 بعنوان “نفط العراق.. من عقود الامتيازات إلى جولات التراخيص”، سبق وعمل في الصحافة وكان مسؤلاً عن القسم الثقافي في صحيفة “الخليج ” خلال عقد الستينات وساهم ضمن جماعة (12 ) قصة بصرية بحلقتيها، التي صدرتا في عامي 1971-1972.