في عالم مليء بالتغيرات السياسية والدبلوماسية، وتتشابك فيه الأحداث بسرعة تفوق أحيانًا قدرتنا على الفهم، يصبح من الضروري أن نتوقف للحظة، نفكر، ونحلل ما يدور حولنا بعقل مفتوح وروح تسعى للحقيقة.
*هذه السلسلة التوعوية، التي تتكون من خمسة مقالات، ليست مجرد كلمات على ورق، بل محاولة صادقة لإنارة الطريق أمام القارئ العربي، لفهم مفاهيم وأحداث أثارت جدلاً واسعًا في مجتمعاتنا، مثل الاتفاقيات الإبراهيمية، مفهوم “الديانة الإبراهيمية”، والشائعات المرتبطة بالماسونية*.
لم أكتب هذه السلسلة إلا لإيماني العميق بأهمية التثقيف والتوعية في زمن كثرت فيه الروايات المغلوطة ونظريات المؤامرة التي تُغرقنا في الشك والتضليل. هدفي ليس الترويج لهذه المفاهيم أو تبني أي منها، ولا الدفاع عن أطراف بعينها، بل تقديم تحليل واضح ومبسط يُمكّن القارئ من تكوين رأي مستنير.
في هذا المقال الأول، نستعرض الاتفاقيات الإبراهيمية، وهي سلسلة اتفاقيات أثارت جدلاً واسعًا في العالم العربي.
*ما هي الاتفاقيات الإبراهيمية* ؟
الاتفاقيات الإبراهيمية هي سلسلة من الاتفاقيات الدبلوماسية التي وُقّعت عام 2020 بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وهي: الإمارات العربية المتحدة، البحرين، السودان، والمغرب، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية. سُميت بهذا الاسم نسبة إلى النبي إبراهيم (عليه السلام)، الذي يُعتبر رمزًا مشتركًا في الديانات التوحيدية (الإسلام، المسيحية، اليهودية)، بهدف إبراز فكرة الوحدة والتعايش. وتهدف هذه الاتفاقيات إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، تشمل تبادل السفارات، والتعاون في مجالات الاقتصاد، التكنولوجيا، الأمن، والسياحة.
بدأت الاتفاقيات بإعلان مشترك في أغسطس 2020 بين إسرائيل والإمارات، أعقبته البحرين في سبتمبر، ثم السودان والمغرب لاحقًا. وُقّعت الاتفاقيات رسميًا في البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، في حدث دبلوماسي وُصف بـ”التاريخي” من قِبل المؤيدين. لكن هذه الخطوة لم تخلُ من الجدل، خاصة بسبب غياب أي تقدم ملموس في حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
*السياق التاريخي: لماذا الآن؟*
لم تأتِ الاتفاقيات الإبراهيمية من فراغ، بل كانت نتاج سياق سياسي وإقليمي معقد. في عام 2020، كانت إدارة ترامب تسعى لتحقيق إنجاز دبلوماسي قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، خاصة بعد تعثر “صفقة القرن” التي هدفت إلى حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لكنها قوبلت برفض فلسطيني وعربي واسع. الاتفاقيات الإبراهيمية قدمت بديلاً، حيث ركزت على تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية دون اشتراط حل القضية الفلسطينية، وهو ما كان شرطًا أساسيًا في المبادرة العربية للسلام (2002).
على الصعيد الإقليمي، كانت التوترات مع إيران دافعًا رئيسيًا. دول الخليج، مثل الإمارات والبحرين، رأت في التعاون مع إسرائيل فرصة لتعزيز الأمن الإقليمي ضد ما تُسميه “التهديد الإيراني”. كما أن التطورات الاقتصادية، مثل رغبة الإمارات في تنويع اقتصادها والاستفادة من التكنولوجيا الإسرائيلية، لعبت دورًا كبيرًا.
*دوافع الأطراف: ماذا جنت الدول الموقعة؟*
كل دولة وقّعت الاتفاقيات كان لها دوافعها الخاصة:
الإمارات العربية المتحدة: سعت إلى تعزيز مكانتها كمركز اقتصادي عالمي من خلال التعاون مع إسرائيل في مجالات التكنولوجيا، الزراعة، والطاقة. كما رأت في الاتفاقية وسيلة لمواجهة إيران وتعزيز تحالفاتها مع الولايات المتحدة.
البحرين: تبعت خطى الإمارات، مدفوعة بمصالح أمنية مماثلة، خاصة أنها تستضيف الأسطول الخامس الأمريكي. الاتفاقية عززت علاقاتها مع واشنطن.
السودان: كان توقيع الاتفاقية جزءًا من صفقة لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مما فتح الباب أمام مساعدات اقتصادية ودعم دولي.
المغرب: حصل على اعتراف أمريكي بسيادته على الصحراء الغربية، وهو مكسب دبلوماسي كبير، مقابل التطبيع مع إسرائيل.
من جانب إسرائيل، كانت الاتفاقيات فرصة لكسر عزلتها الإقليمية، وفتح أسواق جديدة، وتعزيز شرعيتها الدبلوماسية. أما الولايات المتحدة، فقد رأت في الاتفاقيات وسيلة لبناء تحالف إقليمي ضد إيران وإثبات قوتها الدبلوماسية.
*ردود الفعل: بين الرفض والتأييد*
أثارت الاتفاقيات الإبراهيمية ردود فعل متباينة في العالم العربي:
الرفض الفلسطيني: اعتبرت القيادة الفلسطينية الاتفاقيات “طعنة في الظهر”، لأنها خرقت الإجماع العربي الذي يربط Tطبيع بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967. الشعب الفلسطيني رأى أن الاتفاقيات تهمش قضيته وتُضعف موقفه التفاوضي.
الانتقادات الشعبية: في دول مثل السودان والكويت، شهدت الاتفاقيات احتجاجات شعبية، حيث اعتبرها البعض تنازلاً عن القضية الفلسطينية. حتى في الإمارات والبحرين، واجهت الاتفاقيات انتقادات من أوساط دينية وشعبية، رغم دعم الحكومات.
وجهة المؤيدين: المؤيدون، خاصة في الإمارات والبحرين، رأوا أن الاتفاقيات تُعزز الاستقرار الإقليمي، تفتح آفاقًا اقتصادية، وتُسهم في مواجهة التحديات المشتركة. كما أُشيد بالتعاون الثقافي، مثل الرحلات الجوية المباشرة والفعاليات المشتركة.
*قمة الرياض 2025: توسيع الدائرة؟*
في مايو 2025، عادت الاتفاقيات الإبراهيمية إلى الواجهة خلال قمة الرياض لمجلس التعاون الخليجي، التي حضرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. خلال القمة، دعا ترامب الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع إلى الانضمام إلى الاتفاقيات، واصفًا إياه بـ”رجل قوي” يمكنه قيادة سوريا نحو “عمل تاريخي”. اقترح ترامب شروطًا للتطبيع، مثل طرد “الإرهابيين الأجانب” من سوريا وتسليم معتقلي داعش.
رد الشرع كان متحفظًا، حيث أعرب عن اهتمامه “وفقًا للظروف المناسبة”، مما أثار جدلاً. يواجه التطبيع السوري-الإسرائيلي عقبات كبيرة، خاصة بعد الغارات الإسرائيلية على سوريا عقب سقوط نظام بشار الأسد عام 2024، والتي دمرت قدراتها الدفاعية. هذا السياق يُظهر أن الاتفاقيات لا تزال جزءًا من استراتيجية أمريكية لإعادة تشكيل المنطقة، لكنها تواجه مقاومة شعبية وسياسية.
*التأثير على القضية الفلسطينية*
أحد أبرز الانتقادات الموجهة للاتفاقيات هو أنها فصلت التطبيع عن حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. بينما يرى المؤيدون أن التعاون الإقليمي قد يُسهم في الضغط لإيجاد حل مستقبلي، يرى الفلسطينيون والمنتقدون أن الاتفاقيات تُضعف موقفهم وتُشرعن الاحتلال الإسرائيلي. هذا الجدل يعكس التوتر بين المصالح السياسية للدول والالتزام بالقضايا العربية المركزية.
*الاتفاقيات الإبراهيمية شكلت تحولاً كبيراً في العلاقات العربية-الإسرائيلية، حيث كسرت نمط العداء التقليدي وفتحت الباب أمام تعاون دبلوماسي واقتصادي. لكنها أثارت جدلاً عميقًا بسبب تهميش القضية الفلسطينية وتوقيتها الحساس. فهم هذه الاتفاقيات، دوافعها، وتداعياتها، هو خطوة أساسية لمتابعة التغيرات الإقليمية بعقل ناقد. أدعوكم، أيها القراء، للتفكير في تأثير هذه الاتفاقيات على مستقبل المنطقة، مع الحفاظ على التزامنا بالعدالة والحقوق المشروعة، خاصة للشعب الفلسطيني.*
في المقال القادم، سنناقش لماذا اختير اسم النبي إبراهيم لهذه الاتفاقيات، وما الذي يعنيه ذلك.